الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فصل في ضرورة الاعتناء بمعرفة القواعد والضوابط العامة للدين ومقاصد الشريعة وأصولها]
فصل
في ضرورة الاعتناء بمعرفة القواعد
والضوابط العامة للدين ومقاصد الشريعة وأصولها إن من أهم الأشياء التي يجب على الداعية الاعتناء بها وضبطها هي القواعد والأصول العامة للدين، والألفاظ العامة والخاصة الواردة في القرآن والسنة وضبطها، مثل لفظ:" الظلم والمعصية، والفسوق، والفجور، والموالاة، والتولي، والمعاداة، والركون، والشرك، ونحو ذلك من الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة التي قد يراد مسماها المطلق وحقيقتها المطلقة، وقد يراد بها مطلق الحقيقة، والأول هو الأصل عند الأصوليين، والثاني لا يحمل الكلام عليه إلا بقرينة لفظية أو معنوية. . . "(1) .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في معرض حديثه عن معرفة حد الأسماء التي علق الله تعالى بها الأحكام في الكتاب والسنة: " منها ما يعرف حده ومسماه في الشرع، فقد بينه الله ورسوله كاسم الصلاة والزكاة، والكفر والنفاق، ومنه ما يعرف حده باللغة كالشمس، والقمر، والسماء والأرض، ومنه ما يرجع حده إلى عادة الناس وعرفهم، فيتنوع بحسب عادتهم كاسم البيع والنكاح، والقبض والدرهم والدينار، ونحو ذلك من
(1) من كلام العلامة عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن ضمن مجموع (الرسائل المفيدة ص 12)(بتصرف يسير) .
الأسماء التي لم يحدها الشارع بحد، ولا لها حد واحد يشترك فيه جميع اللغة " (1) .
فمعرفة دلالات الألفاظ على المعاني ومباحث الألفاظ والدلالة والحقيقة والمجاز المبسوطة في كتب الأصول وتحريها في مرتبة الضرورة للداعية، وهي تزيد من قيمته، لأنه بهذا المنهج يستطيع أن يتعامل مع الوقائع والأحداث الفردية والعامة، والحوادث، والنوازل، بكل يسر وسهولة، ولا خوف عليه، إنما الذي يخشى عليه من يفقد هذا النوع من الفقه؛ فإن أحكامه في الغالب تأتي مشلولة أو متناقضة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: " لا بد أن يكون مع الإنسان أصول كلية ترد إليها الجزئيات؛ ليتكلم بعلم وعدل، ثم يعرف الجزئيات كيف وقعت؟ وإلا فيبقى في كذب وجهل في الجزئيات، وجهل وظلم في الكليات، فيتولد فساد عظيم "(2) .
ويظهر مما سبق ذكره أن من أكثر المجالات التي يحتاج فيها الداعية إلى ضبط ألفاظها ومصطلحاتها هو المجال الفقهي؛ ذلك لأن أكثر أحوال الناس وأعمالهم منضبطة بالشرع من الناحية العملية، لما يترتب عليه من إصدار الفتاوى.
وأيضا مما ينبغي على الداعية التبصر به في هذا الباب المصطلحات العصرية، والألفاظ الدارجة على ألسنة العامة أو أصحاب الاختصاصات، وتخريجها على القواعد والأصول المعروفة في كتب الفقه؛ لأنه لا يمكن أن يكون المرء فقيها بحق إلا بمعرفة هذه الأشياء التي قد تتعلق بالطلاق، والأيمان، وفي العقود، والمعاملات، والسندات، والعولمة، وغيرها كثير.
ولذلك يعظم قدر الداعية إلى الله ويشرف بقدر إحاطته بالنصوص الشرعية، وتتبع أقوال السلف فيها، وإلمامه بالقواعد والضوابط والأصول
(1) مجموع الفتاوى (19 / 235) .
(2)
مجموع الفتاوى (19 / 203) .
العامة للدين، ومعرفة أقوال أهل العلم من المتقدمين والمتأخرين لا سيما سلف الأمة، ومعرفة مقاصد الشريعة، والمصالح والمفاسد وضبطهما؛ لأنه يخاطب الناس، ويتحدث إلى شرائح متنوعة في المجتمعات، ويتعرض لمواقف كثيرة، ونوازل ومستجدات عظيمة، ولذلك تجد الملم بقواعد الدين وأصوله أقرب الناس إلى روح السلف الصالح، والألصق إلى لغتهم في التعبير ولهجتهم في الخطاب، فهو يعرف ما حقه التقديم، وما حقه التأخير، ويعرف خير الخيرين، وشر الشرين؛ فمعرفة الخير من الشر - في الواقع - لا تحتاج إلى إعمال فكر وتعب، ولا يتميز شخص عاقل بأنه يعرف الخير من الشر؛ فهذه تدرك بمقدمات العقول قبل أواخرها، وباستطاعة كل ذي عقل أن يدركها، فهي من البدهيات، إنما الذي يحتاج إلى إعمال فكر وتعب هو معرفة خير الخيرين، وشر الشرين، وأيهما أحق بالتقديم أو التأخير.
إن اللبيب إذا بدا من جسمه
…
مرضان داوى الأكبرا
يقول ابن رجب رحمه الله: " فالعلم النافع من هذه العلوم كلها ضبط نصوص الكتاب والسنة، وفهم معانيها، والتقيد في ذلك بالمأثور عن الصحابة والتابعين وتابعيهم في معاني القرآن والحديث، وفيما ورد عنهم من الكلام في مسائل الحلال والحرام، والزهد والرقائق، والمعارف، وغير ذلك، والاجتهاد في تمييز صحيحه من سقيمه أولا، ثم الاجتهاد على الوقوف على معانيه وتفهمه ثانيا، وفي ذلك كفاية لمن عقل، وشُغل لمن بالعلم النافع عُني واشتغل "(1) .
والداعية الذي له صلة بالقواعد والضوابط الشرعية والأصول المرعية التي قعَّدها السلف الصالح - وهم الذين أُمرنا بالاقتداء بهم والسير على طريقهم - في جميع أموره وأحواله، ويجعلها منطلقا له في دعوته وتوجيهه الناس سيوفق بإذن الله، وقد أحسن من انتهى إلى ما قد سمع.
(1) فضل علم السلف على الخلف (ص 150) .
قال ابن القيم رحمه الله: " صحة الفهم وحسن القصد من أعظم نعم الله التي أنعم بها على عبده، بل ما أُعطي عبد عطاء بعد الإسلام أفضل ولا أجل منهما، بل هما ساقا الإسلام، وقيامه عليهما، وبهما يأمن العبد طريق المغضوب عليهم الذين فسد قصدهم، وطريق الضالين الذين فسدت فهومهم، ويصير من المُنْعَم عليهم الذين حسنت أفهامهم وقصودهم، وهم أهل الصراط المستقيم الذين أُمرنا أن نسأل الله أن يهدينا صراطهم في كل صلاة؛ وصحة الفهم نور يقذفه الله في قلب العبد، يميز به بين الصحيح والفاسد، والحق والباطل، والهدى والضلال، والغي والرشاد، ويمده حسن القصد، وتحري الحق، وتقوى الرب في السر والعلانية، ويقطع مادته اتباع الهوى، وإيثار الدنيا، وطلب محمدة الخلق، وترك التقوى "(1) .
وأيضا عليه الاهتمام بمقاصد الشريعة، وحِكمها، ومحاسنها، فإن الاهتمام بمقاصد الشريعة من أولى ما ينبغي على الداعية الاهتمام به.
يقول ابن القيم في أول الفصل الذي عقده في تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد، وأن بناء الشريعة على مصالح العباد في المعاش والمعاد: " هذا فصل عظيم النفع جدا، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة، أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يُعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها؛ فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل.
فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه، وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم، أتم دلالة وأصدقها، وهي
(1) إعلام الموقعين (1 / 87) .
نوره الذي به أبصر المبصرون، وهداه الذي به اهتدى المهتدون، وشفاؤه التام الذي به دواء كل عليل، وطريقه المستقيم الذي من استقام عليه فقد استقام على سواء السبيل، فهي قرة العيون، وحياة القلوب، ولذة الأرواح، فهي بها الحياة والغذاء، والدواء والنور، والشفاء والعصمة، وكل خير في الوجود، فإنما هو مستفاد منها وحاصل بها، وكل نقص في الوجود فسببه من إضاعتها، ولولا رسوم قد بقيت لخربت الدنيا وطوي العالم، وهي العصمة للناس، وقوام العالم، وبها يمسك الله السماوات والأرض أن تزولا، فإذا أراد الله سبحانه وتعالى خراب الدنيا وطي العالم رفع إليه ما بقي من رسومها، فالشريعة التي بعث الله بها رسوله هي عمود العالم، وقطب الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة " (1) .
فهذه الأمور من المهم للداعية أن يتقنها، وذلك لضمان نجاح دعوته بإذن الله، ولا يعني هذا بالضرورة أن يكون ملما بكل ما سبق، فهذا مما لا يحصل إلا نادرا، بل هناك أشياء يجب وجوبًا عينيا أن يكون محيطا بها، وهناك أشياء هي من مكملات وظيفته تطلب من مظانها.
(1) إعلام الموقعين (3 / 14، 15) .