الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الباب الثاني][الجار والمجرور]
الباب الثاني، الباب: مبتدأ، والثاني: صفة، وفي الجار: خبره، وفي المجرور: عطف عليه، وفيه أيضًا، أي في الباب الثَّاني كما في الباب الأول أربع مسائل.
أحدها، أي: إحدى المسائل الأربع. أنَّه، الضمير للشّأن، لابدَّ أي: لا فِرَاق، قال في "الصحاح": لابد من كذا، كأنّه قال: لا فراق منه.
فـ (لا): لنفي الجنس، و (بدَّ): منصوب على الاسمية، ويجوز ذكر خبرها عند [أهل] الحجاز مطلقًا، وعند بني تميم إذا كان الخبر ظرفًا، فهنا الخبر ظرف، فيجوز ذكره على المذهبين. وهو قوله: مِنْ تعلّق الجار والمجرور بفعل أو ما فيه معناه، أي: بشيء فيه معنى الفعل، وهو كل شيء يدل على الحديث كاسمي الفاعل والمفعول، والصّفة المشبّهة، والمصدر، والظرف، والجار والمجرور، وغير ذلك.
وفي بعض كتب النّحو: بفعل أو شبه فعل أو معناه، والمراد من معنى الفعل الظرف، وفي بعضِ كتبه بفعل فقط، والمراد من الفعل ما يُعامَل معاملته، فيعمّ الفعل والظرف، والمصنّف اختار الوسط، ولكلٍّ وجهة هو مولّيها.
وقد اجتمعا أي الفعل وما فيه معنى الفعل في قوله تعالى: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} فـ (عليهم) الأوّل متعلّق بالفعل، والثَّاني ما في معناه وهو المغضوب.
وقول ابن دُرَيْدٍ بضمِّ الدّال، وفتح الرّاء، وسكون الياء، تصغير أَدْرَدَ مُرَخمًا، يقال: رجل أَدْرَدُ: ليس في فمه سِنّ بيّن الدَرَدِ، كذا في "الصحاح".
واشْتَعَلَ المُبْيَضُّ في مُسْوَدِّه [الرجز]
هما اسمان مفعولان، إما بسكون الياء والسين، فيكون من أفعل، أو بحركتهما فيكون من فعّل بالتّشديد.
مثل: منصوب إمّا على الحالية من المبيض، أو على الوصفية لمصدر محذوف تقديره اشتعالًا مثل:
اشتعال النّار في جَزْل الغضا
الجَزْل: الحَطَبُ اليابس أو الغليظ العظيم منه، كذا في "القاموس"، والغَضَا بفتح الغين المعجمة: شجر، هذا، أي كونه دليلًا على الاجتماع على تقدير تعلّق في مُسْوَدّه باشتعل في جزل الغضا باشتعال، وإن علّقت الأوّل أي في مسوده بالمبيضّ، أو جعلته حالًا منه متعلّقًا بكائن على القاعدة التي ستأتي في المسألة الثّالثة. وهي: متى وقع الجار والمجرور صفة أو حالًا أو صلة تعلّق بمحذوف وتقديره كائن أو مستقر. فلا دليل فيه، أي لا يكون فيه ما يدّل على الاجتماع لأن في مسودّه على شبه الفعل وهو المبيضّ أو كائن، فلا يجتمع فيه الفعل وشبهه، وإنّما قال متعلّقًا بكائن لأنّه لو جعلته حالًا متعلّقًا باستقرّ يكون دليلًا كما في تعلّقه باشتعل، ولمّا قال لابدّ من تعلّق الجار والمجرور، يُفهم منه أن يكون لجميع الجار متعلّق، فَدُفِعَ هذا الوهم بقوله:
ويستثنى من حروف الجار أربعة فلا يتعلَّقْن بشيء.
أحدها الزّائد، كالباء الزائد في {كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} ، فشهيدًا يجوز أن يكون تمييزًا أو حالًا على منوال:(لله درّه فارسًا) ولا يخفى عليك أنّ قول المصنّف، كالباء الزائدة في {كَفَى بِاللَّهِ} ليس على ما ينبغي، حيث قال في آخر رسالته: وينبغي أن يَجْتَنِبَ المُعْرِبُ أن يقول في كتاب الله تعالى أنها زائدة، لأنّه يسبق إلى بعض الأذهان أنّ الزائد هو الذي لا معنى له، وكلام
الله سبحانه وتعالى منزّه عن ذلك، [وَأحْسِنْ بِزَيْدٍ عند الجمهور]، و {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} اعلم أنَّ:(ما) المشبهة بليس تعمل عند الحجازيين بأربعة شروط:
أحدها: أن يكون اسمها مقدّمًا على خبرها. قال ابن عصفور: هذا إذا لم يكن الخبر ظرفًا أو ما جرى مجراه، وأمّا إذا كان ظرفًا أو جارًّا أو مجرورًا فيعمل لكثرة التوسُّع فيه، كما تعمل إنّ وأخواتها، لكن المُعْتَبَرَ أن لا تعمل ولو كان ظرفًا.
والثاني أن لا يقترن اسمها بإنْ.
والثالث أن لا يقترن الخبر بإلّا.
والرّابع أن لا يليها معمول الخبر وليس ظرفًا ولا جارًا أو لا مجرورًا.
وأمّا إذا كان معمول الخبر ظرفًا أو جارًّا ومجرورًا، فيعمل عند سيبويه، وأن يليها معمول خبرها نحو: فما [المشبهة بليس] كل حين مَنْ يوالي مُواليًا، فمواليًا خبر ما، ومَنْ اسمها، وكل حين معمول مواليا.
وعند بني تميم لا تعمل وإن استُوفيت الشّروط لدخولها على الاسم والفعل، بل يكون ما بعدها مبتدأ وخبرًا، ولا تدخل الباء على خبر المبتدأ الَّذي بعدها عندهم إلَّا في القرآن، كذا في "الإقليد".
قال الزمخشري في "مُفَصّله": ودخول الباء في الخبر نحو قولك: ما زيد بمنطلق، إنَّما يصحُّ على لغة الحجازيين.
وقال ابن هشام في "شذور الذّهب" وقرأ على لغتهم {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} بالرفع، وقرأ أيضًا: بأمّهاتهم بالجر بباء زائدة، ويحتمل الحجازية والتميمية خلافًا لأبي علي والزمخشري زعمًا أنَّ الباء تختصّ بلغة النصب. انتهى.
فما: بمعنى ليس، وربُّك: مبتدأ، وبغافل: في محل الرفع على أنَّه خبر مبتدأ عند بني تميم. وأمّا عند الحجازيين: ربُّكَ: اسمها، وبغافل: في محل النصب خبرها، والباء: زائدة على المذهبين، وعن: حرف جرّ متعلّق بغافل، وما يجوز أن تكون بمعنى الَّذي، فمعناه: وما الله بغافل عن الشيء الذي تعملون، ويجوز أن تكون مصدرية، فمعناه: بغافل عن عملكم، والجملة في محلّ النّصب على أنها مفعول بغافل.
اعلم أن الباء تزاد قياسًا في خبر المبتدأ استفهامًا نحو: هل زيد بقائم؟
وفي خبر (ما) نحو: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} .
وخبر ليس نحو: ليس زيدٌّ بقائمٍ.
وسماعًا في الفاعل في غير التعجب نحو: {كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} على أحد التأويلين، وهو مذهب سيبويه. فذكر ابن السرّاج وجهًا آخر، وهو أن تكون غير زائدة، وفاعل كفى ضمير مستتر عائد على الاكتفاء المفهوم من كفى.
كأنّه قال هو أي: كفى اكتفاؤك بالله.
وأمّا في صيغة التعجب نحو: أفعل به، فزيادة الباء قياس في الفاعل عند سيبويه، وفي المفعول عند الفرّاء، ومن وافقه، وإنّما حكموا بزيادتها لأنّ الهمزة في أفعل للتعدية عند من جعلها أمرًا حقيقة، وقال بعض المغاربة، ويحتمل أن تكون الهمزة لا للنقل، بل على معنى أقطع البخل في مثل: أكرم بزيد، ثم أدخلوا الباء على معنى أنّه صَيَّرَهُ أي: صَيِّره [ذا كرم]، فأكرم أمرٌ، فتكون الباء للتعدية.
وتزاد أيضًا سماعًا في المفعول نحو: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} .
وفي المبتدأ نحو: بحسبك زيد، وكمِنْ، معطوف على الباء في {مَا لَكُمْ مِنْ
إلهٍ غيره} مِنْ: جارّة وزائدة، فلا يتعلّق بشيء، وإله مجرورها لفظًا، ومرفوع محلًا على أنه مبتدأ، واللام في مالكم: حرف جر، وتُفتح اللاّم الجارّة إذا دخلت على المضمر، ويجوز كسرها على لغة خزاعة، و [كم] مجرورها متعلّق بكائن أو استقر، والجار والمجرور في محل الرفع على أنَّه خبر لمبتدأ [محذوف] متأخّر ولا تعمل (ما) لما عرفت أنَّ خبرها إذا كان مقدّمًا على اسمها، يبطُلُ عملُها سواء كان الخبر ظرفًا أو لا، وغيره: صفة (إله)، قُرِئ بالرفع حملًا على المحل، وبالكسر حملًا على اللَّفظ.
اعلم أنَّ إضافة غير وشبه ومثل معنويةٌ عند أكثر النّحويين، لكن لا تتعرّف لتوغلها في الإبهام إلّا إذا اشتهر المضاف بمغايرة المضاف إليه، أو بمماثلته، ولفظيّةٌ عند صاحب "التخمير" حيث قال: والحقّ أن هذه الأسماء في الأصل صفات بمعنى اسم الفاعل في موضع مغايرك ومماثلك ومشابهك.
فلهذا لم يكتفِ بها للمضاف تعريفًا، ثم قال. إنّ (غيرًا) له ثلاثة مواضع:
أحدها: أن يقع موقعًا لا يكون فيه إلَّا النكرات، وذلك إذا أريد به النّفي السّاذج نحو: مررتُ برجلٍ غير زيد، يريد أنّ المجرور به ليس هذا.
والثاني: أن يقع موقعًا لا يكون فيه إلَّا معرفة، وذلك إذا أريد به شيءٌ قد عُرِفَ بمضادّة المضاف إليه في المعنى، لا يضادّه فيه إلَّا هو، كما إذا قلت: مررت بغيرك المعروف بمضادّتك، إلّا أنَّه لا يحسن في هذا الوجه أن يجري صفة.
والثالث: أن تقع في موضعٍ تارةً تكون [فيه] معرفة، وأخرى نكرة، كما إذا قلت: مررت برجلٍ كريمٍ غيرِ لئيم، والرجل الكريم غيرُ اللّئيم.
قال النحويون: إذا قلت: مررت بالرجل غير اللئيم، فالمعنى: مررت بالرجل الكريم غير اللئيم. انتهى. وفي مثل {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} و (غيرُ) بالرّفع إمّا لكونه صفة للخالق على الموضع، و (خالق): مبتدأ و (من): زائدة، وخبره محذوف تقديره: هل خالق لكم أو للأشياء، أو لكونه فاعلًا له، فتقديره: هل يخلق غير الله؟
اعلم: أنّ (مِنْ) تزاد في الموجب وغيره عند الأخفش والكسائي وهشام، سواء كان مدخولها معرفة أو نكرة، وعند بعض الكوفيين يُشترط تنكير ما دخلت عليه وعند الجمهور البصرية.
بشرط أن يكون ما قبلها غير موجب وما دخلت عليه أن يكون نكرة فتزاد عندهم في الفاعل والمفعول:
نهيًا نحو: لا تذهب من رجل، ولا تضرب من رجل.
ونفيًا نحو: ما جاءني من رجل، وما ضربت من رجل.
واستفهامًا نحو: هل جاءني من رجل؟ وهل تضرب من رجل؟
وفي المبتدأ:
نفيًا نحو: هل من رجل جاءني.
واستفهامًا نحو: هل من رجل في الدّار؟
واعلم أيضًا أنّ مجرور (من) الزائدة إذا كان من الأسماء المقصورة على العموم كأحدٍ، وديّار، تكون (من) لمجرد التأكيد، فإن معنى ما ضربت أحدًا، وما ضربت من أحد، سواءٌ في التنصيص على العموم.
وإذا لم يكن من الأسماء المقصورة كانت من الاستغراق، فإنّك إذا قلت: ما جاءني من رجل، يكون المعنى نفي إتيان هذا الجنس من واحد إلى ما يتناهى، بخلاف: ما جاءني رجل، فإن معناه نفي إتيان رجل، فيحمل إتيان اثنين أو أكثر، وإنما سميت مزيدة مع إفادتها لأنها لا يتغير أصل المعنى بإسقاطها.
ومن ههنا يُعلم ضعف ما قاله المبرّد: لا ينبغي أن يقال إنها زائدة إذا أفادت استغراق الجنس.
والثاني أي ثاني ما لا يتعلّق بشيء: (لعلّ) في لغة من يجرّبها، وهم عقيل، [ولهم في لامها الأولى الإثبات والحذف، وفي الأخيرة الفتح والكسر].
قال في "الصحاح": وعُقَيْلُ مصغرًا قبيلة، قال شاعرهم، وهو كعب بن سعد الغنوي، قال [في] مرثية أخيه، كذا ذكر في حاشية "الكشاف" (بيت أبي المغوار):
لَعَلَّ أبي الْمِغوَارِ مِنْكَ قَرِيْبُ [الطويل]
فـ (أبي) مجرور بـ (لعلّ) ولم يكن لها متعلّق، لأن الأسماء الستة المضافة إلى غير ياء المتكلّم، كان جرّها بالياء.
والمِغْوَار بالغين المعجمة. المقاتل. بُني للمبالغة كالْمِجزَام والمِكْثَار.
وأبي المغوار: كنية للمدح له.
لا يقال هذا لا يُثْبِتُ أن تكون لعلّ من حروف الجر عندهم، لجواز أن يُحمل على الشّاذ، أو يكون اشتهار هذا الرجل بأبي المغوار بالياء، فحكي على أصله، كما قيل: علي بن أبو طالب، وغير ذلك من الوجوه، لأنّ المصنِّف لم يرد به إثبات مذهبهم، بل هو مِثَالٌ مجرّدٌ لجرّ (لعلّ) لأنّ الجرّ بها في لغتهم شائع عند أرباب النحو، لا يحتاج إلى الإثبات.
قال الشيخ الرضي: وعُقَيْل يجرُّونها بـ لعلّ مفتوحة الآخر، وكذا بـ لعلّ مكسورة الآخر، وهي مشكلة لأنّ جرّها عمل مختص بالحروف، ورفعها لمشابهة الأفعال. وكونه حرفًا عاملًا عمل الحروف والأفعال في حالة واحدة لم يثبت، وأيضًا الجارّ لابدّ من متعلّق له لا ظاهرًا ولا مقدّرًا. انتهى.
وفيه كلام لأنّ هذا الإشكال مبني على أنّ الرفع بعدها بـ لعلّ عندهم، وهو غير معلوم وأيضًا استدعاء جميع الجارّ متعلقًا ممنوع.
والثالث: لولا، التي للامتناع في قول بعضهم، أي قول بعض فصحاء العرب: لولاي ولولاك ولولاه، فإذا وقع بعد لولا ضمير مجرور فمذهب سيبويه أنّ لولا في ذلك جارّة ولا يتعلّق بشيء.
اعلم أنَّ (لولا) إذا دخل على الاسم، فالاسم الواقع بعده:
إما مبتدأ، وهو مذهب البصريين.
أو فاعلُ فِعل محذوف وهو مذهب الكسائي.
أو مرفوع بلولا، وهو مذهب الفرّاء.
فيجب على هذه الوجوه الثَّلاثة الانفصال، فلمّا وقع من ثقات العرب استعمال الضمير المجرور بعد (لولا)، فمذهب سيبويه إلى أنَّه ضمير مجرور بـ (لولا)، ولولا حرف جر لا يتعلق بشيء، وحُكي عن الخليل ويونس: أنّ الضمير المجرور بعد لولا مجرور بتقدير المضاف، أي: لولا وجودك، وذهب الأخفش والفرّاء إلى أنّ المجرور بعدها قائم مقام المرفوع، فسيبويه تصرف في لولا، وقال: إنّ لِـ (لولا) مع الضمير شأنًا ليس لها مع المظهر، كما أن لـ لَدُن مع الغدوة شأنًا ليس له مع غيرها.
وتصرّف الأخفش والفرّاء في الضمائر، فقال: إن تصرّفات الضمير لا تكاد تنحصر، كتأكيد المنصوبات والمجرورات بالمرفوعات، نحو: رأيتُني أنا، ومررت بك أنت، ووقوع المرفوع موقع المجرور في قوله: ما أنا كأنت، وكأنّ تقدير ما كثرت أمثاله في كلام العرب أَوْلى من تقدير ما لم يكثر، ورجّح ابنُ الحاجب مذهب سيبويه بأن يقال: قياسية بـ (ما أنَا كأنت) فضعيف لقلّة استعماله وشذوذه بخلاف ما حمل عليه سيبويه فإنه كثير، وأمّا وقوع المرفوع موقع المجرور في قولك: مررت بك أنت، فللضرورة إذ لا يمكن إلّا كذلك، وأما وقوع المرفوع موقع المنصوب فلضرورة الفرق بين التأكيد والبدل، فإذا قالوا: ضربته إيّاه، كان بدلًا، وضربته هو، كان تأكيدًا، ورجّح الشيخ الرضيّ مذهب الأخفش وقال: لو كان لولا حرف جر، ولم تكن زائدة للزم من متعلّق، ولا متعلّق في نحو: لولاك، ظاهرًا، ولا يصح تقديره، هذا فانظر ما في الرضي فاسلكْ ما هو الصّواب عندك.
والأكثر مبتدأ، وخبره: أن يقال، والجملة مبتدأ، ومقول القول: لولا أنا، ولولا أنت، ولولا هو، كما عرفت فيما سبق، الضمير الواقع بعد لولا يجب أن يكون مرفوعًا منفصلًا كما قال الله تعالى:{لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} . هذا دليل بحسب الظّاهر على ما قاله الأكثر، ولكن الدليل حقيقة، عدم وقوع خلافه في كلام الله تعالى، (فأنتم) على رأي البصريين: مبتدأ، وخبره محذوف وهو: حاضرٌ أو موجودٌ، لقيام العلم به بجواب (لولا) ظاهرًا، ولَكُنَّا: جوابها، لأنّ جواب لولا التي لغير التحضيض باللّام.
وأمّا على رأي الكسائي، أنتم: فاعل فعل محذوف، ولَكُنَّا: جوابها.
وعلى رأي الفرّاء، أنتم: فاعل لولا، وجوابها لكُنَّا، وسنذكر في بحث لولا تفصيلًا مُشبعًا إن شاء الله تعالى.
والرابع: كاف التشبيه، إذا لم تكن زائدة، والتشبيه: عقد القلب على أنّ أحد الشيئين يَسُدُّ مَسَدَّ الآخر في معنىً من المعاني، نحو زيد كعمرو. اعلم. أن هذا الكاف حرف على رأي جميع النّحاة إلا عند أبي جعفر فإنه قال: الأظهر أنها اسم أبدًا لأنّها بمعنى مثل، وما هو بمعنى اسم فهو اسم، والجمهور استدلّوا لحرفيتها بأن يقال: لو كانت اسمًا لما استقلّ بها الصلة، لأنَّ الصلة لا تكون إلَّا جملة، فلو جُعلت اسمًا لكانت الصلّة مضافة إلى مدخولها، والمضاف مع المضاف إليه ككلمة واحدة لا يصلح أن يُجعل صلة، وأمّا إذا كانت حرفًا فالحرف يقتضي متعلقًا، والتعلّق في الصلة لا تكون إلا فعلًا، والفعل يقتضي فاعلًا، فيكون الصّلة جملة، هذا هو الصواب لا محيص عنه المُنْهَمُ المذاب.
فإذا عرفت ما تلونا عليك علمت أنّ زعم الأخفش محجوج عليه، وأنّ هذه الكاف قد تكون زائدة كما قوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، وقد يكون اسمًا بمعنى المثل، وسيبويه لا يحكم باسميتها إلّا عند الضرورة، حيث تدخل عليها حروف الجرّ، والأخفش يجوّز ذلك من غير ضرورة، وزعم الأخفش وابن عصفور أنها لا تتعلق بشيء، قال ابن عصفور: إذا قلت: جاءني الَّذي كزيد، ليس للكاف متعلّق، لأن المقدّر في المجرور إذا وقع صلة لا يكون إلا ما يناسب الحرف، فإنّ المقدّر في نحو: جاءني [الذي] في الدّار استقرّ، لأن في الوعاء والاستقرار مناسب له، ولو قلت: جاءني الَّذي في الدار، تريد ضحك وأكل في الدار لم يجز، لأنه ليس في الكلام ما يدلّ عليه. فالمناسب بكاف التشبيه [أن تقدر أشبّه وهو غير جائز لأنه متعدٍّ بنفسه والعرب] لم يتلفظ به مع الكاف في موضع [الجر]، يدلّ ذلك على أنّ الكاف لم يتعلق بشيء، هذا غاية السقوط، لأنّ المستقر يجوز فيه تقدير الأفعال العامّة، وإن وجد فيه قرينة الخصوص.
غاية ما في الباب أنّ تغيير عند وجود القرينة أكثر فائدة، فيجوز أن يقدّر في مثل: جاءني الَّذي كزيد، وُجد أو كان أو غير ذلك فَعُلِمَ من هذا أنّ كون كاف التشبيه من هذا الباب على زعم الأخفش وابن عصفور.
وفي ذلك أي فيها، قالها الأخفش، بحث حاصله أنّ كاف الله إن جُعلت اسمًا تكون في محل الرفع [على الخبرية وما بعدها مُضافٌ إليه، والاسم لا يحتاج إلى متعلّق]. فهذا مُسَلَّم، لكن لا يكون. مما ذكرنا، وإن جُعلت حرفًا فلا يخلو من أن تكون زائدة أوّلًا، فإن كانت زائدة فتدخل في القسم الأوّل، وإن لم يكن فلابدّ من متعلّق.
المسألة: مبتدأ، الثانية: صفتها، وحكم: مبتدأ ثان مضاف إلى الجار والمجرور: عطف على الجار، وبعد المعرفة والنكرة: ظرف للجار والمجرور، وإنّما قيّد بالبعدية لأن الجّار والمجرور إذا كان مقدّمًا يكون حالًا بالاتفاق، فلا يحتمل الوجهين.
كحكم: الكاف إمّا اسم بمعنى المثل، على مذهب الأخفش، فيكون محل الرفع على أنَّه خبر لمبتدأ ثان، ومضاف إلى حكم، وحكم مضاف إلى الجملة والخبرية صفة لها.
أو حرف، وحكم مجرور بها، والجار والمجرور في محل الرفع على أنَّه خبر مبتدأ ثان، والمبتدأ مع خبره، خبر المبتدأ الأول.
ويجوز أن يجعل المسألة: مبتدأ، وخبره محذوف، أو خبر لمبتدأ محذوف وهو هذه.
فهو، الفاء للتفسير، ويجوز أن يكون لربط الجواب على الشوط المحذوف، وهو عائد إلى الحكم لأنّ الأصل إرجاع الضمير إلى المضاف، ويجوز أن يكون عائدًا إلى الجار والمجرور، وتوحيد الضمير إمّا من قبيل الاكتفاء أو لكونهما بمنزلة شيء واحد، فإن قلت: إنّ الضمير بعد ذكر المضاف والمضاف إليه حقُّه أن ينصرف إلى المضاف دون المضاف إليه.
قلت: بلى. قد يرجع إلى المضاف إليه أيضًا عند قيام القرينة عليه، واقتضاء المقام رجوعه إليه، قد مرّ موضع من كلام بعض الفضلاء، عاد فيه بضمير على المضاف إليه، فقال شخص من الحاضرين النحويين: لا يعود الضمير إلى المضاف إليه، فكيف أعدتموه، فقال ذلك الفاضل
من غير تلعثم: قال الله تعالى: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} ولم يزد على ذلك، وفيه من اللطف ما لا يخفى، فقوله هو: مبتدأ، وخبره: صفة في نحو: رأيت طائرًا على غصن. الغصن بالضمّ: ما يتشعّب عن ساق الشَّجرة، دقاقها وغلاظها والصغيرة بها، وجمعها: غُصُونٌ وغِصَنَةٌ وأغْصَان لأنّه: أي الجار والمجرور، وهو على غصن، بعد نكرة محضة وهو طائرًا بالألف في أكثر النسخ، حكاية على أصله، وما وقع في بعض النسخ بغير الألف، فغير محتاج إلى كلام.
وحال: عطف على صفة، في [نحو] قوله {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} أي: متزيّنًا، وإنّما فسَّره بذلك بناءً على مذهب جمهور النّحاة، وهو أن الحال لا يكون إلَّا مشتقًا، وإعلامًا إلى أن الجار والمجرور في محل النصب على الحالية، لأنه بعد معرفة محضة وهي أي: المعرفة المحضة، الضمير المستتر في خرج، وَصَفَ المعرفة بالمحضة لكون الضمير أعرف المعارف، ويحتمل لهما أي للصفة والحال، في نحو: يعجبني الزّهر والتعجب: الحيرة في النفس بسبب إدراك أمور غريبة، وبمعنى السرور، والوجهان جائزان هنا، والزّهر هنا بمعنى النَّوْر، قال الجوهري: زهرة النبت نَوْرُه، لا بمعنى الحسن بدلالة. في أكمامه. جمع الكِمّ بالكسر، وهو وعاء الطّلع وغطاء النَّوْر، وهذا الثمر يانع على أغصانه، يقال: يَنَعَ الثمر بفتح النون، ويَنِعَ بالفتح والكسر، ويَنْعًا بفتح الياء وضمّها وسكون النون، ويُنُوعًا أي نضج وأينع، ولم تسقط في المستقبل لتقويتها بأختها، واليانع مثل النَّضِج والناضج كذا في الجوهري، فقوله: في أكمامه: حال من الزّهر.
ويُحتمل أن تكون صفة لأنّ الزّهر معرّفٌ بلام الجنس، فهو قريب من النكرة،
فيجوز كون الجملة الخبرية صفة له كما عرفت في المسألة الرابعة في الباب الأوّل، والفاء في قوله: فهو، لربط الجزاء على الشَّرط المحذوف، وقوله: على أغصانه: صفة ثانية لثمر، ويحتمل أن يكون حالًا منه لاختصاصه بالصفة الأولى، وهي يانع.
فقوله: وقولَك بالنَّصْب: عطف على الزَّهر، وثمر: مقول القول بتقدير هو. وموصوف: عطف على معرف بالواو في قولك، ويجوز أن يكون قولك: مبتدأ، وموصوف: خبره، والجملة معطوفة على الجملة المتقدّمة، فهو قريب من المعرفة لاختصاصه بالصفة وهي يانع، فيعامل معاملة المعرفة.
المسألة الثالثة: متى وقع الجار والمجرور صفة لموصوف، أو صلة لموصول، أو خبرًا لمبتدأ، أو حالًا لذي حال، يتعلق بمحذوف تقديره كائن، وما أشبه ذلك عند من قدّر المفرد، أو استقرّ وما أشبه ذلك عند من قدّر الفعل، وعبارة المصنِّف صريحةٌ بأن اللّغْو لا يكون حالًا ولا صفة ولا صلة ولا خبرًا، لأن متعلقه لا يكون محذوفًا، ولا من الأفعال العامّة.
اعلم أنّ للظرف المستقر ثلاثة شروط، إذا فقدت أحدها لا يكون الظرف مستقرًا:
الأول: أن يكون المتعلّق متضمنًا فيه.
والثاني: أن يكون المتعلّق من الأفعال العامّة إذا لم يوجد قرينة الخصوص، وأما إذا وجدت فلابدّ من تقدير فعل خاص، لأنه أكثر فائدة، نصّ عليه كثير من الأفاضل، وذلك، أي تقدير الفعل الخاص لا يخرجه عن كونه مستقرًا لأن معنى ذلك الفعل الخاصّ، استقر فيه أيضًا، وجاز تقدير الفعل العام لتوجيه الإعراب بخلاف اللّغو، فإن متعلقه لا يكون فعلًا عامًا لتوجيه الإعراب، فلمّا كان جواز تقدير الأفعال العامّة مطّردًا في المستقرّ اعتبره النّحاة، وفسّروا المستقر بما كان عامله محذوفًا وعامًّا.
والثالث: أن يكون المتعلّق مقدّرًا غير مذكور إلا على مذهب ابن جني، فإنه يجوز إظهار العامل في المستقر، وردّه النُّحاة بأنَّه لا احتياج إليه، على أن مذهب هذا يوجب ارتكاب التعسُّف في الفرق، وإنما سُمي المستقر مستقرًا لأنّه استقر فيه معنى عامله وفُهم منه، واللغو لغوًا لأن هذا الظرف لغوٌ بالنظر إلى ظاهر الكلام، لأنّه فضلةٌ يتم الكلام بدونه ابتداءً، بخلاف
المستقر لأنّه يسدّ مسدّ العامل وإن كان صفة للفضلة، وهذا لا يمنع عن كونه جزءًا من الكلام في أصله، ولأنه ملغاه عن جهة العمل حيث لا يعمل ظاهرًا إلّا في المضمر، ولا في المظهر، قال شارح "اللباب": وهو تسمية خالية عن المناسبة.
وأمّا أنا فلا أحبّ التسمية باللَّغو لوقوعه في التَّنزيل والحديث، ففيه إذن إخلال بالآداب فسمينا ظرفًا خاصًّا لخصوص العامل فيه، والمستقر ظرفًا عامًا لأن الملحوظ عموم العامل قال بعض الفضلاء من المتأخرين: إنّ القوم قالوا للمستقر حَظٌّ من الإعراب دون اللَّغو.
ولم أجد في كلامهم ما يحققّه ويبيّن غرضهم منه حتَّى لا يردّ عليهم الاشتراك في الإعراب المحلّي، حيث قالوا: بزيد، في مررت بزيد: في محل النصب، وأجازوا في معطوفه النصب وهو لغو.
فأقول متوكّلًا على الله تعالى ومعتمدًا: إنّ مرادهم بذلك أن لا محل له آخر من الإعراب غير هذا المحل، لا أن لا محل له من الإعراب أصلًا، وللمستقرّ ذلك، ألا ترى أنّك إذا قلت: زيد في الدّار، له محل من الإعراب من جهة تعلّقه بالخبر الحقيقي، ومحل آخر غيره من حيث أنَّه هو الخبر بعد الحذف، وذلك بدليل انتقال الضمير عنه إليه، فيكون له محلان من الإعراب على ما لا يخفى على ذوي الألباب، بخلاف ما إذا قلت: زيد حاصل في الدّار، فإن له محلًا واحدًا.
أقول: يُفْهم منه أنّ الجار والمجرور معًا له محل من الإعراب في اللُّغة، فعلى هذا يشكل الفرق بين المستقرّ واللَّغو، لأن المستقر واللغو لا يكون له محل من الإعراب إذا كان صلة كما مرّ في المسألة التي لا محل لها من الإعراب، فالجدير بالقبول ما قاله بعض الفحول من أنّك إذا قلت: مررت بزيد فالجار والمجرور ظرف لغو متعلق بمررت لا محل له من الإعراب. والمنصوب على المفعولية هو المجرور فقط، وإن جعل القوم المجموع تساهلًا لأنّ الجار كالجزء من الفعل إذ اللَّازم يجري مجرى المتعدي، ألا ترى أنّ معنى: مررت بزيد، أمررت زيدًا، وجزء الفعل لا يكون معمولًا، ولأنّه لو كان الجار والمجرور في محلّ النّصب لامتنع تعلّقه بمررت، لأنّه لو تعلّق لكان ظرفًا لغوًا، فلم يكن له محل من الإعراب. ولأن القوم أجازوا في معطوفه النصب، فلو كان مجموع الجار والمجرور منصوب المحلّ للزم أن يتعدّى الفعل إلى المعطوف بنفسه.
واعلم أيضًا أن الفعل إذا تعدّى إلى المفعولين، والثاني غير صريح، يقول النحاة:
إنَّ المفعول الثاني، مفعول الفعل صريحًا إجراءً على أصلهم لكون الفعل عاملًا في المفعولين صريحًا إلَّا أنَّ الواقع صلة، مُتَعِّينٌ فيه تقدير استقر وما أشبه ذلك من الفعل، وهذا الاستثناء يجوز أن يكون متصلًا ومنقطعًا بمعنى لكنّ المشددة لأنّ الصلة لا تكون إلا جملة.
اعلم: أنّ البصريين اختلفوا في سائر ظرف المستقر، إنّ المقدّر هو الفعل أو اسم الفاعل، فذهب بعضهم إلى الأول [قال صاحب "التلخيص" وهو الأصحّ لكون الفعل أصلًا في العمل، وذهب بعضهم إلى الثاني]. قال شارح "اللباب": وهو الأَوْلى لأنه خبر، والأصل في الخبر أن يكون مفردًا، وإنما أسندنا الاختلاف إلى بعض البصريين لأنّ الكوفيين لا يقولون بتقدير العامل، فعندهم لا يتعلّق بشيء أصلًا، ذكره الشيخ الرضيّ وهو اختيار أبي العباس من المتأخرين وبعض شرّاح الكافية ذكر الاختلاف بين البصريين والكوفيين، لكن الاعتماد على الأوّل، وقد تقدّم فيما قبل في المسألة الثانية مثال الحال، وهو قوله تعالى {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} والصفة وهو رأيت طائرًا على غصن.
ومثال: مبتدأ مضاف إلى الخبر، وجملة الحمد لله: خبره، والجار والمجرور وهو (لله)
متعلق بثابت أو ثبت، خبر مبتدأ وهو الحمد. ومثال الصّلة قوله تعالى:{وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فَمَنْ موصول ومبتدأ، والظرف المقدَم خبره، وقيل مَنْ مرفوع بالظرف، والجار مع المحكيّ بمجرور، أعني في السّموات متعلّق باستقرّ صلة (مَنْ).
المسألة الرابعة: يجوز في الجار والمجرور في هذه المواضع الأربعة، وهو كونه صفة، وصلة، وخبرًا، وحالًا. وحيث في محل الجر، عطف على هذا الموضع. وقع بعد نفي أو استفهام أن يرفع الفاعل، جملة أن يرفع في تأويل المصدر. وبأن فاعل، يجوز هذا عند أكثر البصريين لأنّ الجار والمجرور والظرف، واسم الفاعل والمفعول، والصفة المشبهة، لا يعملون إلّا بالاعتماد على الأشياء الستَّة المذكورة، هذا، أي وجوب الاعتماد في جميع المذكورات عند
المتأخرين، وعند المتقدمين الاعتماد لا يجب في الفاعل والمفعول والظرف، بل في سائرها. أمّا عند الكوفيين والأخفش منّا، فتعمل جميع تلك المذكورات بغير اعتماد على الأشياء الستة المذكورة، فلا يختص في هذه المواضع. تقول: مررت برجل في الدّار أبُوه، فجملة: في الدّار أبوه في محل الجرّ على أنها صفة لرجل، وأبوه فاعل الجار والمجرور، وهو يعمل فيه بالاعتماد على الموصوف. وبعض النُّحاة اختلف فيه والمصنِّف أشار إليه وقال: ولك في (أبوه) وجهان:
أحدهما أن تقدّره أي (أبوه) فاعلًا بالجار والمجرور ولنيابته، أي لنيابة الجار والمجرور، وتوحيد الضمير إمّا لكونهما كشيء واحد أو على سبيل البدل، أو من قبيل الاكتفاء عن استقرّ محذوفًا، هذا صريح بأن اختيار المصنّف في تقدير المتعلّق في الظرف هو الفعل، نعم يجوز أن يكون من قبيل الاكتفاء، لكن الأوّل أوْلى، قوله محذوفًا حال من استقر، وهذا أي تقدير (أبوه) فاعلًا بالجار والمجرور هو الرّاجح عند الحُذّاق، بضمّ الحاء المهملة، جمع حاذق وهو الماهر.
والثاني: مبتدأ، وجملة أن تقدّره خبره، وقد يتعدّى إلى المفعولين لأن ثلاثيّه متعدٍّ بنفسه، يقال قدّرت الشيءَ، فتعدّى إلى الثاني بالتّضعيف، فمفعوله الأوّل الضمير الراجع إلى (أبوه)، والثاني قوله مبتدأ مؤخرًا صفة والجار والمجرور خبرًا للواو وللعطف، وما بعدها بأسرها معطوف على مفعولي تقدّر، أي أنّ تقدير الجار والمجرور، وقوله مقدّمًا صفة خبرًا، وعلى هذا المنوال إعراب قوله: والجملة صفة، فعلى هذا الوجه، الجملة التي تقع صفة لرجل تكون اسمية، لأن (أبوه) مبتدأ، والظرف المقدّم: خبره، وتقول في الاعتماد على النفي: ما في الدّار أحد.
ما: بمعنى ليس، ولا عامل هنا لكون خبرها مقدّمًا على اسمها، فعند الحذّاق.
أحَدٌ: مرفوع على أنَّه فاعل للجار والمجرور، لاعتماده على النفي، وأما عند سائرهم، فأحد: مبتدأ، وفي الدّار: خبره. وقال الله: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ} هذا مثال الاعتماد على الاستفهام فَشَكٌ بالرفع فاعل الجار والمجرور لاعتماده على الاستفهام خلافًا لمن جعله مبتدأ، والجار والمجرور خبرًا، [مثال الاعتماد على الموصول: جاءني الَّذي في الدّار أبوه]، مثال الاعتماد على المبتدأ: زيد في الدّار أبوه، ومثال الاعتماد على ذي الحال: رأيت زيدًا في الدّار أبوه.
اعلم أن أكثر النحويين زادوا في الاعتماد على الستة، الاعتماد على حرف النّداء نحو: يا طالعًا جبلًا، لكن المحققين جعلوه في حكم الاعتماد على الموصوف. أي كوكبًا طالعًا جبلًا، وعند الإمام المرزوقي يجوز الاعتماد على حروف الجر، فقولهم: يجب الاعتماد على الأشياء الستة مبني على أكثر الاستعمال.
تنبيه: وسَمَ هذا البحث بالتنبيه لأنه قد سبق منه ذكر ما فإن التنبيه إنما يستعمل فيما يتعلّق به ضربٌ من العلم أو كان حكمه في حكمه كالبديهيات. جميع: مبتدأ مضاف إلى ما ذكرناه في الجار والمجرور ثابت، خبره: في الظرف سواء كان ظرفًا حقيقيًا، أو ما جرى مجراها، فلابُدَّ من تعلّقه بفعل مثال الظرف نحو:{وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ} .
قال أبو البقاء فيه وجهان:
أحدهما: ظرف متعلّق بجاؤوا، أي: جاؤوا وقت العشاء، ويبكون: حال منه.
والثاني: جمع عائش، كقائم وقيام.
قال الشَّيخ البيضاوي: وقرئ عُشِيًا، وهو تصغير عُشيّ وعُشيّ بالضمّ، والقصر جمع أعشى أي: عَشَوْا من البكاء. انتهى.
قال في "الصحاح": العشيّ والعشيّة من صلاة المغرب إلى العتمة، تقول: أتيته عَشِيّ أمس، وعشيّة أمس، والتصغير من العشي عُشَيَّانٌ على غير مكبّره، كأنهم صغروا عَشْيَانًا، فيُفْهَمُ منه أن لا يكون تصغير عشيّ عشيًّا، وقوله: عَشَوْا من البكاء، معناه يتعامَوْن عن البكاء، يقال: عِشي بالكسر، إذا كان في بصره آفة، وعَشي بالفتح إذا تَعَشّى بلَا آفة، فيكون مشتقًا من المفتوح، فعلى هذا يندفع على ما قيل فيه بُعْدٌ وضَعْفٌ لأن قدر ما بكوا في ذلك اليوم لا يعشى به إنسان. ومثال ما جرى مجرى الظرف نحو:{أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا} . فأرضًا نكرة مبهمة فلذلك نصب
كالظروف المبهمة، وليس بمفعول ثان لاطرحوه لأنّه لا يتعدّى إلى اثنين، وجوّزه أبو البقاء فجعله بمعنى اتركوه، أو معنى فعل نحو: زيد مبكر يوم الجمعة، فيوم ظرف من ظروف الزمان المحدود، ومتعلق بمعنى الفعل وهو مبكرًا، وجالس أمام الخطيب، فأمام ظرف من ظروف المكان المبهم متعلّق بجالس، وهو في معنى الفعل. ومثال: مبتدأ مضاف إلى وقوعه، الوقوع مصدر مضاف إلى فاعله، وهو الضمير العائد إلى الظرف، وصفةٌ بالنَّصْب.
مفعوله ونحو: خبر مبتدأ مضاف إلى جملة: مررت بطائر فوق غصن، ففوق ظرف مكان مبهم منصوب لفظًا، ومجرور محلًا لكونه صفة لطائر، وإنما جُعل صفة لكون، طائر نكرة محضة.
وحالًا بالنّصب عطف على صفة نحو: رأيتُ الهلال بين السّحاب، فبين: ظرف مكان مبهم حال من الهلال لكونه معرفة لأنّ اللام فيه للإشارة إلى حصّة معيّنة من نفس الحقيقة بدلالة وحدة الهلال.
ومحتملًا: إمّا على (صفة) أو على (حالًا) لهما، أي للصفة والحال نحو: يعجبني الثمر فوق الأغصان، مثال لوقوع الظرف بعد معرفة غير محضة فإن قوله: الثمر قريب من النكرة لأنّ اللام فيه إشارة إلى حصّة غير معينة من نفس الحقيقة، فيجوز كون الظرف وهو فوق حالًا منه، بالنَّظر إلى ظاهر حرف التعريف وصفة لكونه كالنكرة في المعنى نحو: رأيت ثمرة يانعة فوق غصن. هذا مثال لوقوع الظرف بعد النكرة غير المحضة، فإنّ ثمرة موصوفة بيانعة، فيجوز أن يكون فوق صفةً لها لكونها نكرة وحالًا منها لكونها مختصّة بالصفة، فيقرب من المعرفة.
ومثال وقوعه خبرًا نحو {وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} [في قراءة السبعة بنصب أسفل].
الركبُ: مبتدأ، وأسفلَ: منصوب على الظّرفية متعلق بمحذوف تقديره كائن أو استقر، ومرفوع في المحل على أنّه خبر مبتدأ، أي والرّكب أسفل مكانًا منكم أي أشدّ تَسَفّلًا، كذا ذكره أبو البقاء ولا يخفى على ذي مسْكةٍ، أن هذا الكلام يشعر أنّه في الأصل أفعل التفضيل، ثم استعمل في الظرف، الرّكب: ركبان الإبل، وهم العشرة فصاعدًا، اسم جمع عند سيبويه وهو الأصحّ، وجمع عند الفراء والأخفش، وقد تكون للخيل، ذكره في "القاموس"، وما وقع في "الصحاح": والركب أصحاب الإبل في السَّفر دون الدّواب.
وصلةً بالنصب: عطف على خبر، أي ومثال وقوع الظرف صلة:{وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} .
فمن: موصول مبتدأ، وصلته: عنده، وجملة:(لا يستكبرون)، خبره، وقال رفعه الفاعل: زيد عنده مال. زيد: مبتدأ، وعنده: ظرف عامل في المال بالاعتماد على المبتدأ، وجملة عنده مال خبره، هذا على رأي حُذّاق النّحاة، وأما على رأي سائرهم، فزيد مبتدأ، ومال: مبتدأ ثان، وعنده: خبره، والمبتدأ مع خبره خبر زيد، والمصنف أشار إليه بقوله: ويجوز تقديرهما أي تقدير جملة عنده مال.
مبتدأ وخبرا، وإنما حصل عنده (خبرًا) لأنّ الظرف لا يصير مخبرًا عنه، وقس على ذلك اعتماد الظرف في العمل على الموصوف والموصول وذي الحال والنفي والاستفهام.
والمصنّف لم يذكر مثالًا لها باكتفاء مثال الاعتماد على المبتدأ، وإيراد هذا المثال يشعر ظاهرًا أن عمل الظرف لا يكون إلَّا بالاعتماد، وهو مذهب المتأخرين كما عرفت.
قال الجوهري: فيها ثلاث لغات وهي عِنْدَ وعَنْدَ وعُنْدَ، بكسر العين وفتحها وضمّها، وهي ظرف في المكان والزّمان، تقول: عند الحائط، وعند اللَّيل، إلَّا أنها ظرف غير متمكن
لا تقول: عِندك واسعٌ بالرفع، وقد أدخلوا [عليه] من حروف الجارة "مِنْ" وحدها، كما أدخلوها على لدن، قال الله تعالى:
{رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} وقال: {مِنْ لَدُنَّا} ، ولا يقال إلى عندك، أو إلى لدنك، وقد يُغْرى بها، تقول: عندك زيدًا، أي خذه. انتهى.
قال شارح "الألفية": فيكون اسم فعل على هذا التقدير.
واعلم: أنَّ (عند) على ما هو المفهوم من "الصحاح" والمصرّح به في الرضي وغيره أنها ظرف غير متصرف، أي لازم الظرفية، وإن كانت مجرورة بمن لأنها لا يخرجها عن عدم التصرف لكثرة زيادتها.
فلم يُعْتَدَّ بدخولها خلافًا لابن الحاجب حيث قال: يدخل عليها مِنْ فلا يلزم الظرفية، ذكره في "إيضاحه" و (مع) ظرف غير متصرف في الزمان والمكان، وهي حرف عند أبي علي الفارسي خلافًا للجمهور، فإنّه عندهم ظرف معرب لازم للنصب، وظاهرُ كلام سيبويه أنها مبني ويلزم إضافتها إنْ ذُكِرَ أحد المصطحبين بعدها نحو: كنت مع زيد، وإن ذُكر قبلها يكون منوّنًا منصوبًا على الظّرفية نحو: جئنا معًا، وقيل: انتصابه على الحالية أي مجتمعين، وقد تدخل عليه من، وهو شاذ كذا ذكر في الرضي و (بين) ظرف من المتصرف المتوسط دخل عليه (من).
و (دون) إن كان بمعنى القُدّام يكون من المتصرّف النادر، فتدخل عليه (من) نادرًا، وإن كان بمعنى القريب أو الأسفل الَّذي يستعار به من معنى التجاوز، أو بمعنى القَبْل يكون متصرّفًا أي غير لازم للظرفية، وإن كان بمعنى الغير يكون متصرّفًا أيضًا دخل عليه (مِنْ) و (في) نادرًا، فليكن هذا الكلام على ذُكْرٍ منك، فإنَّه ينفعك في مواضع شتّى.