الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[المقدمة]
المقدمة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن الدعوة إلى الله تعالى: وظيفة جليلة، وقربة عظيمة، لها منزلة عالية في الشريعة، ويكفيها شرفا ومنزلة كونها وظيفة الرسل وأتباعهم إلى يوم القيامة.
قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36](1) .
وقال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108](2) .
وقال تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 165](3) .
ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يبعث الدعاة إلى الناس؛ ليعلموهم وليفقهوهم، وليرشدوهم إلى الحق، وإلى صراط مستقيم، بل إن الصحابة
(1) النحل: 36.
(2)
يوسف: 108.
(3)
النساء: 165.
رضوان الله عليهم، فهموا أن الدعوة إلى الله تعالى واجبة، فكانوا يبادرون بسؤال الرسول صلى الله عليه وسلم تعليمهم وتفقيههم؛ ليقوموا بدعوة أقوامهم من خلفهم، بل كان من يسلم حديثا يدرك أهمية الدعوة إلى الله تعالى، وأن تبليغها واجب، فعن ابن عباس، رضي الله عنهما، في حديث وفد عبد القيس وفيه: قالوا: يا رسول الله، فمرنا بأمر نعمل به، وندعو إليه من وراءنا (1) .
وقد بُوبَ عليه في صحيح الإمام مسلم: " باب الأمر بالإيمان بالله تعالى ورسوله وشرائع الدين والدعاء إليه والسؤال عنه وحفظه وتبليغه من لم يبلغه "(2) .
لأن الناس لا بد لهم من الدعوة إلى الله تعالى؛ وذلك لإخراجهم من الظلمات إلى النور.
من ظلمات الشرك والكفر إلى نور الإسلام.
ومن ظلمات البدع إلى نور السنة.
ومن ظلمات المعاصي إلى نور الطاعة والهداية.
ومن ظلمات الجهل إلى نور العلم، كل بحسبه.
فحاجة الناس وضرورتهم إلى الدعوة إلى الله تعالى والهداية أشد من حاجتهم إلى الطعام والشراب، بل لا يستقيم أمر العالم إلا بالدعوة إلى الله تعالى، ولولا ذلك لأصبحت الأرض رجراجة متكفئة، ولعاش الناس فوضى كالبهائم؛ فجنس الإنسان لا يستغني عن الأمر والنهي؛ لأنه لا يمكن أن يستقل بمعرفة الحق والخير على الكمال والتمام، وإن كان يدرك الشر والخير بالجملة، وذلك بما وهبه الله من عقل وحواس، إلا أنه لا يعرف حقائق الأشياء على التفصيل إلا بالوحي من الله تعالى، ولذلك احتاج الخلق إلى إرسال الرسل، وإنزال الكتب، وقيام الحجة.
(1) رواه البخاري (1 / 129، 183) ، ومسلم (1 / 179) مع النووي، واللفظ لمسلم.
(2)
صحيح مسلم (1 / 46) .
ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحث أصحابه على الدعوة إلى الله تعالى، ويُلهب حماستهم لذلك، ويبيّن ما لهم من الأجور ورفعة الدرجات عند الله إن هم قاموا بذلك.
فعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم» (1) .
وعن أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من دلَّ على خير فله مثل أجر فاعله» (2) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا. . .» (3) .
وقد صدقوا رضي الله تعالى عنهم رَبَّهُمْ تعالى بأقوالهم وأفعالهم، وقاموا بالدعوة إليه تعالى أتم قيام، وأدوها أحسن أداء، وقد تسلحوا رضي الله عنهم في دعوتهم بتمام الإخلاص، وصدق التوكل، والفقه عن الله تعالى، وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، واتخذوا الصبر مطية، والأجر الموعود أعظم ثمن وهدية، فاعتلت شجرة دعوتهم تزاحم النجوم في عليائها، وآتت أكلها طيبة الثمار، وما زال المسلمون يتفيؤون ظلال دعوتهم المباركة، وستبقى إلى أَن يرث الله الأرض ومن عليها، فرضي الله عنهم وأرضاهم.
والمتتبع لنصوص القرآن والسنة وما أُثر عن السلف الصالح يجد أن فضائل الدعوة إلى الله تعالى وخصائصها ومزاياها كثيرة جدا.
(1) رواه البخاري (7 / 476) ، ومسلم (15 / 77) ، في قصة بعث علي بن أبي طالب إلى خيبر.
(2)
رواه مسلم (13 / 38) .
(3)
رواه مسلم (16 227) .
فمن فضائل الدعوة ومزاياها: أولا: أنها أحسن القول لمن اشتغل بها، مع العمل الصالح.
قال الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33](1) .
قال ابن كثير: " وهذه عامة في كل من دعا إلى خير، وهو في نفسه مهتد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بذلك. . . "(2) .
وثانيا: كونها من أسباب حصول الخيرية لهذه الأمة، قال الله تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110](3) .
قال ابن كثير: " فمن اتصف من هذه الأمة بهذه الصفات دخل معهم في هذا الثناء عليهم والمدح لهم كما قال قتادة: بلغنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حجة حجها رأى من الناس سرعة فقرأ هذه الآية: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] ثم قال: من سره أن يكون من تلك الأمة فليؤد شرط الله فيها، رواه ابن جرير.
ومن لم يتصف بذلك أشبه أهل الكتاب الذين ذمهم الله بقوله: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 79] اهـ (4) .
وثالثا: الفلاح متحقق بإذن الله تعالى لمن قام بأعبائها، وتحمل مشاقها، قال الله تعالى:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104](5) .
(1) فصلت: 33.
(2)
تفسير القرآن العظيم (7 / 237) .
(3)
آل عمران: 110.
(4)
تفسير القرآن العظيم (2 / 131) .
(5)
آل عمران: 104.
قال ابن كثير رحمه الله: " والمقصود من هذه الآية: أن تكون فرقة من الأمة متصدية لهذا الشأن، وإن كان واجبًا على كل فرد من الأمة بحسبه "(1) .
والآيات والأحاديث في هذا الباب كثيرة، فكفى بها شرفا وعزا وفخرا!! .
ومن شرط صحة هذه الدعوة أن تكون على بصيرة كما بين الله تعالى ذلك في كتابه، حيث قال:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108](2) .
والبصيرة هي: العلم الشرعي المؤصل المبني على الدليل من الوحي المنزل من عند الله تعالى، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، والفهم لمراد الله تعالى فيما أنزله، أي: على علم ويقين وبرهان شرعي وعقلي فيما يدعو إلى فعله، وفيما يدعو إلى تركه، وفي أسلوب الدعوة، وفي حال المدعوين، وسلوك الطريق الصحيح في ذلك.
وأي دعوة تخلو من هذا الشرط وهو: البصيرة فإنها دعوة مهلهلة أساسها غير متين، سرعان ما ينهار ويتقوض فيخر السقف من فوقه.
ولذلك سمى الله تعالى العلم بصيرة؛ لأنه يحصل به الصواب، ويتبين به الحق، وتقوم به الحجة، ويردع به الباطل، ويمكن لصاحب البصيرة أن يُوصل الحق إلى من يستحقه.
وفي الواقع أننا في هذا الوقت نلمس حماسة للإسلام - ولله الحمد - من قبل كثير من المسلمين، وهناك رجوع إلى الدين، وإنه لأمر يثلج صدر كل مسلم، خاصة في ظل تداعيات عالمية وحرب تشن على الإسلام بلا هوادة من أعدائه وكثير من أدعيائه، مما أفرز في هذا الاتجاه الطيب قيام كثير من المتحمسين من أهل الإسلام بالدعوة إلى الله تعالى، وذلك بأساليب
(1) تفسير القرآن العظيم (2 / 117) .
(2)
يوسف: 108.
مختلفة ووسائل متعددة أثمرت في بعض جوانبها نتائج طيبة - ولله الحمد والمنة - إلا أن كثيرا من هذه الدعوات بسبب الحماسة والاستعجال في تبليغ الدين وعدم التسلح بالعلم وقعت في أخطاء جسيمة وأرزاء كبيرة، وإن كان كثير منها يقرب من الحق كثيرا؛ فإنه - والحالة هذه - يلزم أهل الاختصاص تصحيح هذه الأخطاء وتثبيت المفاهيم الصحيحة؛ ليستقيم المسار، ولتتضح الرؤية، حيث كان لهذه الأخطاء عواقب وخيمة ونتائج سيئة أثرت سلبا على مستقبل الدعوة إلى الله تعالى، وجعلت المتربصين بهذا الدين يحققون أشياء ليست بالقليلة من أهدافهم.
وبالتتبع والنظر أجد أن سبب ذلك: فقدان شرط البصيرة في الدعوة إلى الله تعالى، وبفقدان هذا الشرط لا تَسلْ عن الأخطاء والمخالفات التي تقع من المشتغلين بهذا الأمر؛ لأن البصيرة هي الميزان الذي يزن به الداعية الأمور، ويقدر الأشياء، ولذلك نجد أن أغلب الدعوات الموجودة على الساحة إنما هي إفراز البيئة العاطفية المحضة؛ مما جعل للعقل العاطفي دورا كبيرا في أن يكون حكمًا على كثير من رموز تلك الدعوات وأتباعها ومناهجها، فأخذت تطوح بهم ذات اليمين وذات الشمال مما أوقع الكثير منهم في أخطاء جوهرية وشكلية ما يزال الناس يعانون من آثارها ونتائجها الوخيمة.
وغالب من يكتب في موضوع الدعوة إلى الله تعالى لا يشبعون مسألة البصيرة بحثا وتقسيما وتفريعا؛ ولذلك تجد غالب المصنفات في هذا الجانب لا تُربي - في تقديري - دعاة يُمكن أن يعتمد عليهم بعد الله تعالى؛ لأن الدعوة إلى الله تعالى ليست مجرد حركة وذهاب وإياب بقدر ما هي اتباع لمنهج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومن سار على منهجهم وطريقتهم من أهل العلم والدين.
فمن هذا المنطلق أحببت أن أساهم في هذا الموضوع والذي اخترت أن يكون عنوانه: " البصيرة في الدعوة إلى الله " لتبصير نفسي والعاملين في حقل الدعوة إلى الله تعالى بالأمور التي يجب على الداعية أن
يسلكها في دعوته، مع بيان شيء من مسائل وأحكام ووسائل وأساليب الدعوة إلى الله، والأولويات الواجب على الداعية أن يسلكها في دعوته، وشيء من الحكمة في التعامل مع المدعوين وبيئتهم، ولا أزعم الإحاطة فيما أشرت إليه، وإنما هي محاولات وإلماحات ونقولات، وقد جعلت الحديث عن هذا الموضوع يدور في محورين اثنين:
الأول: البصيرة فيما يدعو إليه.
الثاني: البصيرة في حال المدعوين وكيفية دعوتهم.
والله المسؤول أن يوفقنا وجميع المسلمين لما يحبه ويرضاه، وأن يهدينا صراطه المستقيم، وأن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، إنه سميع مجيب.
وكتب
عزيز بن فرحان العنزي
1425 -