الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إحسان الظن بالخصم، وعدم سحب نتائج المجادلة إلى الحياة العملية، إنما تنتهي بانتهاء مجلسها، يقول يونس الصفدي:" ما رأيت أعقل من الشافعي ناظرته يوما في مسألة ثم افترقنا، ولقيني وأخذ بيدي، ثم قال: يا أبا موسى، ألا يستقيم أن نكون إخوانًا وإن لم نتفق في مسألة "(1) .
وأما مع غير المسلمين فالواجب أيضا استعمال الأسلوب الحسن في النقاش، واحترام الخصم المقابل، وإن سوء أدب المقابل، وقلة حيائه لا يسوغ أبدا معاملته بالمثل؛ لأن المسلم يتعامل من منطلق ما يمليه عليه دينه، وما تفرضه أخلاقه إلا الذين ظلموا منهم، فيجوز- والحالة هذه- التعنيف عليهم، وزجرهم بالقول الذي يكون وقعه شديدًا على نفوسهم من باب العقوبة والزجر لهم.
[أدب القرآن السامي في هذا الباب]
أدب القرآن السامي في هذا الباب: وقد أعطانا القرآن الكريم نماذج تطبيقية للمجادلة بالتي هي أحسن تربية لنا وتعليما، منها: قول الله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} [آل عمران: 64](2) .
وقد أمر الله تعالى نبييه موسى وهارون عليهما السلام أن يجادلا الطاغية فرعون بالتي هي أحسن، وأن يُلينا له القول، قال تعالى:{فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44](3) .
لأن للرياسة سُكرا والتغليظ لا يناسب من هو في مثل حاله، وقد بين ربنا تبارك وتعالى هذا القول اللين بقوله:{هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} [النازعات: 18](4) فأخرجه
(1) سير أعلام النبلاء (10 / 16) وقد علق الذهبي على هذه القصة فقال: " هذا يدل على كمال عقل الإمام وفقه نفسه، فما زال النظراء يختلفون ".
(2)
آل عمران: 64.
(3)
طه: 44.
(4)
النازعات: 18.
مخرج السؤال لا الأمر، وذلك لموضع تجبر فرعون وعتوه.
وقال تعالى مادحا نبيه صلى الله عليه وسلم بما امتن عليه من جعله رحيمًا بالمدعوين، مشفقًا عليهم، وأن ذلك من أسباب إقبالهم عليه فقال:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159](1) .
وأيضا قد يكون في التعنيف والغلظة على الكافر مفاسد كبيرة، فقد يقوده ذلك لسب الله تعالى، أو سب الرسول صلى الله عليه وسلم، أو سب الإسلام، ولأجل هذا نهى الله تعالى عن سب آلهة الكفار مع أن سبها من الدين، وذلك خشية تولد منكر أعظم قال تعالى:{وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108](2) .
وإذا كنا قد أُمرنا بمجادلة أهل الكتاب والملحدين بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم فأهل الإسلام أولى بأن يراعى في جدالهم الرفق واللين، وإظهار الرحمة بهم، وليست هذه قاعدة مطردة، فقد يحتاج المجادل إلى نوع إغلاط وشدة حسب مقتضيات الحال، كما بينت في البصيرة في الوعظ وذلك لمصلحته، لكونه قد يستفيد من الإغلاظ أكثر من الترفق.
على كل حال، فإن حسن الخلق مع الغير قيمة أعلى الإسلام من شأنها، وأكد عليها، وأكثر من الإشارة إليها؛ فهي أحد معايير القرب من الله تعالى.
إلا أننا نلحظ في الآية الكريمة تقييد الموعظة والمجادلة بالحسن، وإطلاق الحكمة.
يقول ابن القيم جوابا على هذا: " أطلق الحكمة ولم يقيدها بوصف الحسنة؛ إذ كلها حسنة، ووصْفُ الحسن لها ذاتي، وأما الموعظة فقيدها بوصف الإحسان، إذ ليس كل موعظة حسنة، وكذلك الجدال قد يكون
(1) آل عمران: 158.
(2)
الأنعام: 108.