الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عِنْدَهُ زَمَانًا مُخْتَفِيًا، ثُمَّ عَلِمَ بِهِ الْمَنْصُورُ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ فَسَجَنَهُ، فَلَبِثَ فِي السَّجْنِ تِسْعَ سِنِينَ، ثُمَّ سَقَطَ عَلَيْهِ الْبَيْتُ الَّذِي هُوَ فِيهِ فَمَاتَ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
[ذِكْرُ مَهْلِكِ أَبِي مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيِّ]
فِي هَذِهِ السَّنَةِ ذُكِرَ أَنَّ أَبَا مُسْلِمٍ لَمَّا نَفَرَ النَّاسُ مِنَ الْحَجِيجِ سَبَقَ النَّاسَ بِمَرْحَلَةٍ، فَلَمَّا جَاءَهُ خَبَرُ السَّفَّاحِ فِي الطَّرِيقِ، كَتَبَ إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ يُعَزِّيهِ فِي الْخَلِيفَةِ، وَلَمْ يُهَنِّئْهُ بِالْخِلَافَةِ، وَلَا رَجَعَ إِلَيْهِ، فَغَضِبَ الْمَنْصُورُ مِنْ ذَلِكَ مَعَ مَا كَانَ مُضْمِرًا لَهُ مِنَ السُّوءِ، فَقَالَ لِأَبِي أَيُّوبَ: اكْتُبْ إِلَيْهِ كِتَابًا غَلِيظًا. فَلَمَّا بَلَغَهُ الْكِتَابُ بَعَثَ يُهَنِّئُهُ بِالْخِلَافَةِ، وَانْقَمَعَ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ لِأَبِي جَعْفَرٍ: إِنَّا نَرَى مِنَ الْمَصْلَحَةِ أَنْ لَا تُجَامِعَهُ فِي الطَّرِيقِ; فَإِنَّ مَعَهُ مِنَ الْجُنُودِ مَنْ لَا يُخَالِفُهُ وَهُمْ لَهُ أَهْيَبُ، وَلَيْسَ مَعَكَ أَحَدٌ. فَأَخَذَ بِرَأْيِهِ، ثُمَّ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ فِي مُبَايَعَتِهِ لِأَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ مَا ذَكَرْنَاهُ، ثُمَّ بَعَثَهُ إِلَى عَمِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ فَكَسَرَهُ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ بَعَثَ فِي غُبُونِ ذَلِكَ الْحَسَنُ بْنُ قُحْطُبَةَ لِأَبِي أَيُّوبَ كَاتِبِ رَسَائِلِ الْمَنْصُورِ يُشَافِهُهُ وَيُخْبِرُهُ بِأَنَّ أَبَا مُسْلِمٍ يُتَّهَمُ فِي أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ; فَإِنَّهُ إِذَا جَاءَهُ الْكِتَابُ مِنْهُ يَقْرَؤُهُ ثُمَّ يَلْوِي شِدْقَيْهِ، وَيَرْمِي بِالْكِتَابِ إِلَى أَبِي نَصْرٍ، وَيَضْحَكَانِ اسْتِهْزَاءً، فَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ: إِنَّ تُهْمَةَ أَبِي مُسْلِمٍ عِنْدَنَا أَظْهَرُ مِنْ هَذَا.
وَلَمَّا بَعَثَ أَبُو جَعْفَرٍ مَوْلَاهُ أَبَا الْخَصِيبِ يَقْطِينَ; لِيَحْتَاطَ عَلَى مَا أُصِيبَ مِنْ مُعَسْكَرِ عَبْدِ اللَّهِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْجَوَاهِرِ الثَّمِينَةِ وَغَيْرِهَا، غَضِبَ أَبُو مُسْلِمٍ، فَشَتَمَ أَبَا جَعْفَرٍ، وَهَمَّ بِأَبِي الْخَصِيبِ أَنْ يَقْتُلَهُ، حَتَّى كُلِّمَ فِيهِ وَقِيلَ لَهُ: إِنَّمَا هُوَ رَسُولٌ. فَتَرَكَهُ، وَرَجَعَ أَبُو الْخَصِيبِ، فَأَخْبَرَ الْمَنْصُورَ بِمَا كَانَ، وَبِمَا هَمَّ بِهِ أَبُو مُسْلِمٍ مِنْ قَتْلِهِ، فَغَضِبَ الْمَنْصُورُ، وَخَشِيَ أَنْ يَذْهَبَ أَبُو مُسْلِمٍ إِلَى خُرَاسَانَ فَيَشُقُّ عَلَيْهِ تَحْصِيلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ مَعَ يَقْطِينَ: إِنِّي قَدْ وَلَّيْتُكَ الشَّامَ وَمِصْرَ، وَهُمَا خَيْرٌ مِنْ خُرَاسَانَ فَابْعَثْ إِلَى مِصْرَ مَنْ شِئْتَ، وَأَقِمْ أَنْتَ بِالشَّامِ; لِتَكُونَ أَقْرَبَ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، إِذَا أَرَادَ لِقَاءَكَ كُنْتَ مِنْهُ قَرِيبًا. فَغَضِبَ أَبُو مُسْلِمٍ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: قَدْ وَلَّانِي الشَّامَ وَمِصْرَ، وَلِي خُرَاسَانُ! فَإِذًا أَذْهَبُ إِلَيْهَا، وَأَسْتَخْلِفُ عَلَى الشَّامِ وَمِصْرَ. فَكَتَبَ إِلَى الْمَنْصُورِ بِذَلِكَ، فَقَلِقَ الْمَنْصُورُ مِنْ ذَلِكَ كَثِيرًا، وَرَجَعَ أَبُو مُسْلِمٍ مِنَ الشَّامِ قَاصِدًا خُرَاسَانَ، وَهُوَ عَازِمٌ عَلَى مُخَالَفَةِ الْمَنْصُورِ، فَخَرَجَ الْمَنْصُورُ مِنَ الْأَنْبَارِ إِلَى الْمَدَائِنِ، وَكَتَبَ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ بِالْمَصِيرِ إِلَيْهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَبُو مُسْلِمٍ وَهُوَ عَلَى الزَّابِ عَازِمٌ عَلَى الدُّخُولِ إِلَى خُرَاسَانَ: إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَدُوٌّ إِلَّا أَمْكَنَهُ اللَّهُ مِنْهُ، وَقَدْ كُنَّا نَرْوِي عَنْ مُلُوكِ آلِ سَاسَانَ أَنْ أَخْوَفَ مَا يَكُونُ الْوُزَرَاءُ إِذَا سَكَنَتِ الدَّهْمَاءُ، فَنَحْنُ نَافِرُونَ مِنْ قُرْبِكَ، حَرِيصُونَ عَلَى الْوَفَاءِ بِعَهْدِكَ مَا وَفَّيْتَ، حَرِيُّونَ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ غَيْرَ أَنَّهَا مِنْ بَعِيدٍ حَيْثُ تُقَارِنُهَا السَّلَامَةُ، فَإِنْ أَرْضَاكَ ذَلِكَ فَأَنَا كَأَحْسَنِ عَبِيدِكَ، وَإِنْ أَبَيْتَ إِلَّا أَنْ تُعْطِيَ نَفْسَكَ إِرَادَتَهَا نَقَضْتُ مَا أَبْرَمْتُ مِنْ عَهْدِكَ ضَنًّا بِنَفْسِي. فَلَمَّا وَصَلَ الْكِتَابُ إِلَى الْمَنْصُورِ كَتَبَ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ: قَدْ فَهِمْتُ كِتَابَكَ، وَلَيْسَتْ صِفَتُكَ صِفَةَ أُولَئِكَ الْوُزَرَاءِ الْغَشَشَةِ مُلُوكَهُمُ، الَّذِينَ يَتَمَنَّوْنَ اضْطِرَابَ حَبْلِ الدَّوْلَةِ لِكَثْرَةِ جَرَائِمِهِمْ، وَإِنَّمَا رَاحَتُهُمْ فِي انْتِثَارِ نِظَامِ الْجَمَاعَةِ، فَلِمَ سَوَّيْتَ نَفْسَكَ بِهِمْ، وَأَنْتَ فِي طَاعَتِكَ
وَمُنَاصَحَتِكَ وَاضْطِلَاعِكَ بِمَا حَمَلْتَ مِنْ أَعْبَاءِ هَذَا الْأَمْرِ عَلَى مَا أَنْتَ بِهِ؟! وَلَيْسَ مَعَ الشَّرِيطَةِ الَّتِي أَوْجَبْتَ مِنْكَ سَمْعٌ وَلَا طَاعَةٌ، وَقَدْ حَمَّلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عِيسَى بْنَ مُوسَى رِسَالَةً لِتَسْكُنَ إِلَيْهَا إِنْ أَصْغَيْتَ إِلَيْهَا، وَأَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَحُولَ بَيْنَ الشَّيْطَانِ وَنَزَغَاتِهِ وَبَيْنَكَ; فَإِنَّهُ لَمْ يَجِدْ بَابًا يُفْسِدُ بِهِ نِيَّتَكَ أَوْكَدَ عِنْدَهُ وَأَقْرَبَ مِنْ ظَنِّهِ مِنَ الْبَابِ الَّذِي فَتَحَهُ عَلَيْكَ.
وَيُقَالُ: إِنَّ أَبَا مُسْلِمٍ كَتَبَ إِلَى الْمَنْصُورِ: أَمَّا بَعْدُ; فَإِنِّي اتَّخَذْتُ رَجُلًا إِمَامًا وَدَلِيلًا عَلَى مَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَى خَلْقِهِ، وَكَانَ فِي مَحَلَّةِ الْعِلْمِ نَازِلًا، وَفِي قَرَابَتِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَرِيبًا، فَاسْتَجْهَلَنِي بِالْقُرْآنِ، فَحَرَّفَهُ عَنْ مَوَاضِعِهِ طَمَعًا فِي قَلِيلٍ قَدْ نَعَاهُ اللَّهُ إِلَى خَلْقِهِ، فَكَانَ كَالَّذِي دُلِّيَ بِغُرُورٍ، وَأَمَرَنِي أَنْ أُجَرِّدَ السَّيْفَ، وَأَرْفَعَ الرَّحْمَةَ، وَلَا أَقْبَلَ الْمَعْذِرَةَ، وَلَا أُقِيلَ الْعَثْرَةَ، فَفَعَلْتُ تَوْطِيدًا لِسُلْطَانِكُمْ حَتَّى عَرَّفَكُمُ اللَّهُ مَنْ كَانَ يَجْهَلُكُمْ، ثُمَّ اسْتَنْقَذَنِي اللَّهُ بِالتَّوْبَةِ، فَإِنْ يَعْفُ عَنِّي فَقِدْمًا عُرِفَ بِهِ وَنُسِبَ إِلَيْهِ، وَإِنْ يُعَاقِبْنِي فَبِمَا قَدَّمَتْ يَدَايَ، وَمَا اللَّهُ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ. ذَكَرَهُ الْمَدَائِنِيُّ عَنْ شُيُوخِهِ.
وَبَعَثَ الْمَنْصُورُ إِلَيْهِ جَرِيرَ بْنَ يَزِيدَ بْنِ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيَّ - وَكَانَ وَاحِدَ أَهْلِ زَمَانِهِ - فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ، وَقَدْ كَانَ الْمَنْصُورُ قَالَ لَهُ: كَلِّمْ أَبَا مُسْلِمٍ
بِأَلْيَنِ كَلَامٍ تَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَقُلْ لَهُ: إِنَّهُ يُرِيدُ رَفْعَكَ، وَعُلُوَّ قَدْرِكَ، وَالْإِطْلَاقَ لَكَ. فَإِنْ جَاءَ بِهَذَا فَذَاكَ، وَإِنْ أَبَى أَنْ يَرْجِعَ فَقُلْ: إِنَّهُ يَقُولُ: هُوَ بَرِيءٌ مِنَ الْعَبَّاسِ، إِنْ شَقَقْتَ الْعَصَا وَذَهَبْتَ عَلَى وَجْهِكَ هَذَا لَيُدْرِكَنَّكَ بِنَفْسِهِ وَلَيَلِيَنَّ قِتَالَكَ دُونَ غَيْرِهِ، وَلَوْ خُضْتَ الْبَحْرَ الْخِضَمَّ لَخَاضَهُ خَلْفَكَ حَتَّى يُدْرِكَكَ فَيَقْتُلَكَ أَوْ يَمُوتَ قَبْلَ ذَلِكَ. وَلَا تَقُلْ لَهُ هَذَا حَتَّى تَيْأَسَ مِنْ رُجُوعِهِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ أُمَرَاءُ الْمَنْصُورِ بِحُلْوَانَ دَخَلُوا عَلَيْهِ وَلَامُوهُ فِيمَا هُوَ فِيهِ مِنْ مُنَابَذَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَرَغَّبُوهُ فِي الرُّجُوعِ إِلَيْهِ، فَشَاوَرَ ذَوِي الرَّأْيِ مِنْ أُمَرَائِهِ، فَكُلٌّ نَهَاهُ عَنِ الرُّجُوعِ إِلَيْهِ، وَأَشَارُوا بِأَنْ يُقِيمَ فِي الرَّيِّ فَتَكُونَ خُرَاسَانُ تَحْتَ حُكْمِهِ، وَجُنُودُهُ طَوْعٌ لَهُ، فَإِنِ اسْتَقَامَ لَهُ الْخَلِيفَةُ وَإِلَّا كَانَ فِي عِزٍّ وَمَنَعَةٍ مِنَ الْجُنْدِ. فَأَرْسَلَ أَبُو مُسْلِمٍ إِلَى أُمَرَاءِ الْمَنْصُورِ، فَقَالَ لَهُمُ: ارْجِعُوا إِلَى صَاحِبِكُمْ، فَلَسْتُ أَلْقَاهُ. فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ قَالُوا لَهُ ذَلِكَ الْكَلَامَ الَّذِي كَانَ الْمَنْصُورُ أَمَرَهُمْ بِهِ. فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ كَسَرَهُ جِدًّا، وَقَالَ: قُومُوا عَنِّي السَّاعَةَ.
وَكَانَ أَبُو مُسْلِمٍ قَدِ اسْتَخْلَفَ عَلَى خُرَاسَانَ أَبَا دَاوُدَ خَالِدَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْمَنْصُورُ فِي غَيْبَةِ أَبِي مُسْلِمٍ حِينَ اتَّهَمَهُ: إِنَّ وِلَايَةَ خُرَاسَانَ لَكَ مَا بَقِيتَ. فَكَتَبَ أَبُو دَاوُدَ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ حِينَ بَلَغَهُ مَا عَزَمَ عَلَيْهِ مِنْ مُنَابَذَةِ الْخَلِيفَةِ: إِنَّهُ لَيْسَ لَنَا مُنَابَذَةُ خُلَفَاءِ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَارْجِعْ إِلَى إِمَامِكَ سَامِعًا مُطِيعًا. فَزَادَهُ ذَلِكَ كَسْرًا أَيْضًا، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ أَبُو مُسْلِمٍ: إِنِّي سَأَبْعَثُ إِلَيْهِ أَبَا إِسْحَاقَ،
وَهُوَ مِمَّنْ أَثِقُ بِهِ. فَبَعَثَهُ إِلَيْهِ فَأَكْرَمَهُ، وَوَعَدَهُ بِنِيَابَةِ خُرَاسَانَ إِنْ هُوَ رَدَّهُ. فَلَمَّا رَجَعَ إِلَيْهِ أَبُو إِسْحَاقَ قَالَ لَهُ: مَا وَرَاءَكَ؟ قَالَ: رَأَيْتُهُمْ مُعَظِّمِينَ لَكَ يَعْرِفُونَ قَدْرَكَ. فَغَرَّهُ ذَلِكَ، وَعَزَمَ عَلَى الذَّهَابِ إِلَى الْخَلِيفَةِ، فَاسْتَشَارَ أَمِيرًا يُقَالُ لَهُ: نَيْزَكُ. فَنَهَاهُ، فَصَمَّمَ عَلَى الذَّهَابِ، فَلَمَّا رَآهُ نَيْزَكُ عَازِمًا عَلَى الذَّهَابِ تَمَثَّلَ نَيْزَكُ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:
مَا لِلرِّجَالِ مَعَ الْقَضَاءِ مَحَالَةٌ
…
ذَهَبَ الْقَضَاءُ بِحِيلَةِ الْأَقْوَامِ
ثُمَّ قَالَ لَهُ: احْفَظْ عَنِّي وَاحِدَةً. قَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: إِذَا دَخَلْتَ عَلَيْهِ فَاقْتُلْهُ، ثُمَّ بَايِعْ مَنْ شِئْتَ بِالْخِلَافَةِ; فَإِنَّ النَّاسَ لَا يُخَالِفُونَكَ. وَكَتَبَ أَبُو مُسْلِمٍ إِلَى الْمَنْصُورِ يُعْلِمُهُ بِقُدُومِهِ عَلَيْهِ.
قَالَ أَبُو أَيُّوبَ كَاتِبُ الرَّسَائِلِ: فَدَخَلْتُ عَلَى الْمَنْصُورِ وَهُوَ فِي خِبَاءِ شِعْرٍ بِالرُّومِيَّةِ جَالِسًا عَلَى مُصَلَّاهُ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ كِتَابٌ، فَأَلْقَاهُ إِلَيَّ فَإِذَا هُوَ كِتَابُ أَبِي مُسْلِمٍ إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ الْخَلِيفَةُ: وَاللَّهِ لَئِنْ مَلَأْتُ عَيْنِي مِنْهُ لِأَقْتُلَنَّهُ. قَالَ أَبُو أَيُّوبَ: فَقُلْتُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَبِتُّ تِلْكَ اللَّيْلَةَ لَا يَأْتِينِي نَوْمٌ، وَفَكَّرْتُ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ، وَقُلْتُ: إِنْ دَخَلَ أَبُو مُسْلِمٍ خَائِفًا رُبَّمَا يَبْدُو أَنَّهُ يَبْدُرُ مِنْهُ شَيْءٌ إِلَى الْخَلِيفَةِ، وَالْمَصْلَحَةُ أَنْ يَدْخُلَ آمِنًا لِيَتَمَكَّنَ مِنْهُ الْخَلِيفَةُ. فَلَمَّا أَصْبَحْتُ طَلَبْتُ رَجُلًا مِنَ الْأُمَرَاءِ، وَقُلْتُ لَهُ: هَلْ لَكَ أَنْ تَتَوَلَّى مَدِينَةَ كَسْكَرٍ; فَإِنَّهَا مُغِلَّةٌ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ؟ فَقَالَ: وَمَنْ لِي بِذَلِكَ؟ فَقُلْتُ لَهُ: فَاذْهَبْ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ، فَتَلَقَّهُ فِي الطَّرِيقِ، فَاطْلُبْ مِنْهُ أَنْ يُوَلِّيَكَ تِلْكَ الْبَلَدَ; فَإِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يُرِيدُ أَنْ يُوَلِّيَهُ مَا وَرَاءَ بَابِهِ وَيَسْتَرِيحَ لِنَفْسِهِ. وَاسْتَأْذَنْتُ الْمَنْصُورَ لَهُ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ، فَأَذِنَ لَهُ، وَقَالَ لَهُ: سَلِّمْ عَلَيْهِ، وَقُلْ لَهُ: إِنَّا بِالْأَشْوَاقِ إِلَيْهِ. فَسَارَ ذَلِكَ الرَّجُلُ - وَهُوَ سَلَمَةُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ جَابِرٍ - إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ، فَأَخْبَرَهُ بِاشْتِيَاقِ الْخَلِيفَةِ إِلَيْهِ فَسَرَّهُ ذَلِكَ وَانْشَرَحَ، وَإِنَّمَا هُوَ غُرُورٌ وَمَكْرٌ بِهِ، فَلَمَّا سَمِعَ أَبُو مُسْلِمٍ بِذَلِكَ عَجَّلَ السَّيْرَ، فَلَمَّا قَرُبَ مِنَ الْمَدَائِنِ أَمَرَ الْخَلِيفَةُ الْقَوَّادَ وَالْأُمَرَاءَ أَنْ يَتَلَقَّوْهُ، وَكَانَ دُخُولُهُ عَلَى الْمَنْصُورِ مِنْ آخِرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَقَدْ أَشَارَ أَبُو أَيُّوبَ عَلَى الْمَنْصُورِ أَنْ يُؤَخِّرَ قَتْلَهُ فِي سَاعَتِهِ هَذِهِ إِلَى الْغَدِ، فَقَبِلَ ذَلِكَ مِنْهُ، فَلَمَّا دَخَلَ أَبُو مُسْلِمٍ عَلَى الْمَنْصُورِ مِنَ الْعَشِيِّ، قَالَ: اذْهَبْ فَأَرِحْ نَفْسَكَ، وَادْخُلِ الْحَمَّامَ، فَإِذَا كَانَ الْغَدُ فَأْتِنِي. فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ، وَجَاءَهُ النَّاسُ يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ طَلَبَ الْخَلِيفَةُ بَعْضَ الْأُمَرَاءِ، فَقَالَ لَهُ: كَيْفَ بَلَائِي عِنْدَكَ؟ قَالَ: وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَوْ أَمَرْتَنِي أَنْ أَقْتُلَ نَفْسِي لَقَتَلْتُهَا. قَالَ: فَكَيْفَ بِكَ إِذَا أَمَرْتُكَ بِقَتْلِ أَبِي مُسْلِمٍ؟ قَالَ: فَوَجَمَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ لَهُ أَبُو أَيُّوبَ: مَا لَكَ لَا تَتَكَلَّمُ؟ فَقَالَ قَوْلَةً ضَعِيفَةً: أَقْتُلُهُ. ثُمَّ اخْتَارَ لَهُ مِنْ عُيُونِ الْحَرَسِ أَرْبَعَةً، فَحَرَّضَهُمُ الْخَلِيفَةُ عَلَى قَتْلِهِ، وَقَالَ: كُونُوا مِنْ وَرَاءِ الرِّوَاقِ، فَإِذَا صَفَّقْتُ فَاخْرُجُوا عَلَيْهِ فَاقْتُلُوهُ. ثُمَّ أَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ رُسُلًا تَتْرَى; يَتْبَعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَأَقْبَلَ أَبُو مُسْلِمٍ فَدَخَلَ دَارَ الْخِلَافَةِ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَى الْخَلِيفَةِ وَهُوَ يَبْتَسِمُ، فَلَمَّا وَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ جَعَلَ الْمَنْصُورُ يُعَاتِبُهُ فِي الَّذِي صَنَعَ
وَاحِدَةً وَاحِدَةً، فَيَعْتَذِرُ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ فِيمَا كَانَ اعْتَمَدَهُ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تَسَرَّعَ فِيهَا. ثُمَّ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَرْجُو أَنْ تَكُونَ نَفْسُكَ قَدْ طَابَتْ عَلَيَّ. فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا زَادَنِي هَذَا إِلَّا غَضَبًا عَلَيْكَ. ثُمَّ ضَرَبَ بِإِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى، فَخَرَجَ عُثْمَانُ وَأَصْحَابُهُ، فَضَرَبُوهُ بِالسُّيُوفِ حَتَّى قَتَلُوهُ، وَلَفُّوهُ فِي عَبَاءَةٍ، ثُمَّ أَمَرَ بِإِلْقَائِهِ فِي دِجْلَةَ، وَكَانَ آخِرَ الْعَهْدِ بِهِ، وَكَانَ مَقْتَلُهُ فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ لِأَرْبَعٍ بَقِينَ مِنْ شَعْبَانَ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ.
وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَا عَاتَبَهُ بِهِ الْمَنْصُورُ أَنَّهُ قَالَ: كَتَبْتَ إِلَيَّ مَرَّاتٍ تَبْدَأُ بِنَفْسِكَ، وَأَرْسَلْتَ تَخْطُبُ عَمَّتِي أَمِينَةَ، وَتَزْعُمُ أَنَّكَ ابْنُ سُلَيْطِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. فَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَا يُقَالُ هَذَا لِي وَقَدْ سَعَيْتُ فِي أَمْرِكُمْ بِمَا عَلِمَهُ كُلُّ أَحَدٍ. فَقَالَ: وَيْلَكَ! لَوْ قَامَتْ فِي ذَلِكَ أَمَةٌ سَوْدَاءُ لَأَتَمَّهُ اللَّهُ; لِجَدِّنَا وَحَظِّنَا. ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ لَأَقْتُلَنَّكَ. فَقَالَ: اسْتَبْقِنِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لِأَعْدَائِكَ. فَقَالَ: وَأَيُّ عَدُوٍّ لِي أَعْدَى مِنْكَ؟! ثُمَّ أَمَرَ بِقَتْلِهِ فَقُتِلَ، كَمَا ذَكَرْنَا، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، الْآنَ صِرْتَ خَلِيفَةً. وَيُقَالُ: إِنَّ الْمَنْصُورَ أَنْشَدَ عِنْدَ ذَلِكَ: