الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بالتي هي أحسن، وقد يكون بغير ذلك، وهذا يحتمل أن يرجع إلى حال المجادل، وغلظته، ولينه، وحدته، ورفقه، فيكون مأمورا بمجادلتهم بالحال التي هي أحسن، ويحتمل أن يكون صفة لما يجادل به من المطلوب، والتحقيق أن الآية تتناول النوعين " (1) .
[حاجة الداعية إلى فن الجدل والمناظرة]
حاجة الداعية إلى فن الجدل والمناظرة: ومن المتطلبات الضرورية للداعية حاجته إلى فهم أصول الجدال، والحوار، والمناظرة؛ فإن كثيرا من الناس بدافع المحبة والعاطفة للإسلام يفسد أكثر مما يصلح، إما بالسب والشتم للمقابل، أو بعدم التمكن من التحاور لسرعة غضبه وحمقه، وقد يكون البعض من الدعاة صيدا ثمينا لخاتل مارق يريد أن يفسد عليه، وذلك بإثارته، والتشغيب عليه، وجره إلى شبهات ينهزم أمامها في أول جولة، إن لم تتزعزع ثوابته، وتختلط عليه الأمور، وقد رأينا شيئًا من هذا في مناسبات متعددة.
ولذلك ينبغي على الداعية أن ينظر في ما كتب استقلالا في أصول الجدل والمناظرة، وما تضمنته كتب أصول الفقه من شروط وآداب الجدل والمناظرة، وأن يتدرب على ذلك، وألا يدخل الماء إلا وهو يحسن السباحة.
وأيضا قد يكون من المناسب والمفيد أن يطلع على الأجوبة المسكتة، في مناظرات الأئمة، خاصة في أبواب الاعتقاد؛ ليعتاد على مثلها، ولتكون حاضرة إذا ورد عليه شبيهها ومثلها.
ومن أجمل ما وقفت عليه من المناظرات والتي تمثل قواعد المحاورة الصحيحة وكيفية المحاجة ومعرفة تراتيب الأشياء والاستدلال بنصوص الوحيين ما حصل في فتنة القول بخلق القرآن، فقد ذكر صالح بن علي الهاشمي قال: " حضرت يوما من الأيام جلوس المهتدي للمظالم، فرأيت
(1) مدارج السالكين: (1 / 446) .
من سهولة الوصول إليه ونفوذ الكتب عنه إلى النواحي فيما يتظلم به إليه ما استحسنته، فأقبلت أرمقه ببصري إذا نظر في القصص، فإذا رفع طرفه إلي أطرقت، فكأنه علم ما في نفسي، قال لي: يا صالح، أحسب أن في نفسك شيئا تحب أن تذكره، قال: فقلت: نعم يا أمير المؤمنين، فأمسك، فلما فرغ من جلوسه أمر ألا أبرح ونهض، فجلست جلوسا طويلا، فقمت إليه وهو على حصير الصلاة، فقال لي: يا صالح، أتحدثني بما في نفسك أم أحدثك به؟ فقلت: بل هو من أمير المؤمنين أحسن، فقال: كأني بك وقد استحسنت ما رأيت من مجلسنا، فقلت: أي خليفة خليفتنا إن لم يكن يقول بقول أبيه من القول بخلق القرآن! فقلت: نعم.
فقال: قد كنت على ذلك برهة من الدهر، حتى أقدم على الواثق شيخ من أهل الفقه والحديث من أذنه من الثغر الشامي مقيد طوال حسن الشيبة، فسلم غير هائب، ودعا فأوجز، فرأيت الحياء منه في حماليق عيني الواثق والرحمة عليه.
فقال: يا شيخ، أجب أبا عبد الله أحمد بن أبي دؤاد عما يسألك عنه.
فقال: يا أمير المؤمنين، أحمد يصغر ويضعف ويقل عند المناظرة.
فرأيت الواثق وقد صار مكان الرحمة عليه والرقة له غضبا، فقال: أبو عبد الله يصغر ويضعف ويقل عند مناظرتك؟ ! فقال: هون عليك يا أمير المؤمنين، أتأذن في كلامه؟ فقال له الواثق: قد أذنت لك.
فأقبل الشيخ على أحمد، فقال: يا أحمد، إلام دعوت الناس؟ فقال أحمد: إلى القول بخلق القرآن، قال له الشيخ: مقالتك هذه التي دعوت الناس إليها من القول بخلق القرآن أداخلة في الدين فلا يكون الدين تاما إلا بالقول بها؟ قال: نعم، قال الشيخ: فرسول الله صلى الله عليه وسلم دعا الناس إليها أم تركهم؟ ؛ قال: تركهم، قال له: فعلمها أم لم يعلمها؟ قال: علمها، قال: فلم دعوت الناس إلى ما لم يدعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركهم منه؟ فأمسك، فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين هذه واحدة.
ثم قال له: أخبرني يا أحمد، قال الله تعالى في كتابه العزيز:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] فقلت أنت: إن الدين لا يكون تاما إلا
بمقالتك بخلق القرآن، فالله عز وجل أصدق في تمامه وكماله أم أنت في نقصانك؟ ! فأمسك، فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، وهذه ثانية.
ثم قال بعد ساعة: أخبرني يا أحمد، قال الله عز وجل:{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67] فمقالتك هذه التي دعوت الناس إليها فيما بلغه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأمة أم لا؟ فأمسك، فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، وهذه ثالثة.
ثم قال له بعد ساعة: أخبرني يا أحمد لما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالتك هذه التي دعوت الناس إلى القول بها اتسع له أن أمسك عنهم أم لا؟ قال أحمد: بل اتسع له ذلك، فقال الشيخ: وكذلك لأبي بكر، وكذلك لعمر، وكذلك لعثمان، وكذلك لعلي رحمة الله عليهم؟ قال: نعم.
فصرف وجهه إلى الواثق، وقال: يا أمير المؤمنين، إذا لم يتسع لنا من اتسع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه فلا وسع الله علينا، فقال الواثق: نعم، لا وسع الله علينا إذا لم يتسع لنا ما اتسع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه.
ثم قال الواثق: اقطعوا قيوده، فلما فكت جاذب عليها، فقال الواثق: دعوه، ثم قال: يا شيخ، لم جاذبت عليها؟ قال: لأني عقدت في نيتي أن أجاذب عليها، فإذا أخذتها أوصيت أن تجعل بين بدني وكفني حتى أقول: يا ربي، سل عبدك: لم قيدني ظلما وأراع بي أهلي؟ فبكى الواثق وبكى الشيخ وكل من حضر.
ثم قال له الواثق: يا شيخ، اجعلني في حل، فقال: يا أمير المؤمنين، ما خرجت من منزلي حتى جعلتك في حل إعظاما لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقرابتك منه.
فتهلل وجه الواثق وسر، ثم قال له: أقم عندي آنس بك، فقال له: مكاني في ذلك الثغر أنفع، وأنا شيخ كبير، ولي حاجة، قال: سل ما بدا لك، قال: يأذن أمير المؤمنين في الرجوع إلى الموضع الذي أخرجني منه هذا الظالم، قال: قد أذنت لك، وأمر له بجائزة فلم يقبلها.
فرجعت من ذلك الوقت عن تلك المقالة، وأحسب أيضا أن الواثق رجع عنها " (1) .
(1) انظرها في: الاعتصام للشاطبي (2 / 46-48) تحقيق مشهور آل سلمان.