الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَثَرُ الْفِكْرَةِ الدِّينِيَّةِ فِي تَكْوِينِ الْحَضَارَةِ
كنا قد بينا في الفصل السابق الذي جعلنا عنوانه "من التكديس إلى البناء" دور الفكرة الدينية حينما تدخل كمركب ( Catalyseur) في التركيب البيولوجي لإحدى الحضارات. وذلك باستنادنا إلى حد ما على أفكار "كيسرلنج" وعلى معطيات التاريخ بصورة عامة.
غير أن هذا التفسير التاريخي قد بدا غير كاف لدى قراء الطبعة الأولى لهذا الكتاب. ولهذا فقد طلب مني بعضهم- والطلبة على وجه أخص- أن أفرد تحليلا أعمق تقصيا لجوانب الموضوع في طبعة ثانية للكتاب.
وبودي أن أعرب لهؤلاء الذين أبدوا هذه الملاحظة عن تقديري لهم. لأنها تكشف عن مدى تحمسهم لمشاكل الحضارة. وهو تحمس لا شك يشرف هؤلاء الشباب من رواد الأمة.
من أجل هذا وضعت هذا الفصل ورأيت من واجبي أن أعيد فيه دراسة هذه المشكلة دراسة لا تقصر على المعطيات التاريخية وإنما هي تهتم أيضا بمقاييس التحليل النفسي. ذلك ان المنهج الذي يتناول واقعة الحضارة لا على انها سلسلة من الأحداث يعطينا التاريخ قصتها، بل كـ"ظاهرة" يرشدنا التحليل إلى جوهرها، وربما يهدينا إلى "قانونها" أي إلى سنة الله فيها، هو القادر، فيما اعتقد، على أن يستجلي لنا بطريقة أوضح، الدور الايجابي الفعال للفكرة الدينية في تركيب تلك الواقعة. إذ يوضح لنا كيف تشرط هذه الفكرة سلوك الفرد وكيف هي تنظم غرائزه تنظيما عضويا في علاقتها الوظيفية ببناء إحدى الحضارات.
وبتعبير آخر إن المسألة هنا هي أن نوضح للقارىء كيف يتاح "للفكرة
الدينية" (1) أن تبني الإنسان حتى يقوم بدوره في بناء الحضارة وبالتالي كيف يتاح لهذه الفكرة ذاتها أن تمدنا بتفسير عقلي لدور إِحدى الديانات في توجيه التاريخ.
فما هي إذن الحدود التي تقف عندها الفكرة الدينية في تفسيرها للوقائع التاريخية؟
لقد اهتم معظم المؤرخين- ابتداء من توسيديد ( Thucydide) حتى "جيزو"( juizot) بتجميع الوقائع التاريخية بدل أن يهموا بالبحث في تفسير عقلي لهذه الوقائع في إطار معين. فلما جاء جيزو بدأ علم المؤرخ بفضل "عصر النور" يأخذ عنده صبغة علمية معينة. ومع ذلك فقد وجدنا لدى هذا المؤرخ الفرنسي الكبير نوعا من التحفظ الديكارتي يحول بينه وبين صياغة تفكيره الخاص في صورة منهجية مكتملة.
أما ابن خلدون، فقد تمكن من قبل من اكتشاف منطق التاريخ في مجرى أحداثه، فكان بهذا المؤرخ الأول الذي قام بالبحث عن هذا المنطق إذا لم نقل أنه قد قام بصياغته فعلاً. فقد كان يمكن أن يكون أول من أتيح له أن يصوغ قانون الدورة التاريخية ( La Loi du Cycle) لولا أن مصطلح عصره قد وقف به عند ناتج معين من منتوجات الحضارة ونعني به- الدولة- وليس عند الحضارة نفسها.
وهكذا لم نجد فيما ترك ابن خلدون غير نظرية عن تطور الدولة. في حين أنه كان من الأجدى لو أن نظريته رسمت لنا تطور الحضارة، حيث كنا نستطيع أن نجد فيها ثروة من نوع آخر، غير ذلك الذي أثرانا به فعلاً. إِذ لم تكن عبقرية ابن خلدون بعاجزة عن أن ترسم لنا ذلك التطور في صورة منهج قائم بذاته. ولقد كان القرن التاسع عشر هو القرن الذي ولدت فيه أول تفسيرات الواقعة الاجتماعية في إطار ظاهرة معينة هي "الحضارة" غير أن ماركس ومدرسته
(1) بالتعميم الذي قصدناه في فصل سابق.
حينما طبقا على هذه الواقعة الاجتماعية منطق الجدلية المادية، فقد كان طبيعيا أن يجدا في الشروط الاجتماعية الخاصة بأوروبا في عهدها الفكتوري ما يبرر النزعة المادية التاريخية في نظرهم.
فماركس ومدرسته يذهبان إلى ان كل اكتمال تاريخي لا يكون إلا نتيجة الضرورات المادية، وحاجات الإنسان الأساسية وبالتالي الوسائل الفنية التي يخترعها ويستعملها في تلبية تلك الحاجات. فالحاجة والفن الصناعي يمثلان في نظر ماركس مركزي التقاطب لقوى الانتاج، المركزين اللذين يحددان العلاقات الاجتماعية الخاصة بحضارة معينة، كما يحددان هذه الحضارة ذاتها معنويا وماديا. ولكن هذه النظرية لا تفسر لنا النقطة الأساسية الماثلة فيما يحدث من تفكك العلاقات الاجتماعية، وتلاشي الحضارات، دون ظهور أي تغيير في طبيعة الحاجات ووسائل الانتاج. فحضارات أمريكا السابقة على العهد الكولومبي. وكذلك الحضارة الرومانية لم تتلاش لفقدها الوسائل الصناعية والحاجات.
وهكذا نجد في التفسير الماركسي للوقائع التاريخية ثغرة أحدثها التحليل المفرط في المنهجية لهذه الوقائع، ذلك التحليل الذي يتخذ نقطة انطلاق، من حتمية مادية أي من عملية ميكانيكية لا إرادية لتخطيط الحضارة.
أما القرن العشرون فقد شاهد بوادر تفتح مناهج أخرى للتفسير، ينفسح فيها المجال داخل "تكوين" الحضارة لعوامل أخرى غير العوامل المقصورة على حاجة الإنسان المادية ووسائل الإنتاج.
فقد وضحنا سالفا كيف يفسر "كسرلنج" الحضارة الأوروبية باعتبارها تركيبا مكونا من "روح" المسيحية، وتقاليد الجرمانية. غير أن هذا الفيلسوف لم يكن هو السابق إلى هذا الطريق فقد سار فيه من قبل المؤرخ الفرنسي "جيزو" الذي كان ينظر إلى الأشياء من هذه الزاوية نفسها قبل "كسرلنج" بقرن كامل.
ثم يأتينا بعد ذلك فيلسوف ألماني آخر، ونعني به "سبنجلر"( Spengler) ليقودنا إلى نظرية أخرى. تفسر الحضارة باعتبارها ثمرة لعبقرية خاصة تسم عصرا معينا بميسم ابتداع أساسي، كما هو الشأن في "علم الجبر" بالنسبة إِلى الحضارة العربية.
وهكذا نجد في هذه النظرية العامل العنصري يتسرب على يد "سبنجلر" إلى المذاهب التاريخية، وهو العامل الذي سوف يتاح لدوره التاريخي فيما بعد، أن يحقق اكتماله المنهجي في المدرسة الهتلرية على يد روزنبرج.
ثم إن بعد ذلك بقليل. فيما بين الحربين العالميتين، نرى فيلسوفا جرماني الأصل "بلطي" الجنسية، وهو ولتر شوبرت ( Walter Schubart) يقوم بدوره بتكييف طريقة "سبنجلر" - إذا لم أقل مذهبه- مع نظريته التي تفسر الحضارة باعتبار نتاج عبقرية عصر معين وليس باعتبارها نتاج عبقرية جنس معين.
فقد بين "ولتر شوبرت" في كتاب قليل الذيوع بعنوان "أوروبا وروح الشرق" أن لكل عصر عبقريته الخاصة- أو " روحه الكلي "( éon) - الذي يسم حضارة هذا العصر أو ذاك بسمته الخاصة.
أما المؤرخ الانجليزي الكبير "جون أرنولد توينبي" فقد جاء من ناحيته بتفسير ضخم للحضارة يلعب فيه العامل الجغرافي دورا أساسيا. وقد كان مواطنه "السير جون هالفورد"( Sir j.Hallford) قد سبقه بنصف قرن من الزمان إلى إدخال العامل الجغرافي بطريقة منهجية في تفسير الحضارة. فكان عنوان نظريته المنصبة بصفة خاصة على غايات سياسية وعسكرية "القاعدة الجغرافية للتاريخ".
غير أن " توينبي" يُدخل هذا العامل الجغرافي ضمن مذهبه المتمثل فيما يدعوه "بالتحدي"( défi) ، وهو المذهب الذي يفسر الحضارة كـ"رد" معين يقوم به أحد الشعوب أو الأجناس مواجهة لـ"تحد" معين.
والطبيعة بالخصوص- أي الجغرافيا- هي التي تقوم بهذا ((التحدي)) وحسب مستوى التحدي، وفعالية "الرد" عليه من طرف الشعوب المواجَه به. فإن حضارته تكون بين احتمالات ثلاث:
فهي إما أن تقوم بوثبة إلى الأمام. وإما أن تصاب بالتوقف والجمود. وإما أن يلفها الفناء بردائه.
وإذا نحن حاولنا بعد الذي سردنا من النظريات أن نستعمل إحداها في تفسير لواقعة تاريخية محددة- ولتكن الحضارة الإسلامية على سبيل المثال- فإننا نجد أنها لا ترضينا تمام الرضى.
إذا نحن لا نرى في "تكوين" هذه الحضارة العامل الجغرافي أو المناخي في شكل "تحدٍّ" معين حسب نظرية توينبي، ولا العامل الاقتصادي الزوجي الأساس المتمثل في الحاجة، الوسيلة الصناعية حسب نظرية ماركس.
أما نظرية "الروح الكلي"( ecn) فلا تستطيع بدورها تفسير الظاهرة الإسلامية مع الظروف النفسية- الزمنية التي رافقتها، كما سبق لي أن أوضحت ذلك في كتابي "الظاهرة القرآنية"، ولقد يبدو في أفكار ((كسرلنج)) ما يمدنا بتخطيط تحليلي للواقعة المسيحية، نستطيع أن ندرج في نطاقه الواقعة الاسلامية.
وذلك لما فيها من وجوه التماثل البيولوجية- التاريخية المعينة. التي تضع الحضارة في كلتا الواقعتين، ضمن حالات تطورية متشابهة.
وهي حالات قد أعدت لها جميع اللغات المتطورة مصطلحاً خاصا لتحديدها.
إذ تشير إلى هذه الحالات الثلاث: بالنهضة، والأوج، والأفول.
وعلى هذا فـ"كسرلنج" و"أوسفالد شبنجلر)، لم يخرجا في دراستيهما من حيث المصطلح الشعبي في اللغات المتطورة عن واقع التاريخ وهو التقاء فرضته طبيعة الأحداث وليس مجرد الصدفة العارضة.
ولو حاولنا الآن بدورنا عرض التحليل التاريخي في صورة تخطيطية لأمكننا
- كما يحدث ذلك عند عرض ظاهرة فيزيقية- أن نشاهد قانون ظاهرة الحضارة.
فنحن نعلم مسبقا أن حضارة معينة تقع بين حدين اثنين: الميلاد والافول.
وإذن فنحن نملك هنا نقطتين اثنتين من دورتها باعتبارهما ليستا محل نزاع. والمنحنى البياني يبدأ بالضرورة من النقطة الأولى في خط صاعد، ليصل إلى النقطة الثانية في خط نازل. فما الذي يمكننا أن نضع من طور انتقالي يتوسط هذين الخطين؟ ويجيبا المصطلح الشعبي- (الذي سبق ذكره، والذي يلتقي كما رأينا مع التحليل التاريخي) - مشيرا إلى طور وسيط هو: الأوج.
وبين الطورين الأولين يوجد بالضرورة توازٍ معين، يشير إلى تعاكس في الظاهرة. فطور الأفول النازل هو عكس طور النهضة الصاعدة. وبين الطورين يوجد بالضرورة اكتمال معين هو: طور انتشار الحضارة وتوسعها.
ولو حاولنا ترجمة هذه الاعتبارات في صورة تخطيطية لحصلنا على التخطيطي التالي:
.......... «صورة التخطيط» ..........
فنحن نملك الآن أمام أنظارنا، وسيلة نستطيع بها تتبع اطراد حضارة معينة، بطريقة شاهدة على نحو من الانحاء، كما تمكننا من عقد الصلات المشروعة بين العوامل النفسية- الزمنية المختلفة التي تلعب دورا في هذا الاطراد بالضرورة.
ومن المؤكد أنه عندما نتناول الحضارة الإسلامية فلا بد من أن يدخل في اطرادها بالضرورة عاملان هما: الفكرة الإسلامية التي هي أصل الاطراد نفسه؛ والإنسان المسلم الذي هو السند المحسوس لهذه الفكرة.
وعليه فإنه مما ينسجم وطبيعة الأشياء حينما ندرس تطور هذه الحضارة، أن ندرس من حيث الأساس العلاقة العضوية التي تربط الفكرة بسندها. وإذن فكل القيم النفسية- الزمنية التي تميز مستوى حضارة ما في وقت معين، ليست إلا الترجمة التاريخية لهذه العلاقة العضوية بين فكرة معينة كالاسلام مثلا، والفرد الذي يمثل بالنسبة إليها السند المحسوس. وهو هنا المسلم.
ومن هنا تعين علينا اللجوء إلى لغة التحليل النفسي بغية تتبع اطراد الحضارة باعتباره صورة زمنية للافعال وردود الأفعال المتبادلة والتي تتولد منذ مطلع هذا الاطراد بين الفرد والفكرة الدينية التي تبتعث فيه الحركة والنشاط. وحينئذ فعندما نعتبر الفرد عند نقطة الصفر في الصورة التخطيطية التي قدمناها فإننا نجده في الحالة التي يعرفها بعض المؤرخين المسلمين بـ"الفطرة"، مع جميع غرائزه كما وهبته إياها الطبيعة. فالفرد في هذه الحالة ليس أساسه إلا "الانسان الطبيعي" أو الفطري ( L'homonatuna) غير أن الفكرة الدينية سوف تتولى إِخضاع غرائزه إلى " عملية شرطية "، ( Conditionnement) تمثل ما يصطلح عليه علم النفس "الفرويدي" بـ"الكبت"( Refoulement) .
وهذه العملية الشرطية ليس من شأنها القضاء على الغرائز ولكنها تتولى تنظيمها في علاقة وظيفية مع مقتضيات الفكرة الدينية: فالحيوية الحيوانية التي تمثلها الغرائز بصورة محسوسة لم تلغ ولكنها انضبطت بقواعد نظام معين.
وفي هذه الحالة يتحرر الفرد جزئيا من قانون الطبيعة المفطور في جسده. ويخضع وجوده في كليته إلى المقتضيات الروحية التي طبعتها الفكرة الدينية في نفسه. بحيث يمارس حياته في هذه الحالة الجديدة حسب قانون الروح.
هذا القانون نفسه هو الذي كان يحكم بلالاً حينما كان تحت سوط العذاب يرفع سبابته ولا يفتر عن تكرار قوله "أحد! .. أحد! .. " إذ من الواضح أن هذه القولة لا تمثل صيحة الغريزة. فصوت الغريزة قد صمت، ولكنه لا يمكن
أن يكون قد ألغي بواسطة التعذيب. كما أنها لا تمثل صوت العقل أيضا فالألم لا يتعقل الأشياء.
إنها صيحة الروح التي تحررت من إسار الغرائز بعدما تمت سيطرة العقيدة عليها نهائيا في ذاتية "بلال بن رباح"؟
كذلك كان المجتمع الاسلامي يحكمه هذا التغير نفسه. إذ كان شأنه شأن "بلال" لا يتحدث بلغة غريزة اللحم والدم من ناحية ومن ناحية أخرى فإن صوت العقل كان لا يزال صامتا في هذا المجتمع الوليد. فكل لغة هذا العمر قد كانت روحية المنطق إذ هي بنت الروح أولاً وقبل كل شيء.
ذلكم هو الطور الأول من أطوار حضارة معينة. الطور الذي تروّض فيه الغرائز وتسلك في نظام خاص تكبح فيه الجماح وتتقيد عن الانطلاق.
إنها الروح في صوت بلال هي التي تتكلم وتتحدى بلغتها الدم واللحم.
كما أن ذلك الصحابي كأنه يتحدى بسبابته المرفوعة الطبيعة البشرية ويرفع بها، في لحظة معينة، مصير الدين الجديد. كما أنها هي نفسها تتحدث بصوت تلك "المرأة الزانية" التي أقبلت إلى "الرسول" لتعلن عن خطيئتها وتطلب إقامة حد الزنى عليها. فالوقائع هذه جميعها تخرج عن معايير الطبيعة. وتدل على أن الغريزة قد كبتت. غير أنها ظلت محتفظة بنزوعها إلى التحرر. وهنا ينشب الصراع المحتدم بين هذا النزوع وسيطرة الروح.
وفي الوقت نفسه يواصل المجتمع الذي أبرزته الفكرة الدينية إلى النور تطوره. وتكتمل شبكة روابطه الداخلية، بقدر امتداد إِشعاع هذه الفكرة في العالم، فتنشأ المشاكل المحسوسة لهذا المجتمع الوليد نتيجة توسعه، كما تتولد ضرورات جديدة نتيحة اكتماله. وحتى تستطيع هذه الحضارة تلبية هذه المقاييس المستجدة تسلك منعطفا جديدا، فإما أن يتطابق مع "النهضة" كما نراها بالنسبة إلى الدورة الأوروبية. وإما أن يتطابق مع استيلاء الأمويين على الحكم
كما هو شأن الدورة الإسلامية. وفي كلا الحالتين فإن المنعطف هو منعطف العقل. غير أن هذا العقل لا يملك سيطرة الروح على الغرائز. وحينئذ تشرع الغرائز في التحرر من قيودها بالطريقة التي شاهدناها في عهد بني أمية. إذ أخذت الروح تفقد نفوذها على الغرائز بالتدريج. كما كف المجتمع عن ممارسة ضغطه على الفرد.
ومن الطبيعي أن الغرائز لا تتحرر دفعة واحدة. وإنما هي تنطلق بقدر ما تضعف سلطة الروح.
وأثناء مواصلة التاريخ سيره. نرى هذا التطور يستمر في نفسية الفرد.
وفي البنية الأخلاقية للمجتمع الذي يكف عن تعديل سلوك الأفراد. وبقدر ما تتحرر هذه النزعة من قيودها في المجتمع يكف التحرر الأخلاقي الذي يمارسه الفرد في أفعاله الخاصة، شيئا فشيئا.
ولو استطعنا في هذا الحين بوسيلة دقيقة المراقبة لهذه الظروف النفسية بغية تتبع نتائج هذا الاطراد- كما هو الشأن في وسائل المراقبة التي تتوفر في مختبرات علوم الطبيعة- لأمكن أن نلاحظ انخفاضا في مستوى أخلاق المجتمع. أو أننا نلاحظ- وهو ما يؤول إلى النتيجة نفسها- نقصا في الفعالية الاجتماعية للفكرة الدينية، وأن هذه الفكرة تظل مواصلة لنقصانها منذ أن دخلت الحضارة منعطف العقل.
فأوج أي حضارة- وأعني به ازدهار العلوم والفنون فيها- يلتقي من وجهة نظر "علم العلل (1) " البحت مع بدء مرض اجتماعي معين لمِّا يجتذب انتباه المؤرخين وعلماء الاجتماع بعد. لأن آثاره المحسوسة لا تزال بعيدة. وبهذا نواصل الغريزة المكبوحة الجماح بيد الفكرة الدينية سعيها إلى الانطلاق والتحرر وتستعيد الطبيعة غلبتها على الفرد وعلى المجتمع شيئا فشيئا.
وعندما يبلغ هذا التحرر تمامه، يبدأ الطور الثالث من أطوار الحضارة.
(1)( étiologie) .
طور الغريزة التي تكشف عن وجهها تماما. وهنا تنتهي الوظيفة الاجتماعية للفكرة الدينية التي تصبح عاجزة عن القيام بمهمتها تماما في مجتمع منحل يكون قد دخل نهائيا في ليل التاريخ وبذلك تتم دورة في الحضارة.
وهكذا نكون في هذا الطور إزاء علم بعثته الدوافع النامية عن الفكرة الدينية، وأشرقت به أنوار الحضارة غير أنه إذا انتهت دورتها فقد جرفته الفوضى واستحال إلى عدم. أو إلى علم إنتفاعي يعيش أصحابه على حساب الجهل المنتشر.
فدورة الحضارة اذن تتم على هذا المنوال، إذ تبدأ حينما تدخل التاريخ فكرة دينية معينة، أو "عندما يدخل التاريخ مبدأ أخلافى معين"( Zthos) على حد قول " كيسرلنج " كما أنها تنتهي حينما تفقد الروح نهائيا الهيمنة التي كانت لها على الغرائز المكبوتة أو المكبوحة الجماح.
وقبل بدء دورة من الدورات أو عند بدايتها يكون الانسان في حالة سابقة للحضارة. أما في نهاية الدورة فإن الإنسان يكون قد تفسخ حضاريا وسلبت منه الحضارة تماما. فيدخل في عهد ما بعد الحضارة.
فإذا كان ممكنا المماثلة بين هاتين الحالتين من وجهة نظر سطحية لما فيهما من وجه الشبه الظاهرية. فإنه من الخطأ المماثلة بينهما من وجهة بيولوجية- تاريخية: إذ الانسان الذي تفسخ حضاريا مخالف تماما للانسان السابق على الحضارة أو الإنسان الفطري.
فالأول ليس مجرد إنسان خارج عن الحضارة فحسب- كما هي الحال مع الثاني الذي سميناه فيما سلف "بالإنسان الطبيعي" إذ الانسان المسلوب الحضارة لم يعد قابلا لانجاز "عمل مُحَضر"( Oeuvre Civilisatrice) إلا إِذا تغير هو نفسه عن جذوره الأساسية.
وعلى العكس من ذلك، فإن الإنسان السابق على الحضارة يظل مستعدا -كما هي الحال مع البدوي المعاصر للنبي- للدخول في دورة الحضارة.
ونستطيع التمثيل لهذه الاعتبارات بصورة مستقاة من "علم الطاقة المائية ". وذلك باتخاذنا كحد للمقارنة " جزئيا " من الماء في وضعين مختلفين: يكون في أولهما "قبل" وصوله إلى خزان ينتج الكهرباء وفي ثانيهما "بعد" خروجه منه. فهذا الجزيء عندما يكون " قبل " الخزان: يعطينا صورة للانسان السابق على الحضارة، أي الذي لم يدخل بعد في دورة حضارة معينة: فهو جزيء منطو على طاقة مذخورة معينة. قابلة لتأدية عمل نافع، إذا ما استعملتها أجهزة الخزان في الري أو في انتاخ الكهرباء.
غير أن هذا الجزيء يصبح قاصرا عن تأدية العمل نفسه، منذ أن يصبح "بعد" الخزان، لأنه يكون قد فقد طاقته المذخورة: وهو ما يعطينا صورة للانسان المنحل حضاريا أو الإنسان الذي خرج من دورة الحضارة. ذلك ان هذا الجزيء الخارج من خزانه، لم يعد في امكانه أن يستعيد حالته إلا بواسطة عملية جوهرية تتمثل في عملية التبخر التي ترجع له إلى حالة بخارية. وفي التيارات الجوية الملائمة التي ترجعه إلى أصله. حيث يتم تحوله من جديد إلى جزيء مائي واقع "قبل" خزان معين.
تلك صورة للانسان قبل دخوله في دورة حضارة من الحضارات، وبعد خروجه منها.
والاعتبارات هذه تبين لنا كيف "تشرط" الفكرة الدينية سلوك الانسان حتى تجعله قابلا لانجاز رسالة "محضرة" غير أن دور الفكرة الدينية لا يكتفي بالوقوف عند هذا الحد. ـ فهي تحل لنا مشكلة نفسية اجتماعية أخرى، ذات أهمية أساسية تتعلق باستمرار الحضارة. فالمجتمع لا يمكنه مجابهة "الصعوبات"(1) التي يواجهه بها التاريخ كمجتمع ما لم يكن على بصيرة جلية من هدف جهوده.
غير أن النشاط الاجتماعي لا يكون مثمرا، فعالا وقابلا للبقاء والاستمرار
(1) راجع محاضر المؤلف عن "الصعوبات كعلامة نمو في المجتمع".
إلا مع وجود " سبب " معين، يكون من شأنه أن يشرط الطاقات التي يحركها هذا السبب بغائية معينة.
وضمن هذه العلاقة، تبدو أفكار " توينبي " أدنى إلى الصواب من أفكار ماركس. إذ الواقع أن نظرية " التحدي " تفسر السبب الذي يشرط التاريخ بغائية معينة. ذلك بإثارة هذا التحدي لمجرد غريزة البقاء الكائنة في إحدى المجموعات البشرية. بينما تظل نظرية الحاجة عاجزة عن تفسير الواقعة نفسها بغية اللجوء إِلى نوع من المواربة السياسية وذلك باعتمادها على " وعي طبقي " معين أي بإضفائها صبغة سياسية على المشكلة. " فالتحدي " يستلزم عمليا " تعاضدا " أو " ارتباطا تعاونيا " معينا بين أفراد مجموعة بشرية معينة، اقتضى منها وضعها الرد على هذا التحدي بصورة جماعية متآزرة.
وعلى العكس من ذلك. فحاجة القوت الأساسية تستدعي الغريزة الفردية. وتستلزم " منافسة " أو " مزاحمة " معينة، يتصرف فيها كل فرد لحسابه الخاص مدفوعا بالقوانين السفلية الموروثة عن النظام الحيواني.
وعلاوة على ذلك، فالفكرة الدينية التي تشرط سلوك الفرد- كما سبق أن أوضحنا ذلك- تخلق في قلوب المجتمع بحكم غائية معينة (1). وذلك بمنحها إياها الوعي بهدف معين، تصبح معه الحياة ذات دلالة ومعنى. وهي حينما تمكن لهذا الهدف من جيل إلى جيل ومن طبقة إلى أخرى. فإِنها حينئذ تكون قد مكنت لبقاء المجتمع ودوامه وذلك بتثبتها وضمانها لاستمرار الحضارة.
وإن هذه المشكلات ذاتها التي تتعلق بعلم النفس الفردي والاجتماعي. قد سبق أن وجدت لها الفكرة الإسلامية حلها منذ ثلاثة عشر قرنا من الزمن.
حتى تحرك الانسان السابق على الحضارة والذي بنى الحضارة الإسلامية .... إلى حيث يسوقه الله.
(1) تتجلى هذه "الغائية" في مفهوم "آخرة" وتتحقق تاريخيا في صورة حضارة.