الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَجِئْنَا يَوْمًا نَنْتَظِرُهُ عَلَى الْعَادَةِ فَجَلَسْنَا عِنْدَ بَابِهِ، وَإِذَا أَعْرَابِيٌّ جَالِسٌ كَأَنَّ لَهُ حَاجَةً، إِذْ وَقَعَ غُرَابٌ عَلَى نَخْلَةٍ فِي الدَّارِ، فصرخ ثم طار.
فقال الأعرابي: إن هذا الغراب يخبر إِنَّ صَاحِبَ هَذِهِ الدَّارِ يَمُوتُ بَعْدَ سَبْعَةِ أَيَّامٍ.
قَالَ فَزَبَرْنَاهُ فَقَامَ وَانْصَرَفَ، ثُمَّ خَرَجَ الإذن من القاضي أن هلموا، فدخلنا فوجدناه متغير اللون مغتماً، فقلنا له: مَا الْخَبَرُ؟ فَقَالَ: إنِّي رَأَيْتُ الْبَارِحَةَ فِي الْمَنَامِ شَخْصًا يَقُولُ: مَنَازِلَ آلِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ * عَلَى أَهْلِيكِ وَالنِّعَمِ السَّلَامُ وَقَدْ ضَاقَ لِذَلِكَ صَدْرِي.
قَالَ: فَدَعَوْنَا لَهُ وَانْصَرَفْنَا.
فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ السَّابِعُ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ دُفِنَ لِيَوْمِ الْخَمِيسِ لِسَبْعَ عَشْرَةَ مَضَتْ مِنْ شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ تِسْعٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً، وَصَلَّى عَلَيْهِ ابْنُهُ أَبُو نَصْرٍ وَوَلِيَ بَعْدَهُ الْقَضَاءَ.
قَالَ الصُّولِيُّ: بَلَغَ الْقَاضِي أَبُو الْحُسَيْنِ مِنَ الْعِلْمِ مَبْلَغًا عَظِيمًا مَعَ حداثة سنه، وحين توفي كان الخليفة الراضي يبكي عليه ويحرضنا ويقول: كنت أضيق بالشئ ذَرْعًا فَيُوَسِّعُهُ عَلَيَّ، ثُمَّ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَا بقيت بعده.
فتوفي الراضي بعده في نصف ربيع الأول من هذه السَّنة الآتية رحمهما الله.
وكان الراضي أيضاً حدث السن.
ابن شنبوذ المقري مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَيُّوبَ بْنِ الصَّلْتِ أبو الحسن المقري الْمَعْرُوفُ بِابْنِ شَنَبُوذَ.
رَوَى عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ الكجي، وبشر بن موسى وخلق، واختار حروفاً في القراءات أنكرت عليه، وصنف أبو بكر الْأَنْبَارِيِّ كِتَابًا فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ كَيْفَ أَنَّهُ عُقِدَ لَهُ مَجْلِسٌ في دار الوزير ابن مُقْلَةَ، وَأَنَّهُ ضُرِبَ حَتَّى رَجَعَ عَنْ كَثِيرٍ منها، وكانت قراءات شاذة أنكرها عليه قراء أهل عصره.
توفي في صفر منها، وقد دعا على الوزير ابْنِ مُقْلَةَ حِينَ أَمَرَ بِضَرْبِهِ فَلَمْ يُفْلِحِ ابن مقلة بعدها، بل عوقب بأنواع من العقوبات، وقطعت يده ولسانه، وحبس حتى مات في هذه السنة التي مات فيها ابن شنبوذ.
وهذه
ترجمة ابن مقلة الوزير أحد الكتاب المشاهير
وهو: مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ (1) بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
أَبُو عَلِيٍّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ مُقْلَةَ الْوَزِيرِ.
وَقَدْ كَانَ فِي أَوَّلِ عُمْرِهِ ضَعِيفَ الْحَالِ (2) ، قليل المال، ثُمَّ آلَ بِهِ الْحَالُ إِلَى أَنْ وَلِيَ الوزارة لثلاثة من الخلفاء.
المقتدر، والقاهر، والراضي.
وعزل ثلاث
(1) في وفيات الاعيان 5 / 113: الحسين.
(2)
كان في ابتداء امره يخدم في بعض الدواوين في كل شهر بستة دنانير ثم تعلق بابن الفرات واختص به، فرفع من قدره وأعلى من شأنه، فمكث بين يديه يعرض عليه رقاعا في مهمات الناس وينتفع بسبب ذلك.
وقال ابن خلكان: كان يتولى بعض أعمال فارس ويجبي خراجها.. (انظر وفيات الاعيان 5 / 113 الوافي 4 / 109 والفخري 270)(*) .
مرات، وقطعت يده ولسانه في آخر عمره، وَحُبِسَ فَكَانَ يَسْتَقِي الْمَاءَ بِيَدِهِ الْيُسْرَى وَأَسْنَانِهِ، وكان مع ذلك يكتب بيده اليمنى مع قطعها، كما كان يكتب بها وَهِيَ صَحِيحَةٌ.
وَقَدْ كَانَ خَطُّهُ مِنْ أَقْوَى الْخُطُوطِ، كَمَا هُوَ مَشْهُورٌ عَنْهُ وَقَدْ بَنَى له داراً في زمان وزارته وجمع عند بنيانها خلقاً من المنجمين، فاتفقوا على وضع أساسها فِي الْوَقْتِ الْفُلَانِيِّ، فَأَسَّسَ جُدْرَانَهَا بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ كما أشار به المنجمون.
فَمَا لَبِثَ بَعْدَ اسْتِتْمَامِهَا إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى خُرِّبَتْ وَصَارَتْ كَوْمًا، كَمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ، وَذَكَرْنَا ما كتبوا على جدارانها.
وقد كان له بستان كبير جداً، عدة أجربة - أي فدادين - وكان على جميعه شبكة من إبريسم، وفيه أنواع الطيور من القمارى والهزار والببغ والبلابل والطواويس وغير ذلك شئ كَثِيرٌ، وَفِي أَرْضِهِ مِنَ الْغِزْلَانِ وَبَقَرِ الْوَحْشِ والنعام وغير ذلك شئ كثيرا أَيْضًا.
ثمَّ صَارَ هَذَا كُلُّهُ عَمَّا قَرِيبٍ بعد النضرة والبهجة والبهاء إلى الهلاك والبوار والفناء الزوال.
وهذه سُنَّةَ اللَّهِ فِي المغترين الجاهلين الراكنين إلى دار الفناء الغرور.
وَقَدْ أَنْشَدَ فِيهِ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ حِينَ بَنَى داره وبستانه وما اتسع فيه من متاع الدنيا: قل لابن مقلة: لَا تَكُنْ عَجِلًا * وَاصْبِرْ، فَإِنَّكَ فِي أَضْغَاثِ أحلام تبني بأحجر دور الناس مجتهداً * داراً ستهدم قنصاً بَعْدَ أَيَّامِ مَا زِلْتَ تَخْتَارُ سَعْدَ الْمُشْتَرِيِّ لها * فكم نحوس بِهِ مِنْ نَحْسِ بَهْرَامِ
إِنَّ الْقُرَانَ وَبَطْلَيْمُوسَ مَا اجْتَمَعَا * فِي حَالِ نَقْضٍ وَلَا فِي حال إبرام فعزل ابن مقلة عن الوزارة بغداد وخربت داره وانقلعت أشجاره وقطعت يده، ثم قطع لسانه وصودر بألف ألف دينار، ثم سجن وحده ليس معه من يخدمه مع الكبر والضعف والضرورة وانعدام بعض أعضائه، حتى كان يستقي الماء بنفسه من بئر عميق، فكان يدلي الْحَبْلَ بِيَدِهِ الْيُسْرَى وَيُمْسِكُهُ بِفِيهِ.
وَقَاسَى جَهْدًا جهيداً بعد ما ذاق عيشاً رغيداً.
ومن شعره في يده: ما سئمت الحياة، لكن توثقت للحياة (1) * بِأَيْمَانِهِمْ، فَبَانَتْ يَمِينِي بِعْتُ دِينِي لَهُمْ بِدُنْيَايَ حتى * حرموني دنياهم بعد ديني ولقد حفظت مَا اسْتَطَعْتُ بِجَهْدِي * حِفْظَ أَرْوَاحِهِمْ، فَمَا حَفَظُونِي لَيْسَ بَعْدَ الْيَمِينِ لَذَّةُ عَيْشٍ * يَا حَيَاتِي بَانَتْ يَمِينِي فَبِينِي وَكَانَ يَبْكِي عَلَى يَدِهِ كثيراً ويقول: كتبت بها القرآن مرتين، وخدمت بها ثلاثة من الخلفاء تُقْطَعُ كَمَا تُقْطَعُ أَيْدِيَ اللُّصُوصِ ثُمَّ يُنْشِدُ: إِذَا مَا مَاتَ بَعْضُكَ فَابْكِ بَعْضًا * فَإِنَّ البعض من بعض قريب وقد مات عفا الله عنه فِي مَحْبِسِهِ هَذَا وَدُفِنَ فِي دَارِ السُّلْطَانِ، ثُمَّ سَأَلَ وَلَدَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ أَنْ يُحَوَّلَ
(1) البيت في الوافي 4 / 110 ووفيات الاعيان 5 / 116، وفيهما سقطت " للحياة "(*) .