المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌معامل القابلية للاستعمار - شروط النهضة

[مالك بن نبي]

فهرس الكتاب

- ‌مُقَدِّمَةُ الطَّبْعَةِ الْفِرَنْسِيَّةِ

- ‌مُقَدِّمَةُ الطَّبْعَةِ الْعَرَبِيَّةِ

- ‌الْبَابُ الْأَوَّلُالْحَاضِرُ وَالتَّارِيخُ

- ‌أُنْشُوْدَةٌ رَمَزَيَّةٌ

- ‌دَوْرُ الْأَبْطَالِ

- ‌دَوْرُ السِّيَاسَةِ وَالْفِكْرَةِ

- ‌الْبَابُ الثَّانِيَالْمُسْتَقْبَلُ

- ‌أُنْشُوْدَةٌ رَمَزَيَّةٌ

- ‌مِنَ التَّكْدِيسِ إِلَى الْبِنَاءِ

- ‌الدَّوْرَةُ الخَالِدَةُ

- ‌الْعُدَّةُ الدَّائِمَةُ

- ‌أَثَرُ الْفِكْرَةِ الدِّينِيَّةِ فِي تَكْوِينِ الْحَضَارَةِ

- ‌الْعُنْصُرُ الْأَوَّلُ: الْإِنْسَانُ

- ‌فِكْرَةُ التَّوْجِيهِ

- ‌تَوْجِيهُ الثَّقَافَةِ

- ‌التوجيه الأخلاقي

- ‌التَّوْجِيهُ الْجَمَالِيُّ

- ‌الْمَنْطِقُ الْعَمَلِيُّ*

- ‌الصِّنَاعَةُ

- ‌الْمَبْدَأُ الْأَخْلَاقِيُّ وَالذَّوْقُ الْجَمَالِيُّ فِي بِنَاءِ الْحَضَارَةِ

- ‌تَوْجِيهُ الْعَمَلِ

- ‌تَوْجِيهُ رَأْسِ الْمَالِ

- ‌مشكلة المرأة

- ‌مُشْكِلَةُ الزَّيِّ

- ‌الْفُنُونُ الْجَمِيلَةِ

- ‌الْعُنْصُرُ الثَّانِيَ: التُّرَابُ

- ‌الْعُنْصُرُ الثَّالِثُ: الْوَقْتُ

- ‌الْإِسْتِعْمَارُ وَالشُّعُوبُ الْمُسْتَعْمَرَةِ

- ‌الْمُعَامِلُ الإِسْتِعْمَارِيْ

- ‌مُعَامِلُ الْقَابِلِيَّةِ لِلِاسْتِعْمَارِ

- ‌مُشْكِلَةُ الْتَّكَيُّفِ

الفصل: ‌معامل القابلية للاستعمار

‌مُعَامِلُ الْقَابِلِيَّةِ لِلِاسْتِعْمَارِ

تبين لنا من الفصل السابق كيف يُحرِّف الاستعمار منهجياً معادلة الفرد المستعمَر، باستخدام أنواع من العراقيل متعددة، يصادفها الفرد في طريقه. وعرفنا كيف يؤثر المعامل الاستعماري لتضييق نشاط الحياة في البلاد المستعمرة، حتى تكون مصبوبة في قالب ضيق، يهيئه الاستعمار في كل جزئية من جزئياته، خوفاً من أن تتيح الحياة المطلقة لمواهب الإنسان أن تأخذ مجراها الطبيعي إلى النبوغ والعبقرية.

على أنه من الناحية الجدلية: هذا الاعتبار خارجي بكيفية ما، لأنه يرينا كيف يؤثر الاستعمار على الفرد من الخارج، ليخلق منه نموذج الكائن المغلوب على أمره، والذي يسميه المستعمر في لغته (الأهلي).

ونحن في هذا الفصل نريد أن نتعرض لعامل آخر ينبعث من باطن الفرد الذي يقبل على نفسه تلك الصبغة، والسير في تلك الحدود الضيقة التي رسمها الاستعمار، وحدد له فيها حركاته وأفكاره وحياته ".

فنرى أولا هذا الرجل يقبل اسم (الأهلي)، يوم استأهل لكل ما ترمي إِليه المقاصد الاستعمارية، من تقليل قيمته من كل ناحية، حتى من ناحية اسمه. ومما يلاحظ أنه منذ سنين قليلة، كان هذا الرجل يحمل هذا الاسم كرايته،

ص: 152

وكانت الجرائد تعنون به صحفها، وكنا نسمع هذه الكلمة تتردد في خطب الطبقة المثقفة (الأهلية) ونقرؤها في مقالاتها.

وإذا لم نكن شاهدنا خصيانا يلقبون أنفسهم (بالخصي) فقد شاهدنا مرارا مثقفين جزئريين يطلقون على أنفسم (الأهلي).

ومعنى ذلك أننا قد أخذنا أنفسنا بالمقياس الذي تقيسنا به ((إدارة الشئون الاستعمارية)).

إن المستمعر يريد منا بطالة يحصل من ورائها يداً عاملة بثمن بخس فيجد منا متقاعدين، بينما الأعمال جدية تترقب منا الهمة والنشاط.

وهو يريد منا جهلة يستغلهم، فيجدنا نقاوم ذلك الجهد البسيط المبذول عندنا ضد الأمية وهو جهد ((جمعية العلماء)).

وهو يريد منا انحطاطاً في الأخلاق كي تشيع الرذيلة بيننا، تلك الرذيلة التي تكون نفسية رجل ((القلة))، فيجدنا أسرع إلى محاربة الفضيلة، التي يحاول نشرها العلماء في بلادنا، وهو يريد تشتيت مجتمعنا وتفريق أفراده شيعا وأحزاباً، حتى يحل بهم الفشل في الناحية الأدبية، كما هم فاشلون في الناحية الاجتماعية، فيجدنا متفرقين بالسياسات الانتخابية، التي نصرف في سبيلها ما لدينا من مال وحكمة.

وهو يريد منا أن نكون أفرادا تغمرهم الأوساخ، ويظهر في تصرفاتهم الذوق القبيح، حتى نكون قطيعا محتقراً، يسلم نفسه للأوساخ والمخازي، فيجدنا ناشطين لتلبية دعوته.

وبذلك تكون العلة مزدوجة، فكلما شعرنا بداء المعامل الاستعماري الذي يعترينا من الخارج، فإننا نرى في الوقت نفسه معاملاً باطنيا يستجيب للمعامل الخارجي ويحط من كرامتنا بأيدينا.

وربما لم نكن لنفقه لهذا الداء الباطني معناه الاجتماعي، لولا أن الفئة

ص: 153

اليهودية في الجزائر قد لقنتنا درسا مفيدا، فقد رأينا كيف أن اليهود أثناء الحرب الماضية كانوا يعيشون ساعات شديدة من الاضطهاد، كانت الدوائر الحكومية تحكمهم بقوانين قاسية، تنغص عليهم حياتهم في كل ميدان.

كان أبناؤهم ينبذون من دور التعليم، وتجاراتهم تعرقل بمختلف القوانين، وكانوا في هذه الحقبة على وشك أن تصيبهم العوامل التقليلية، التي قللت من قيمتنا نحن المسلمين، غير أنه سرعان ما قام اليهود برد الفعل.

فتكونت مدرسة سرية في كل بيت من بيوتهم، يدرس فيها أساتذة متطوعون، فيهم المهندس والطبيب والمحامي، يتطوعون بلا ثمن.

وقد عمروا معابدهم أكثر من ذي قبل، في حين أن أعمالم التجارية قد استرسلت في نشاطها، أحسن وأقوى من الماضي، بفضل تعاضدهم في الضراء على مبدأ (الجميع للفرد والفرد للجميع).

وهكذا أتيح لليهود أن يجتازوا ساعات الخطر ساعين منتصرين رغم ما كانوا يعانون من معوقات خارجية سلطت على حياتهم في كل جزئياتها.

ولقد كان نجاحهم منطقيا، فإن أنفسهم لم تكن معلولة من باطنها، ولم يكن من معوق داخلي يمسكهم عن التقدم، ويحط من قيمة أنفسهم بأنفسهم.

وإننا لنجد في نجاحهم المثل لانتصار الفرد على البيئة، مهما كانت ظروف حياته، وإن لنا في ذلك درسا يعلمنا كيف يتعلم الأطفال بلا مدارس مفتوحة، وكيف تنشط حياة قوم تحت الضغط والمراقبة. وهكذا يؤدي القيام بالواجبات إلى كسب الحقوق.

إن القضية عندنا منوطة أولاً بتخلصنا مما يستغله الاستعمار في أنفسنا من استعداد لخدمته، من حيث نشعر أو لا نشعر، وما دام له سلطة خفية على توجيه الطاقة الاجتماعية عندنا، وتبديدها وتشتيتها على أيدينا، فلا رجاء في استقلال،

ص: 154

ولا أمل في حرية، مهما كانت الأوضاع السياسية، وقد قال أحد المصلحين ((أَخْرِجُوا الْمُسْتَعْمِرَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ يَخْرُجُ مِنْ أَرْضِكُمْ)).

إن الاستعمار لا يتصرف في طاقتنا الاجتماعية إلا لأنه درس أوضاعنا النفسية دراسة عميقة، وأدرك منها موطن الضعف، فسخرنا لما يريد، كصواريخ موجهة، يصيب بها من يشاء، فنحن لا نتصور إلى أي حد يحتال لكي يجعل منا أبواقاً يتحدث فيها، وأقلاماً يكتب بها، إنه يسخرنا وأقلامنا لأغراضه، يسخرنا له، بعلمه، وجهلنا.

والحق أننا لم ندرس بعدُ الاستعمارَ دراسة علمية، كما درَسَنا هو، حتى أصبح يتصرف في بعض مواقفنا الوطنية، وحتى الدينية، من حيث نشعر أو لا نشعر (1).

إننا أمام قضية خطيرة وجديرة بدراسة خاصة، ولسوف ندرسها يوما ما إن شاء الله (2).

(1) وهكذا يتوصل الاستعمار إلى الاستفادة من نقائصنا. وبخاصة حين يتحتم على نشاطه أن يختفي لكي يحدث تأثيره الكامل: فعند ظهور الطبعة الفرنسية لهذا الكتاب منذ عشر سنوات، كان يمكن للاستعمار أن يحول بينه وبين الضمير الجزانري بأن يأمر بمنع بنشره، ومنه لم يفعل سوى أن وضع اصبعه على (زرار) خفي؟!.

فخصصت جريدة العلماء (البصائر) مقالين لتقديم الكتاب للشعب الجزائري، قدموه- على أنه خلاصة مقالات نشرت في جريدة Le Monde الباريسية بقلم مراسلها في القاهرة!!!

وقد كانت هذه هي الطريقة المثلى لاثبات عجز تصورات الشعب العقلية الأصلية ومع ذلك فأنا واثق من أن نفس الصحفي قد يستطيع كثيرا في العدد التالي لنفس الجريدة أن يكتب مقالا عن ((تخريب الاستعمار للنشاط الفكري في الجزائر)) وقد قدمت جريدة أخرى وطنية الكتاب من جهتها تحت عنوان (خطوة خاطئة وإبهام) ومن جهة أخرى نشرت صحيفة يسارية بياناً لاتحاد الطلبة، ينبه الشعب إلى خطر هذا الكتاب، فإذا أردنا أن نتذوق طعم هذا البيان، فيجب أن نعرف أن نفس (الاتحاد) كان قد صفق بحرارة منذ أسبوع للمؤلف حين عرض كتابه في محاضرة له وفي كل هذا لم يظهر الاستعمار بعمل يرى.

إني لأورد هذه الذكريات البعيدة لتوضيح هذا الفصل وأيضا لأني أريد ان أذكر العرب والمسلمين

بأن (الزرار) الذي يصنع به الاستعمار معجزاته لا زال على اتم استعداد للعمل. فهو مستقر في نفوسنا.

(2)

نشر جانب من هذه الدراسة فعلا في كتابي ((الصراع الفكري في البلاد المستعمرة)).

ص: 155