الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فصل في منهج الدعوة إلى الله تعالى]
فصل
في منهج الدعوة إلى الله تعالى ولتعلم - أرشدني الله وإياك للحق والصواب - أن منهج الدعوة إلى الله تعالى أمر توقيفي؛ لأن الدعوة إلى الله عبادة من العبادات، وقربة من القرب.
فالدعوة إلى الله تعالى ليست أرضا مباحة لكل أحد، يجتهد فيها وفق ذوقه ورأيه بل لا بد فيها من التسليم والاتباع التام للنبي صلى الله عليه وسلم.
وأوقفك - أوقفني الله وإياك مواطن رضاه - إلى جواب فصل في هذه المسألة لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ذكر فيه نكتا ولُمعا لا يستغني عنها داعية، ولا طالب علم، وذلك في معرض جوابه على سؤال أورد عليه وهو: " وسئل. . . عن جماعة يجتمعون على قصد الكبائر من القتل وقطع الطريق والسرقة وشرب الخمر وغير ذلك. ثم إن شيخا من المشايخ المعروفين بالخير واتباع السنة قصد منع المذكورين من ذلك، فلم يمكنه إلا أن يقيم لهم سماعا (1) يجتمعون فيه بهذه النية، وهو بدف بلا صلاصل (2)
(1) السماع هو الغناء، وتتمة السؤال مع الجواب توضح المراد منه.
(2)
شيء من الحديد أو المعدن يركب على الدف فيحدث رنينا، وأصلها: صَلَّ أي صَوَّتَ، فإن تكررت كمن يرجع أو يسمع له دوي فهي صلصل، والصلصلة: صوت الحديد إذا حُرِّك. انظر " القاموس المحيط "[ص 1022، 1023] ، و " النهاية في غريب الحديث والأثر "[ص 523] .
وغناء المغني بشعر مباح بغير شبابة، فلما فعل هذا تاب منهم جماعة، وأصبح من لا يصلي ويسرق ولا يزكي يتورع عن الشبهات، ويؤدي المفروضات، ويجتنب المحرمات. فهل يباح فعل هذا السماع لهذا الشيخ على هذا الوجه لما يترتب عليه من المصالح مع أنه لا يمكنه دعوتهم إلا بهذا؟ ".
فأجاب رحمه الله فقال: الحمد لله رب العالمين.
أصل جواب هذه المسألة وما أشبهها: أن يعلم أن الله بعث محمدا بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا، وأنه أكمل له ولأمته الدين كما قال تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3](1) .
وأنه بشر بالسعادة لمن أطاعه، والشقاوة لمن عصاه، فقال تعالى:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69](2) وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن: 23](3) وأمر الخلق أن يردوا ما تنازعوا فيه من دينهم إلى ما بعثه به، كما قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59](4) .
وأخبر أنه يدعو إلى الله وإلى صراطه المستقيم، كما قال تعالى:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108](5) وقال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ - صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} [الشورى: 52 - 53](6) وأخبر أنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويحل
(1) المائدة: 3.
(2)
النساء: 69.
(3)
الجن: 23.
(4)
النساء: 59.
(5)
يوسف: 108.
(6)
الشورى: 52 - 53.
وقد أمر الله الرسول صلى الله عليه وسلم بكل معروف، ونهى عن كل منكر، وأحل كل طيب، وحرم كل خبيث، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال:«إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينذرهم شر ما يعلمه لهم» (2) وثبت عن العرباض بن سارية قال: «وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون، قال: فقلنا: يا رسول الله، كأن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ فقال: أوصيكم بالسمع والطاعة؛ فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا؛ فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» (3) .
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما تركت شيئا مما أمركم الله به إلا قد أمرتكم به، وما تركت شيئا مما نهاكم عنه إلا وقد نهيتكم عنه» (4) . وقال: «تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك» (5) .
(1) الأعراف: 156 - 157.
(2)
رواه مسلم في " الصحيح "(12 / 233) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
(3)
صحيح أخرجه: أبو داود (5 / 13) ؛ والترمذي (4 / 408) وقال: " حديث حسن صحيح "، وابن ماجه (1 / 15) .
(4)
صحيح أخرجه الشافعي في الرسالة (ص (289 و 306) ، والمسند (2 / 413) ، والبغوي في شرح السنة (14 / 303)، وانظر: الصحيحة (1803) .
(5)
صحيح أخرجه: ابن ماجه (1 / 16) ، وأحمد في المسند (4 / 126) عن العرباض بن سارية رضي الله عنه.
وشواهد هذا الأصل العظيم الجامع من الكتاب والسنة كثيرة، وترجم عليه أهل العلم في الكتب " كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة " كما ترجم عليه البخاري والبغوي وغيرهما، فمن اعتصم بالكتاب والسنة كان من أولياء الله المتقين وحزبه المفلحين وجنده الغالبين.
وكان السلف - كمالك وغيره - يقولون: السُّنَّة كسفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق.
وقال الزهري: كان من مضى من علمائنا يقولون: الاعتصام بالسنة نجاة.
إذا عرف هذا فمعلوم أن ما يهدي الله به الضالين ويرشد به الغاوين ويتوب به على العاصين لا بد أن يكون فيما بعث الله به رسوله من الكتاب والسنة، وإلا فإنه لو كان ما بعث الله به الرسول صلى الله عليه وسلم لا يكفي في ذلك لكان دين الرسول ناقصا محتاجا تتمة.
وينبغي أن يُعلم أن الأعمال الصالحة أمر الله بها أمر إيجاب أو استحباب والأعمال الفاسدة نهى الله عنها. والعمل إذا اشتمل على مصلحة ومفسدة فإن الشارع حكيم إن غلبت مصلحته على مفسدته شَرَعَه، وإن غلبت مفسدته على مصلحته لم يشرعه، بل نهى عنه، كما قال تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216](1) .
وقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219](2) .
ولهذا حرمهما الله تعالى بعد ذلك، وهكذا ما يراه الناس من الأعمال مقربا إلى الله ولم يشرعه الله ورسوله؛ فإنه لا بد أن يكون ضرره أعظم من نفعه وإلا فلو كان نفعه أعظم غالبا على ضرره لم يهمله الشارع، فإنه صلى الله عليه وسلم
(1) البقرة: 216.
(2)
البقرة: 219.
حكيم لا يهمل مصالح الدين، ولا يفوت المؤمنين ما يقربهم إلى رب العالمين.
إذا تبين هذا فنقول للسائل: إن الشيخ المذكور قصد أن يُتَوِّب المجتمعين على الكبائر، فلم يمكنه ذلك إلا بما ذكره من الطريق البدعي، يدل أن الشيخ جاهلٌ بالطرق الشرعية التي بها تتوب العصاة، أو عاجز عنها؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين كانوا يدعون من هو شر من هؤلاء من أهل الكفر والفسوق والعصيان بالطرق الشرعية التي أغناهم الله بها عن الطرق البدعية. فلا يجوز أن يقال: إنه ليس في الطرق الشرعية التي بعث الله بها نبيه ما يتوب به العصاة، فإنه قد علم بالاضطرار والنقل المتواتر أنه قد تاب من الكفر والفسوق والعصيان من لا يحصيه إلا الله تعالى من الأمم بالطرق الشرعية التي ليس فيها ما ذكر من الاجتماع البدعي؛ بل السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان - وهم خير أولياء الله المتقين من هذه الأمة - تابوا إلى الله تعالى بالطرق الشرعية لا بهذه الطرق البدعية.
وأمصار المسلمين وقراهم قديما وحديثا مملوءة ممن تاب إلى الله واتقاه وفعل ما يحبه الله ويرضاه بالطرق الشرعية، لا بهذه الطرق البدعية، فلا يمكن أن يقال: إن العصاة لا تمكن توبتهم إلا بهذه الطرق البدعية، بل قد يقال: إن في الشيوخ من يكون جاهلا بالطرق الشرعية عاجزا عنها، ليس عنده علم بالكتاب والسنَّة وما يخاطب به الناس ويسمعهم إياه مما يتوب الله عليهم فيعدل هذا الشيخ عن الطرق الشرعية إلى الطرق البدعية - إما مع حسن القصد إن كان له دين، وإما أن يكون غرضه الترؤس عليهم، وأخذ أموالهم بالباطل - كما قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34](1) فلا يعدل أحد عن الطرق الشرعية إلى البدعية إلا لجهل، أو عجز، أو غرض فاسد " (2) اهـ.
(1) التوبة: 34.
(2)
مجموع الفتاوى (11 / 621 - 623) .