الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صنيع حسن إن شاء الله.
وفيها صادر المقتدر أبا علي بن الْجَصَّاصِ بِسِتَّةَ عَشَرَ أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ (1) غَيْرَ الآنية والثياب الثمينة.
وفيها أدخل الخليفة أَوْلَادَهُ إِلَى الْمَكْتَبِ وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا.
وَفِيهَا بَنَى الْوَزِيرُ الْمَارَسْتَانَ بِالْحَرْبِيَّةِ مِنْ بَغْدَادَ، وَأَنْفَقَ عليه أموالاً جزيلة، جَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا الْفَضْلُ الهاشمي.
وقطعت الأعراب (2) وطائفة من القرامطة الطريقين على الراجعين من الحجيج، وأخذوا منهم أمولا كَثِيرَةً، وَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا وَأَسَرُوا أَكْثَرَ مِنْ مِائَتَيِ (3) امْرَأَةٍ حُرَّةٍ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجعون.
وفيها توفي
مِنَ الْأَعْيَانِ..بِشْرُ بْنُ نَصْرِ بْنِ مَنْصُورٍ أَبُو الْقَاسِمِ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، مِنْ أَهْلِ مِصْرَ يُعْرَفُ بِغُلَامِ عَرَق، وَعِرْقٌ خَادِمٌ مِنْ خُدَّامِ السُّلْطَانِ كَانَ يَلِي الْبَرِيدَ، فَقَدِمَ مَعَهُ بِهَذَا الرجل مصر فأقام بها حتى مات بها.
بِدْعَةُ جَارِيَةُ عُرَيْبَ الْمُغَنِّيَةِ، بُذِلَ لِسَيِّدَتِهَا فِيهَا مائة ألف دينار وعشرون ألفا دينار من بعض من رغب فيها من الخلفاء فعرض ذَلِكَ عَلَيْهَا فَكَرِهَتْ مُفَارَقَةَ سَيِّدَتِهَا، فَأَعْتَقَتْهَا سَيِّدَتُهَا في موتها، وَتَأَخَّرَتْ وَفَاتُهَا إِلَى هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ تَرَكَتْ من المال الْعَيْنِ وَالْأَمْلَاكِ مَا لَمْ يَمْلِكْهُ رَجُلٌ.
الْقَاضِي أَبُو زُرْعَةَ مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ الشَّافِعِيُّ قَاضِي مِصْرَ ثُمَّ دِمَشْقَ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ حَكَمَ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ بِالشَّامِ وَأَشَاعَهُ بِهَا وَقَدْ كَانَ أَهْلُ الشَّام عَلَى مَذْهَبِ الْأَوْزَاعِيِّ مِنْ حِينِ مَاتَ إِلَى هَذِهِ السَّنَةِ.
وَثَبَتَ عَلَى مَذْهَبِ الْأَوْزَاعِيِّ بَقَايَا كَثِيرُونَ لَمْ يُفَارِقُوهُ، وَكَانَ ثِقَةً عَدْلًا مِنْ سَادَاتِ الْقُضَاةِ، وَكَانَ أَصْلُهُ مِنْ أهل الكتاب من الْيَهُودِ، ثُمَّ أَسَلَمَ
وَصَارَ إِلَى مَا صَارَ إِلَيْهِ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا تَرْجَمَتَهُ فِي طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ فِيهَا وَقَفَ الْمُقْتَدِرُ بِاللَّهِ أَمْوَالًا جَزِيلَةً وَضِيَاعًا عَلَى الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ، وَاسْتَدْعَى بِالْقُضَاةِ وَالْأَعْيَانِ، وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا وَقَفَهُ مِنْ ذَلِكَ
.
وَفِيهَا قُدِمَ إِلَيْهِ بجماعة من الاسرى من الأعراب الذين كانوا قد اعتدوا على الحجيج، فلم يتمالك العامة أن اعتدوا عَلَيْهِمْ فَقَتَلُوهُمْ، فَأُخِذَ بَعْضُهُمْ فَعُوقِبَ لِكَوْنِهِ افْتَاتَ عَلَى السُّلْطَانِ.
وَفِيهَا وَقَعَ حَرِيقٌ شَدِيدٌ فِي سوق النجارين ببغداد فأحرق السوق
(1) في ابن الاثير 8 / 86 ونهاية الارب 23 / 40: أربعة آلاف ألف دينار، وفي الطبري 12 / 25: ستة آلاف ألف دينار، وفي مروج الذهب 4 / 348: خمسة آلاف ألف وخمسمائة ألف دينار.
(2)
في الطبري وابن الاثير: اعراب من الحاجر.
(3)
في الطبري 11 / 409: مائتين وثمانين، وفي ابن الاثير 8 / 90: مائتين وخمسين (*) .
بكماله، وفي ذي الحجة منها مرض المقتدر ثلاث عَشَرَ يَوْمًا، وَلَمْ يَمْرَضْ فِي خِلَافَتِهِ مَعَ طُولِهَا إِلَّا هَذِهِ الْمَرْضَةَ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا الفضل الهاشمي، ولما خاف الوزير على الحجاج القرامطة كتب إليهم رسالة ليشغلهم بها، فَاتَّهَمَهُ بَعْضُ الْكُتَّابِ بِمُرَاسِلَتِهِ الْقَرَامِطَةَ، فَلَمَّا انْكَشَفَ أمره وما قصده حظي بذلك عند الناس جداً.
وممن توفي من الأعيان..النسائي أحمد بن علي ابن شُعَيْبِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ سِنَانِ بْنِ بَحْرِ بْنِ دِينَارٍ، أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيُّ صَاحِبُ السُّنَنِ، الْإِمَامُ فِي عَصْرِهِ وَالْمُقَدَّمُ عَلَى أَضْرَابِهِ وَأَشْكَالِهِ وَفُضَلَاءِ دَهْرِهِ، رَحَلَ إِلَى الْآفَاقِ، وَاشْتَغَلَ بِسَمَاعِ الْحَدِيثِ وَالِاجْتِمَاعِ بِالْأَئِمَّةِ الْحُذَّاقِ، وَمَشَايِخُهُ الَّذِينَ رَوَى عَنْهُمْ مُشَافَهَةً.
قَدْ ذَكَرْنَاهُمْ فِي كِتَابِنَا التكميل وَتَرْجَمْنَاهُ أَيْضًا هُنَالِكَ، وَرَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَقَدْ جَمَعَ السُّنَنَ الْكَبِيرَ، وَانْتَخَبَ مِنْهُ مَا هُوَ أَقَلُّ حَجْمًا مِنْهُ بِمَرَّاتٍ.
وَقَدْ وَقَعَ لي سماعهما.
وَقَدْ أَبَانَ فِي تَصْنِيفِهِ عَنْ حِفْظٍ وَإِتْقَانٍ وصدق وإيمان
وَعَلَمٍ وَعِرْفَانٍ.
قَالَ الْحَاكِمُ عَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ: أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيُّ مُقَدَّمٌ عَلَى كُلِّ مَنْ يُذْكَرُ بِهَذَا الْعِلْمِ مَنْ أَهْلِ عَصْرِهِ، وَكَانَ يُسَمِّي كِتَابَهُ الصَّحِيحَ.
وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْحَافِظُ: للنسائي شرط في الرجل أَشَدَّ مِنْ شَرْطِ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ، وَكَانَ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ.
وَقَالَ أَيْضًا: هُوَ الْإِمَامُ فِي الْحَدِيثِ بِلَا مُدَافَعَةٍ.
وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ محمد بن مظفر الْحَافِظُ: سَمِعْتُ مَشَايِخَنَا بِمِصْرَ يَعْتَرِفُونَ لَهُ بِالتَّقَدُّمِ وَالْإِمَامَةِ، وَيَصِفُونَ مِنَ اجْتِهَادِهِ فِي الْعِبَادَةِ بِاللَّيْلِ والنهار ومواظبته على الحج والجهاد.
وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا، وكان لَهُ أَرْبَعُ زَوْجَاتٍ وَسُرِّيَّتَانِ، وَكَانَ كَثِيرَ الْجِمَاعِ، حَسَنَ الْوَجْهِ مُشْرِقَ اللَّوْنِ.
قَالُوا: وَكَانَ يَقْسِمُ لِلْإِمَاءِ كَمَا يَقْسِمُ لِلْحَرَائِرِ.
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: كَانَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَدَّادِ كَثِيرَ الْحَدِيثِ وَلَمْ يرو عَنْ أَحَدٍ سِوَى النَّسَائِيِّ وَقَالَ: رَضِيتُ بِهِ حُجَّةً فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ اللَّهِ عز وجل.
وَقَالَ ابْنُ يُونُسَ: كَانَ النَّسَائِيُّ إِمَامًا فِي الحديث ثقة ثبتاً حافظاً، كان خُرُوجُهُ مِنْ مِصْرَ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِمِائَةٍ.
وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: سَمِعْتُ مَنْصُورًا الْفَقِيهَ وَأَحْمَدَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَامَةَ الطَّحَاوِيَّ يَقُولَانِ: أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيُّ إِمَامٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَذَلِكَ أَثْنَى عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَشَهِدُوا لَهُ بِالْفَضْلِ وَالتَّقَدُّمِ فِي هَذَا الشَّأْنِ.
وَقَدْ وَلِيَ الْحُكْمَ بِمَدِينَةِ حِمْصَ.
سَمِعْتُهُ مِنْ شيخنا المزي عَنْ رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ فِي مُعْجَمِهِ الْأَوْسَطِ حَيْثُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ الْحَاكِمُ بِحِمْصَ.
وَذَكَرُوا أَنَّهُ كَانَ لَهُ مِنَ النِّسَاءِ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ، وَكَانَ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، وَجْهُهُ كَأَنَّهُ قِنْدِيلٌ، وَكَانَ يَأْكُلُ فِي كُلِّ يَوْمٍ دِيكًا وَيَشْرَبُ عَلَيْهِ نَقِيعَ الزَّبِيبِ الْحَلَالَ، وَقَدْ قِيلَ عنه: أنَّه كان ينسب إليه شئ مِنَ التَّشَيُّعِ.
قَالُوا: وَدَخَلَ إِلَى دِمَشْقَ فَسَأَلَهُ أهلها أن يحدثهم بشئ مِنْ فَضَائِلِ مُعَاوِيَةَ فَقَالَ: أَمَا يَكْفِي مُعَاوِيَةَ أَنْ يَذْهَبَ رَأْسًا بِرَأْسٍ حَتَّى يُرْوَى لَهُ فضائل؟ فقاموا إليه فجعلوا يطعنون في خصيتيه (1) حتى أخرج من
(1) في رواية 1 / 77: يدفعون في حضنه حتى أخرجوه من المسجد (*) .
المسجد الجامع، فسار من عندهم إلى مَكَّةَ فَمَاتَ بِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَبْرُهُ بِهَا هَكَذَا حَكَاهُ الْحَاكِمُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الْأَصْبَهَانِيِّ عَنْ مَشَايِخِهِ.
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: كَانَ أَفْقَهَ مَشَايِخِ مِصْرَ فِي عَصْرِهِ، وَأَعْرَفَهُمْ بِالصَّحِيحِ من السقيم مِنَ الْآثَارِ، وَأَعْرَفَهُمْ بِالرِّجَالِ، فَلَمَّا بَلَغَ هَذَا الْمَبْلَغَ حَسَدُوهُ فَخَرَجَ إِلَى
الرَّمْلَةِ، فَسُئِلَ عَنْ فَضَائِلِ مُعَاوِيَةَ فَأَمْسَكَ عَنْهُ فَضَرَبُوهُ فِي الْجَامِعِ، فَقَالَ: أَخْرِجُونِي إِلَى مَكَّةَ، فَأَخْرَجُوهُ وَهُوَ عَلِيلٌ، فتوفي بمكة مقتولاً شهيداً، مع ما رزق مِنَ الْفَضَائِلِ رُزِقَ الشَّهَادَةَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ، مَاتَ بِمَكَّةَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ.
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْغَنِيِّ بْنِ نقطة في تقييده ومن خطِّه نقلت ومن خَطِّ أَبِي عَامِرٍ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدُونَ الْعَبْدَرِيِّ الْحَافِظِ: مَاتَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيُّ بِالرَّمْلَةِ مَدِينَةِ فِلَسْطِينَ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ صَفَرٍ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَدُفِنَ ببيت المقدس.
وحكى ابن خلكان: أَنَّهُ تُوُفِّيَ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا صَنَّفَ الْخَصَائِصَ فِي فَضْلِ عَلِيٍّ وَأَهْلِ الْبَيْتِ، لِأَنَّهُ رَأَى أَهْلَ دِمَشْقَ حِينَ قَدِمَهَا فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِمِائَةٍ عِنْدَهُمْ نُفْرَةٌ مِنْ عَلِيٍّ، وَسَأَلُوهُ عَنْ مُعَاوِيَةَ فَقَالَ مَا قال، فدققوه في خصيتيه فَمَاتَ.
وَهَكَذَا ذَكَرَ ابْنُ يُونُسَ وَأَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ: أَنَّهُ تُوُفِّيَ بِفِلَسْطِينَ فِي صِفْرٍ مِنْ هذه السَّنة، وكان مولده فِي (1) سَنَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ أَوْ أَرْبَعَ عَشْرَةَ ومائتين تقريباً عن قوله، فَكَانَ عُمُرُهُ ثَمَانِيًا وَثَمَانِينَ سَنَةً.
الْحَسَنُ بْنُ سفيان ابن عَامِرِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ عَطَاءٍ، أَبُو الْعَبَّاسِ الشَّيْبَانِيُّ النِّسْوِيُّ، مُحَدِّثُ خُرَاسَانَ، وقد كان يضرب إليه آباط الإبل فِي مَعْرِفَةِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ.
رَحَلَ إِلَى الْآفَاقِ وَتَفَقَّهَ عَلَى أَبِي ثَوْرٍ، وَكَانَ يُفْتِي بِمَذْهَبِهِ، وَأَخَذَ الْأَدَبَ عَنْ أَصْحَابِ النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ، وَكَانَتْ إِلَيْهِ الرِّحْلَةُ بِخُرَاسَانَ.
وَمِنْ غَرِيبِ مَا اتَّفَقَ لَهُ: أَنَّهُ كَانَ هُوَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أصحابه بمصر في رحلتهم إلى الْحَدِيثِ، فَضَاقَ عَلَيْهِمُ الْحَالُ حَتَّى مَكَثُوا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا يَأْكُلُونَ فِيهَا شَيْئًا، وَلَا يَجِدُونَ مَا يَبِيعُونَهُ لِلْقُوتِ، وَاضْطَرَّهُمُ الْحَالُ إِلَى تَجَشُّمِ السُّؤَالِ، وَأَنِفَتْ أَنْفُسُهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَعَزَّتْ عَلَيْهِمْ وَامْتَنَعَتْ كُلَّ الِامْتِنَاعِ، وَالْحَاجَةُ تَضْطَرُّهُمْ إِلَى تَعَاطِي ذَلِكَ، فَاقْتَرَعُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ أَيَهُمْ يَقُومُ بِأَعْبَاءِ هَذَا الْأَمْرِ، فَوَقَعَتِ الْقَرْعَةُ عَلَى الْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ هَذَا، فَقَامَ عَنْهُمْ فَاخْتَلَى فِي زَاوِيَةِ الْمَسْجِدِ الَّذِي هُمْ فِيهِ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ أَطَالَ فِيهِمَا وَاسْتَغَاثَ بِاللَّهِ عز وجل، وَسَأَلَهُ بِأَسْمَائِهِ الْعِظَامِ، فَمَا انْصَرَفَ مِنَ الصَّلَاةِ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِمُ الْمَسْجِدَ شَابٌّ حَسَنُ الْهَيْئَةِ مَلِيحُ الْوَجْهِ فَقَالَ: أَيْنَ الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ؟ فَقُلْتُ: أَنَا.
فَقَالَ: الْأَمِيرُ طُولُونَ يَقْرَأُ عَلَيْكُمُ السَّلَامَ وَيَعْتَذِرُ إِلَيْكُمْ فِي تَقْصِيرِهِ عَنْكُمْ، وَهَذِهِ مِائَةُ دِينَارٍ لِكُلٍّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ.
فَقُلْنَا
لَهُ: مَا الْحَامِلُ لَهُ عَلَى ذَلِكَ؟ فَقَالَ: إِنَّهُ أَحَبَّ أَنْ يَخْتَلِيَ الْيَوْمَ بِنَفْسِهِ، فَبَيْنَمَا هُوَ الْآنَ نَائِمٌ إِذْ جَاءَهُ فَارِسٌ فِي الْهَوَاءِ بِيَدِهِ رُمْحٌ فدخل عليه منزله وَوَضَعَ عَقِبَ الرُّمْحِ فِي خَاصِرَتِهِ فَوَكَزَهُ وَقَالَ: قم فأدرك
(1) ولد في نسأ وهي مدينة بخراسان خرج منها جماعة من الأعيان (*) .
الْحَسَنَ بْنَ سُفْيَانَ وَأَصْحَابَهُ، قُمْ فَأَدْرِكْهُمْ، قُمْ فأدركهم، فإنهم منذ ثلاث جِيَاعٌ فِي الْمَسْجِدِ الْفُلَانِيِّ.
فَقَالَ لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ أَنَا رِضْوَانٌ خَازِنُ الْجَنَّةِ.
فَاسْتَيْقَظَ الْأَمِيرُ وَخَاصِرَتُهُ تُؤْلِمُهُ أَلَمًا شَدِيدًا، فَبَعَثَ بِالنَّفَقَةِ فِي الْحَالِ إِلَيْكُمْ.
ثُمَّ جَاءَ لِزِيَارَتِهِمْ وَاشْتَرَى ما حول ذلك المجلس وَوَقَفَهُ عَلَى الْوَارِدِينَ عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ، جَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا.
وَقَدْ كَانَ الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ رحمه الله مِنْ أَئِمَّةِ هَذَا الشَّأْنِ وَفُرْسَانِهِ وَحُفَّاظِهِ، وَقَدِ اجْتَمَعَ عِنْدَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الحفاظ منهم ابن جرير الطبري وغيره، فقرأوا عَلَيْهِ شَيْئًا مِنَ الْحَدِيثِ وَجَعَلُوا يَقْلِبُونَ الْأَسَانِيدَ لِيَسْتَعْلِمُوا مَا عِنْدَهُ مِنَ الْعِلْمِ فَمَا قَلَبُوا شيئاً من الإسناد إِلَّا رَدَّهُمْ فِيهِ إِلَى الصَّوَابِ، وَعُمُرُهُ إِذْ ذاك سبعون سَنَةً، وَهُوَ فِي هَذَا السِّنِّ حَافِظٌ ضَابِطٌ لا يشذ عنه شئ مِنْ حَدِيثِهِ.
وَمِنْ فَوَائِدِهِ الْعَبْسِيُّ كُوفِيٌّ، وَالْعَيْشِيُّ بَصْرِيٌّ، وَالْعَنْسِيُّ مِصْرِيٌّ (1) .
رُوَيْمُ بْنُ أَحْمَدَ وَيُقَالُ ابن محمد بْنِ رُوَيْمِ بْنِ يَزِيدَ، أَبُو الْحَسَنِ، وَيُقَالُ أَبُو مُحَمَّدٍ، أَحَدُ أَئِمَّةِ الصُّوفِيَّةِ، كَانَ عَالِمًا بالقرآن ومعانيه، وكان يتفقه عَلَى مَذْهَبِ دَاوُدَ بْنِ عَلِيٍّ الظَّاهِرِيِّ، قَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ رُوَيْمٌ يَكْتُمُ حُبَّ الدُّنْيَا أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ تَصَوَّفَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، ثُمَّ لَمَّا وَلِيَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَضَاءَ بِبَغْدَادَ جَعَلَهُ وَكِيلًا فِي بَابِهِ، فَتَرَكَ التَّصَوُّفَ وَلَبِسَ الخز والقصب والديبقى وَرَكِبَ الْخَيْلَ وَأَكَلَ الطَّيِّبَاتِ وَبَنَى الدُّورَ.
زُهَيْرُ بن صالح بن الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رَوَى عَنْ أَبِيهِ وَعَنْهُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ النَّجَّادُ، كان ثقة، مات وهو شاب، قاله الدارقطني.
أبو علي الجبائي
شيخ المعتزلة، واسمه محمد بن عبد الوهاب أبو علي الجبائي شيخ طائفة الاعتزال فِي زَمَانِهِ، وَعَلَيْهِ اشْتَغَلَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ، وَلِلْجُبَّائِيِّ تَفْسِيرٌ حَافِلٌ مُطَوَّلٌ، لَهُ فِيهِ اخْتِيَارَاتٌ غَرِيبَةٌ فِي التَّفسير، وَقَدْ رد عليه الأشعري فيه وقال: وكأن القرآن نزل في لغة أهل جباء (2) .
كان مولده فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَمَاتَ فِي هذه السنة.
(1) مات في رمضان بقرية بالور وهي على ثلاثة فراسخ من نسأ - إحدى مدن خراسان.
(2)
كذا بالاصل، وفي معجم البلدان جبى بالضم والتشديد والقصر: بلد أو كورة من عمل خوزستان.
وفي ابن خلكان عن ابن حوقل: جبى: مدينة ورستاق عريض مشتبك العمائر بالنخل وقصب السكر وغيرهما (*) .
أبو الحسن بن بسام الشاعر واسمه عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ (1) بْنِ مَنْصُورِ (2) بْنِ نَصْرِ بْنِ بَسَّامٍ الْبَسَّامِيُّ الشَّاعِرُ الْمُطْبِقُ لِلْهِجَاءِ، فَلَمْ يَتْرُكْ أَحَدًا حَتَّى هَجَاهُ، حَتَّى أَبَاهُ وَأُمَّهُ أُمَامَةَ بِنْتَ حَمْدُونَ النَّدِيمِ.
وَقَدْ أَوْرَدَ لَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً مِنْ شِعْرِهِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي تَخْرِيبِ الْمُتَوَكِّلِ قَبْرَ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ وَأَمْرِهِ بِأَنْ يُزْرَعَ وَيُمْحَى رَسْمُهُ، وَكَانَ شَدِيدَ التَّحَامُلِ عَلَى عَلِيٍّ وَوَلَدِهِ.
فَلَمَّا وقع ما ذكرناه في سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ.
قَالَ ابْنُ بَسَّامٍ هَذَا فِي ذَلِكَ: تَاللَّهِ إِنْ كَانَتْ أُمَيَّةُ قَدْ أَتَتْ * قَتْلَ ابْنِ بِنْتِ نَبِيِّهَا مَظْلُومًا فَلَقَدْ أَتَاهُ بَنُو أَبِيهِ بِمِثْلِهِ * هَذَا لَعَمْرُكَ قَبْرُهُ مَهْدُومًا أَسِفُوا عَلَى أَنْ لَا يَكُونُوا شاركوا * في قتله فتتبعوه رميما ثم دخلت سنة أربع وثلاثمائة فيها (3) عزل المقتدر وَزِيرَهُ أَبَا الْحَسَنِ عَلِيَّ بْنَ عِيسَى بْنِ الْجَرَّاحِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ وَقَعَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُمِّ مُوسَى الْقَهْرَمَانَةِ نُفْرَةٌ شَدِيدَةٌ، فَسَأَلَ الْوَزِيرُ أَنْ يُعفى من الوزارة فعزل ولم يتعرضوا لشئ من أملاكه.
وطلب أبو الحسن بْنِ الْفُرَاتِ فَأُعِيدَ إِلَى الْوِزَارَةِ بَعْدَ عَزْلِهِ عَنْهَا خَمْسَ سِنِينَ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ
الْخَلِيفَةُ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ سَبْعَ خِلَعٍ، وَأَطْلَقَ إِلَيْهِ ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَعَشْرَةَ تُخُوتِ ثِيَابٍ، وَمِنَ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ والجمال شئ كثير، وأقطع الدار التي بالحريم فسكنها، وعمل فِيهَا ضِيَافَةً تِلْكَ اللَّيْلَةَ فَسَقَى فِيهَا أَرْبَعِينَ ألف رطل من الثلج، وفي نصف هذه السنة اشتهر ببغداد أن حيواناً يقال له الزرنب (4) يَطُوفُ بِاللَّيْلِ يَأْكُلُ الْأَطْفَالَ مِنَ الْأَسِرَّةِ وَيَعْدُو على النيام فَرُبَّمَا قَطَعَ يَدَ الرَّجُلِ وَثَدْيَ الْمَرْأَةِ وَهُوَ نائم.
فجعل الناس يضربون على أسطحتهم على النحاس من الهواوين وغيرها ينفرونه عنهم، حتى كانت بغداد بالليل تَرْتَجُّ مِنْ شَرْقِهَا وَغَرْبِهَا، وَاصْطَنَعَ النَّاسُ لِأَوْلَادِهِمْ مكبات من السعف وغيرها، واغتنمت اللصوص هذه الشوشة فكثرت النقوب وأخذت الْأَمْوَالِ، فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِأَنْ يُؤْخَذَ حَيَوَانٌ مِنْ كِلَابِ الْمَاءِ فَيُصْلَبَ عَلَى الْجِسْرِ لِيَسْكُنَ النَّاسُ عن ذلك، ففعلوا فَسَكَنَ النَّاسُ وَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ، وَاسْتَرَاحَ النَّاسُ من ذلك.
وفيها قلد ثابت بن سنان الطبيب أمر المارستان ببغداد في هذه السنة، وكانت خمساً، وكان هذا الطبيب مؤرخاً.
وفيها وَرَدَ كِتَابٌ مِنَ خُرَاسَانَ بِأَنَّهُمْ وَجَدُوا قُبُورَ
(1) في مروج الذهب 4 / 333 ووفيات الاعيان 3 / 363: محمد.
(2)
سقطت من سلسلة نسبه في مروج الذهب.
(3)
في مروج الذهب 4 / 342: يوم الاثنين لثمان خلون من ذي الحجة، وفي ابن الأثير 8 / 98: في ذي الحجة.
(4)
في ابن الاثير 8 / 105: زبزب.
والزبزب دابة كالسنور قاله في العباب (*) .