الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدَّوْرَةُ الخَالِدَةُ
((إنه من السنن الأزلية أن يعيد التاريخ نفسه، كما تعيد الشمس كرتها من نقطة الانقلاب)).
((نيتشة))
من الملاحظات الاجتماعية أن للتاريخ دورة وتسلسلاً، فهو تارة يسجل للأمة مآثر عظيمة ومفاخر كريمة، وهو تارة أخرى يلقي عليها دثارها، ليسلمها إلى نومها العميق. فإذا ما أخذنا هذه الملاحظة بعين الاعتبار، ختم علينا في حل مشكلاتنا الاجتماعية أن ننظر مكاننا من دورة التاريخ، وأن ندرك أوضاعنا، وما يعتورنا من عوامل الانحطاط وما ننطوي عليه من أسباب التقدم. فإذا ما حددنا مكاننا من دورة التاريخ، سهل علينا أن نعرف عوامل النهضة أو السقوط في حياتنا.
ولعل أعظم زيغنا وتنكبنا عن طريق التاريخ أننا نجهل النقطة التي منها نبدأ تاريخنا، ولعل أكبر أخطاء القادة أنهم يسقطون من حسابهم هذه الملاحظة الاجتماعية. ومن هنا تبدأ الكارثة، ويخرج قطارنا عن طريقه حيث يسير خبط عشواء.
ولا عجب، فإن كوارث التاريخ التي تحيد بالشعب عن طريقه ليست بشاذة. ونحن نجد مثلها في الكارثة التي أصابت العالم الاسلامي في واقعة صفين فأخرجته من جو المدينة الذي كان مشحونا بهدى الروح، وبواعث التقدم، إلى جو دمشق حيث تجمعت مظاهر الترف، وفتور الايمان.
وعليه فإنه لا يجوز لأحد أن يضع الحلول والمناهج، مغفلاً مكان أمته ومركزها، بل يجب عليه أن تنسجم أفكاره، وعواطفه، وأقواله، وخطواته مع
ما تقتضيه المرحلة التي فيها أمته، أما أن يستورد حلولا من الشرق أو الغرب، فإن في ذلك تضييعا للجهد، ومضاعفة للداء. إذ كل تقليد في هذا الميدان جهل وانتحار.
وعلاج أي مشكلة يرتبط بعوامل زمنية نفسية، ناتجة عن فكرة معينة، تورخ من ميلادها عمليات التطور الاجتماعي، في حدود الدورة التي ندرسها.
فالفرق شاسع بين مشاكل ندرسها في إطار الدورة الزمنية الغربية، ومشاكل أخرى تولدت في نطاق الدورة الإسلامية.
فالمشكلة التي أحاول درسها في هذا المؤلف ليست من المشاكل التي تخص عالم 1948، بل هي من المشاكل التي تخص عالم 1367، وإنني لأخشى أن لا يعجب قولنا هذا بعض من تعودوا النشوة بالكلمات العذبة، أو ألفوا الاقتناع بالحلول المجربة في أمة من الأمم. غير أني أحب أن أعجل إلى الموضوع فلا أضيع الوقت في سرد الأسباب والمبررات، التي يستند اليها أولئك المشعوذون.
إن كل شعب مسلم يعيش في عام 1367، أي في نقطة من دورته تنطلق منها الأحداث التي لا تزال في ضمير الغيب، وهي نفسها مادة مستقبلة، فإذا ما تطلعنا إلى الشعب الجزائري في هذة النقطة من التاريخ فإننا نجده والشعوب الإسلامية في مستوى واحد، وفي مشكلات متقاربة، إن لم نقل متحدة؛ وبذلك فإننا نكون قد وضعنا المشكلة في مكانها من التاريخ، ونكون أيضا قد جعلنا مشكلتنا في وضعها المناسب، وفي الطور الذي تستطيع منه أن تبدأ الحضارة دورها.
وعند هذه النقطة من تاريخنا يجدر بنا التساؤل: ها نحن أولاء على أهبة سفر، وإن قافلتنا لتشد رحالها، ولكن إلى أين تسير؟ وبأي زاد سوف تقطع الطريق؟. وإن هذا التساؤل لتحتمه علينا الظروف، فإنه في كل سفر يجب أن نعلم أية جهة نقصد؟ وبأي زاد نتزود؟! ..
وإنه لسؤال جدير بالاهتمام، ولا يكفي فيه أن نجيب إجابات ارتجالية مقتضبة مثل "لا" أو "نعم" بل يجب التأمل في سنن التاريخ التي لا تغيير لها،
كما أشار إليها القرآن الكريم {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} ، وكما وضحها ذلك العبقري، عمدة المؤرخين (ابن خلدون).
وأول ما يجب أن نعرفه عن شعب حديث اليقظة، لا تزال آثار النوم الطويل بادية عليه هو: هل بيده أسباب تقدمه؟
إننا نجد في القرآن الكريم النص المبدئي للتاريخ التكويني ( Bio-histoire){ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} وينبغي أن لا نقرر هذا المبدأ حسب إيماننا به فقط، بل يجب أن يكون تقريره في ضوء التاريخ.
و"نعم" لا تجدي كجواب عن السؤال المطروح أمامنا، إلا إذا تأكدنا من شرطين:
أولهما: هل المبدأ القرآني سليم في تأثيره التاريخي؟.
ثانيهما: هل يمكن للشعوب الإسلامية تطبيق هذا المبدأ في حالتها الراهنة؟.
الشرط الأول:
مطابقة التاريخ للمبدأ القرآني.
إذا نظرنا إلى الأشياء من الوجهة الكونية، فإننا نرى الحضارة تسير كما تسير الشمس، فكأنها تدور حول الأرض مشرقة في أفق هذا الشعب، ثم متحولة إلى أفق شعب آخر.
وإنه لمفيد للقادة أن ينظروا هذه النظرة الفاحصة، فيدركوا طبائع الأشياء، ولكن الكثير منهم تأخذه العزة بالإثم، فيزعم أن إرادته فوق إرادة الأقدار، حتى ليكاد يقول:"يا شمس قفي " وهيهات أن تقف الشمس، أو يسمع لهرائه مستمع، فإن الأقدار، لا تلبث أن تقود الحضارة إلى حيث قدر الله لها السير، من دور إلى دور، ومن فجر إلى فجر، غير عابئة بما يحاوله الباطل من إطفاء النور، أو تغيير الحقائق، ولا متلفتة إلى ما تبثه الزوايا من وهم، أو إلى ما يتخرص به الاستعمار.
ومن المعلوم أنه حينما يبتدىء السير إلى الحضارة، لا يكون الزاد بطبيعة الحال من العلماء والعلوم، ولا من الانتاج الصناعي أو الفنون، تلك الأمارات التي تشير إلى درجة ما من الرقي، بل إن الزاد هو "المبدأ" الذي يكون أساسا لهذه المنتجات جميعا.
ففي نقطة انطلاق الحضارة ليس أمامنا سوى العوامل المادية الثلاثة التي ألمحنا إليها فيما سبق من الكلام: الإنسان. التراب. الوقت. وفي هذه العوامل ينحصر رأس مال الأمة الاجتماعي الذي يمدها في خطواتها الأولى في التاريخ. ولقد سبق أن أشرنا من الوجهة النظرية إلى العامل الذي يمزج هذه العناصر الثلاثة، فيكون منها حضارة.
وسنشرع الآن في تحليل دور كامل من أدوار الحضارة، بل دورتين، من الوجهة لتاريخية، حتى نستخرج منه السر الكوني الذي يركب هذه العناصر الثلاثة: الإنسان، والتراب، والوقت، ليبعثها قوة فعالة في التاريخ.
وحسبنا أن ندرس مثلاً الحضارتين الإسلامية والمسيحية في المرحلة الأولى من نشوئهما.
وكما يتضح من الشكل الذي رسمناه في فصل "أثر الدين في دورة الحضارة" لا يختلف تطور الحضارة المسيحية عن تطور الحضارة الإسلامية إذ هما ينطلقان من الفكرة الدينية التي تطبع الفرد بطابعها الخاص، وتوجهه نحو غايات سامية.
فالحضارة لا تنبعث -كما هو ملاحظ- إلا بالعقيدة الدينية (1)، وينبغي أن نبحث في حضارة من الحضارات عن أصلها الديني الذي بعثها، ولعله ليس من الغلو في شيء أن يجد التاريخ في البوذية بذور الحضارة البوذية، وفي البرهمية نواة الحضارة البرهمية.
(1) إننا نأخذ هنا هذه العبارة بمعناما العام، كما يعبر عنها أيضا فالترشوبرت ( Waltar-Schubart) في كتابه "أوربا وروح الشرق".
فالحضارة لا تظهر في أمة من الأمم إلا في صورة وحي يهبط من السماء، يكون للناس شرعة ومنهاجا، أو هي- على الأقل- تقوم أسسها في توجيه الناس نحو معبود غيبي (1) بالمعنى العام، فكأنما قدر للانسان ألا تشرق عليه شمس الحظارة إلا حيث يمتد نظره إلى ما وراء حياته الأرضية، أو بعيدا عن حقبته اذ حينما يكتشف حقيقة حياته الكاملة، يكتشف معها أسمى معاني الأشياء التي تهيمن عليها عبقريته، وتتفاعل معها.
ومن هنا يستطيع المؤمن ادراك الحقيقة الساطعة التي يفسرها التاريخ، في الفقرة التي وردت في أحد الكتب المنزلة القديمة:"في البدء كانت الروح".
ومن المعلوم أن جزيرة العرب مثلا لم يكن بها قبل نزول القرآن إلا شعب بدوي يعيش في صحراء مجدبة، يذهب وقته هباء لا ينتفع به لذلك فقد كانت العوامل الثلاثة: الإنسان والتراب والوقت راكدة خامدة، وبعبارة أصح، مكدسة لا تؤدي دورا ما في التاريخ، حتى إذا ما تجلت الروح بغار حراء- كما تجلت من قبل بالوادي المقدس، أو بمياه الأردن- نشأت من بين هذه العناصر الثلاثة المكدسة حضارة جديدة، فكأنما ولدتها كلمة (اقرأ) التي أدهشت النبي الأمي وأثارت معه وعليه العالم. فمن تلك اللحظة وثبت القبائل الحربية على مسرح التاريخ حيث ظلت قرونا طوالا تحمل للعالم حضارة جديدة، وتقوده إلى التمدن والرقي.
ومما هو جدير بالاعتبار أن هذه الوثبة لم تكن من صنع السياسيين ولا العلماء الفطاحل، بل كانت بين أناس يتَّسمون بالبساطة، ورجال لا يزالون في بداوتهم، غير أن أنظارهم توجهت في تلك اللحظات إلى ما وراء أفق الأرض أو إلى ما وراء الأفق القريب، فتجلت لهم آيات في أنفسهم، وتراءت لهم أنوارها في الآفاق.
(1) ولو كان غيبا من نوع زمني، أي في سورة مشروع اجتماعي بعيد الأمد مثل بناء مجتمع جديد يضع حجره الأول جيل وتواصل بناءه الأجيال المتتابعة.
نعم إنه لمن الغريب أن يتحول هؤلاء البسطاء، ذوو الحياة الراكدة، عندما مستهم شرارة الروح، إلى دعاة إسلاميين، تتمثل فيهم خلاصة الحضارة الجديدة، وأن يدفعوا بروحها وثبة واحدة، إلى تلك القمة الخلقية الرفيعة، التي انتشرت منها حياة فكرية واسعة متجددة، نقلت من علوم الأولين ما نقلت، وأدخلت علوما جديدة، حتى إذا ما بلغت درجة معينة، انحدرت القيم الفكرية التي أنتجتها دمشق، وبغداد، وقرطبة، وسمرقند.
ومن هنا ندرك سر دعوة القرآن الكريم المؤمنين إلى التأمل فيما مضى من سير الأمم وذلك حتى يدركوا كيف تتركب الكتلة الخصبة من الإنسان والتراب والوقت.
ولا شك في أن المرحلة الأولى من مراحل الحضارة الإسلامية التي ابتدأت من غار حراء إلى صفين- وهي المرحلة الرئيسية التي تركبت فيها عناصرها الجوهرية- إنما كانت دينية بحتة، تسودها الروح.
ففي هذه الحقبة ظلت روح المؤمن هي العامل النفسي الرئيسي، من ليلة حراء إلى أن وصلت إلى القمة الروحية للحضارة الإسلامية، وهو ما يوافق واقعة صفين عام 38 هـ.
ولست أدري لماذا لم يتنبه المؤرخون إلى هذه الواقعة، التي حولت هجرى التاريخ الاسلامي إذ أخرجت الحضارة الإسلامية إلى طور القيصرية الذي يسوده عامل المقل، وتزينه الأبهة والعظمة، في الوقت الذي بدأت تظهر فيه بوادر الفتور الدالة على أفول الروح.
فإن مؤرخينا لم يروا في تلك الكارثة إلا ظاهرة ثانوية، وهي نشوء التشيع في العالم الإسلامي، مع تداولهم لحديث ألمح فيه الرسول إلى تلك الكارثة، وقد ورد فيه ما معناه: أن الخلافة تكون بعده أربعين عاما ثم تكون ملكا عضوضا. ولا شأن لنا هنا بتحقيق مدى صحته من جهة السند أو الرواية. الأمر الذي
يهمنا هو أنه مما لا شك فيه أن الحضارة الإسلامية قد خرجت من عمق النفوس، كقوة دافعة، إلى سطح الأرض تنتشر أفقيا من شاطىء الأطلنطي إلى حدود الصين.
وهكذا وجدنا الحضارة الإسلامية تتوسع وتنشر فوق الأرض، تتغلب أولا على جاذبيتها بما تبقى لديها من مخزون روحي، حتى إذا ما وهنت فيها قوى الروح، وجدناها تخلد إلى الأرض شيئا فشيئا.
وقد بدأ العلم في تلك الحقبة ينتشر بفضل أساتذة سطعت أسماؤهم في جو المعرفة، كالفارابي، وابن سينا، وأبي الوفاء، وابن رشد
…
إلى ابن خلدون الذي أضاءت عبقريته غروب الحضارة الإسلامية في نهايتها.
ومن هنا نستطيع أن نقرر أن المدنيات الإنسانية حلقات متصلة تتشابه أطوارها مع أطوار المدنية الإسلامية والمسيحية، إذ تبدأ الحلقة الأولى بظهور فكرة دينية، ثم يبدأ أفولها بتغلب جاذبية الأرض عليها، بعد أن تفقد الروح ثم العقل.
ذلك هو منحنى السقوط، الذي تخلقه عوامل نفسية أحط من مستوى الروح، والعقل، وطالما أن الإنسان في حالة يتقبل فيها توجيهات الروح، والعقل، المؤدية إلى الحضارة ونموها، فإن هذه العوامل النفسية تختزن بطريقة ما، فيما وراء الشعور، وفي الحالة التي تنكمش فيها تأثيرات الروح والعقل، تنطلق الغرائز الدنيا من عقالها، لكي تعود بالإنسان إلى مستوى الحياة البدائية. وكذلك كان شأن المسلم، فقد بعث الدين فيه روحا محركا للحضارة، فلم يلبث بعد مرحلة قضاها في الخلافات والحروب أن عاد إلى حيث هو الآن، إنسانا بدائيا.
ولو أردنا أن نسمي هذه المرحلة الخالية من الروح والعقل، والخاتمة لكل حضارة لأطلقنا عليها بلا تردد اسم المرحلة (السياسية) بالمعنى السطحي لكلمة "سياسة".
والتجارب التاريخية العامة تؤكد أطوار الحضارات هذه، ولا تكاد حضارة ما تشذ عن هذه القاعدة.
ولقد يثير هذا التأكيد سؤالاً في أذهان القراء عما يسمى (حضارة شيوعية) إذ لا يمكننا أن نرى فيها (طابع الروح) الذي عرفناه في الدورة العامة للحضارة، وبذا يقال: إن الشيوعية كحضارة ليست منبثقة عن (عامل الروح!).
هذا الخطأ الشائع إنما يأتي أولاً من تفسير أصول الشيوعية، باعتبارها (حضارة)، ومؤلفات ماركس وأنجلز تخفي- في الواقع- التكوين الحقيقي للظاهرة الشيوعية بفصلها ظاهرا عن دورة الحضارة المسيحية.
والحال أنها لا تجد تفسيرا اذا ما ضربنا صفحا عن الحضارة المسيحية، تلك التي تكون- عند تحللها- سطح التربة الخصيب، حيث استمدت الفكرة الماركسية حيويتها.
فنحن على هذا مضطرون إلى أن نعتبر الشيوعية (أزمة) للحضارة المسيحية.
هذا من الناحية التاريخية. ولنا أن نأخذ في اعتبارنا الناحية النفسية (السيكولوجية)، التي تهمنا أكثر.
فمن هذه الناحية تعتبر الشيوعية النظرية قبل كل شيء "فكرة" ماركس، ولكن هناك شيوعية واقعية، هي في جوهرها نشاط المؤمنين المدفوعين بنفس القوى الداخلية التي دفعت غيرهم من المؤمنين في مختلف العصور، أولئك الذين شهدوا مولد الحضارات. فالظاهرة متماثلة في جوهرها النفسي، ومحددة هنا وهناك بنفس سلوك الفرد حيال مشاكل المجتمع الناشيء.
فنحن لا يمكننا أن نفكر في المثل الذي ضربه (استخانوف) للطبقة العاملة في روسيا إبان تنفيذ المشروع الأول للسنوات الخمس، حين رُفع مستوى الإنتاج اليومي إلى الضعف في مناجم الفحم، دون أن نفكر في المثل الذي ضربه سلمان الفارسي، الذي كان يقوم بأضعاف العمل الذي يؤديه الصحابي الواحد في
حفر الخندق حول المدينة في غزوة الأحزاب، أو الذي ضربه عمار بن ياسر حين كان يحمل حجرين على كاهله في بناء مسجد المدينة، حيث كان الفرد يحمل حجرا واحدا. ففي كلتا الحالتين نجد أن الإيمان هو الذي مهد الطريق للحضارة.
وبتأمل الحضارة المسيحية الحالية نجدها تسير سيرة الحضارة الإسلامية، التي سبقتها في الزمن، مهما يكن في هذا التقرير من غرابة- إذ من البين أن مولد المسيحية يسبق الاسلام بمراحل- ولكن التاريخ يؤيدنا فيما نذهب إليه. ذلك أنه يقرر: أن الحضارة تولد مرتين، أما الأولى: فميلاد الفكرة الدينية، وأما الثانية: فهي تسجيل هذه الفكرة في الأنفس. أي دخولها في أحداث التاريخ.
وإذا كانت المدنية الإسلامية قد جمعت المولدين في وقت واحد، فإن ذلك يعود إلى الفراغ الذي وجدته الفكرة الإسلامية في النفس العربية العذراء، التي لم تنشأ فيها ثقافة، ولا ديانة سابقة، فخلا لها بذلك الجو.
ولم يكن حظ الحضارة المسيحية في نفوس أهلها وبيئتها، كحظ الحضارة الإسلامية، فقد نشأت المسيحية في رسط فيه الخليط من الديانات، والثقافات العبرية، والرومانية، واليونانية، فلم يتح لها أن تدخل إلى قلوب الناس وسط الزحام الفكري الثقافي، لتؤثر فيها تأثيرا فعالاً. ولم يكتب لها أن تعمل عملها إلا عندما بلغت وسط البداوة الجرمانية في شمال أوربا، حيث وجدت النفوس الشاغرة، فتمكنت منها، وبعثت فيها الروح الفعالة، التي اندفعت بها لتكون حلقتها في سلسلة التاريخ.
ومن المفيد أن أعزز هذا النظر برأي للمفكر " هرمان دي كيسر لنج " في كتابه (البحث التحليلي لأوروبا)، حيث يقول " ومع الجرمانيين ظهرت روح خلقية سامية في العالم المسيحي ".
ولعل عبارة هذا النص يمكن أن تبدو أكثر أو أقل صدقا، إذ أن " الروح السامية" التي يعنيها، ليست في التحليل النهائي سوى الفكرة المسيحية، المتأهبة تماما للدخول في التاريخ.
ولكن المفكر الألماني لم يتردد في القول بأن الميلاد النفسي للحضارة المسيحية متوافق مع ظهور روح خلقي.
ولا شك أن كتابا آخرين لاحظوا هذه الملاحظة أيضا، بطريقة أو بأخرى، فالمؤرخ (هنري بيرين) قد لاحظ ذلك الارتباط بين بعث الدين وظهور الحضارة، في كتاب له عنوانه (محمد وشرلمان) قارن فيه بين الحضارتين الإسلامية والمسيحية.
فإن المؤلف المذكور يرى في شرلمان الشخصية التي بعثت مبدأ المسيحية في النفوس البكر، فأنبتت فيها الحضارة، تماما كما فعل الرسول من قبل.
وإنه لمن الأهمية التاريخية أن نلاحظ أن الروح المسيحية لم تجد طابعها الخاص في فن المعمار، إلا عندما تفاعلت هذه الفكرة مع القبائل الجرمانية، فتمثلت عبقريتها الفنية حينئذ في صورة (المعبد القوطي)، الذي يدل علو ارتفاعه على علو في الضمير الديني وطموح، ذلك الطموح الذي كان يهز أوربا من عهد الكارولنجيان (1) إلى عهد النهضة.
فلما بدأت هذه النهضة، خرجت حضارة أوروبا من مرحلة السمو الروحي إلى مرحلة التوسع العقلي، التي انطبعت بطابع (ديكارت)، والتوسع في البلاد الذي حققه (كرستوف كولومب) باكتشاف أمريكا. وعودة أخرى إلى كتاب (البحث التحليلي لأوروبا) توضع لنا هذا التطور، إذ يتحدث مؤلفه عن هذا التحول في الحضارة الأوروبية في قوله:" وكان أعظم ارتكاز حضارة أوروبا على روحها الدينية " ثم بعد ذلك يفسر لنا الروح كعامل اجتماعي فيقول: " ولست أعني بالروح ذلك الشيء الدال على منطق، أو عقل أو مبادىء مجردة، وإنما هو - بصفة عامة- ذلك الشعور القوي في الإنسان، والذي تصدر عنه مخترعاته وتصوراته وتبليغه لرسالته، وقدرته الخفية على إدراك الأشياء".
(1) الفترة التاريخية للكارولنجيان من 687 - 987م.
وبالجملة، يتعلق الأمر بحالة خاصة، وشروط خلقية، وعقلية، لازمة للإنسان لكي يستطيع أن ينشيء، ويبلغ حضارة.
ولكن أليست هذه الشروط هي نفس ما أشار إليه القرآن من تغيير النفس الذي جعل أساسا لكل تغيير اجتماعي؟؟!!
ولنتساءل الآن: من أين لأوربا (مبدأ الشعور) الذي أتاح لها أن تخلق وتبلغ حضارتها؟ وكيف تغييرت تفسيتها؟
…
إن المفكر المذكور يجيب مرة أخرى، فيقول:"ان الروح المسيحية ومبدأها الخلقي هما القاعدتان اللتان شيدت عليهما أوروبا سيادتها التاربخية".
وإذا لم يكن (كيسر لنج) قد وضح حتى الآن فكرة المراحل الثلاثة للحضارة المسيحية. فإنه لا شك قد أشار اليها، ونحن نجد عنده تأييدا لفكرتنا عن تطور الحضارة، وتنوع العوامل النفسية، إذ يقول:" إن مركز الثقل للحضارة تزحزح عن مكانه، وتحول بالنهضة والإصلاح الديني، من مجال الروح إلى مجال العقل".
ولا شك أن ذلك التزحزح الذي يشير إليه (كيسر لنج) إنما يعني المرحلة الجديدة التي دخلت فيها الحضارة المسيحية في طورها العقلي.
وإذا لاحظنا عند (كيسر لنج) اشارة إلى المرحلتين الأوليتين لتلك الحضارة، فإننا نجد الاشارة إلى المرحلة الثالثة واضحة عند كتاب آخرين، إذا سادهم شعور بفناء المدنية الأوروبية مثل (اسوالد شبنجلر) في كتابه (أفول الغرب).
ولعله من الواضح ان مشكلة الحضارة في العصر الحاضر لا تخص الشعوب الإسلامية فقط، بل انها تخص أيضا الشعوب المتقدمة نفسها، التي تتهدد فيها مدنيتها بالفناء.
وجملة القول إن الوسيلة إلى الحضارة متوفرة ما دامت هنالك فكرة دينية
تؤلف بين العوامل الثلاثة: الإنسان، والتراب، والوقت، لتركب منها كتلة تسمى في التاريخ "حضارة ".
الشرط الثاني:
إمكانية تطبيق المبدأ القرآني الآن؟
((أشد ما أثر في حياتي نصيحة سمعتها من أبي: يا بني إقرأ القرآن كأنه أنزل عليك))
((إقبال))
إننا لكي نتوصل إلى التركيب الضروري كحل للمشكلة الإسلامية؛ أعني مزج الإنسان والتراب والوقت، يجب أن يتوفر لدينا موثر الدين الذي يغير النفس الإسلامية، أو كما يقول كيسر لنج:"يمنح النفس مبدأ الشعور".
فهل يمكن تحقيق هذا الشرط في الحالة الراهنة للشعوب الاسلامية؟
إن التردد في الإجابة عن هذا السؤال بالإيجاب لا يدل إلا على جهل بالإسلام، وبصفة عامة بتأثير الدين في الكون، فإن قوة التركيب لعناصر الحضارة خالدة في جوهر الدين، وليست ميزة خاصة بوقت ظهوره في التاريخ، فجوهر الدين- حسب العبارة الشائعة- موثر صالح في كل زمان ومكان.
وتسجيله في النفس وهو ما يهم التاريخ- كما سبق في حديثنا عن الحضارة المسيحية التي تركبت بعد ألف عام من ظهور الفكرة المسيحية- يمكن أن يتجدد ويستمر ما لم يخالف الناس شروطه وقوانينه، وهو ما ترمز إليه الآية الكريمة {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، من هذه الوجهة نستطيع أن نقول:
إن العلماء الجزائريين كانوا أقرب إلى الصواب من السياسيين، حين دعوا إلى الاصلاح، بمعنى دفع النفس الانسانية إلى حظيرة الايمان من جديد، ولكن هؤلاء العلماء- لسوء الحظ- قد انحرفوا هم أنفسهم عن الطريق القويم، متبعين
رجال السياسة، ولقد كان الوقت مناسبا لكي يعودوا إلى الطريق القويم، واثقين من أنه لا نجاة بغيره، ولقد كان عليهم أن يستأنفوا جهدهم الذي بدأوه، ثم قطعوه عام 1936، وأن يعدوا الجيل القادم لحمل رسالة الحضارة في نفسه، وإلى معرفته كيف يضعها الوضع الصحيح في المستقبل، حتى يستطيع كل فرد أن يؤدي رسالته في مجاله الخاص، متحملا في سبيلها الآلام الجسام، مغالبا هذه الآلام والدين وحده هو الذي يمنح الانسان هذه القوة، فقد أمد بها أولئك الحفاة العراة من بدو الصحراء، الذين اتبعوا هدى محمد صلى الله عليه وسلم.
وبهذه القوة وحدها يشعر المسلم- رغم فاقته وعريه الآن- بثروته الخالدة التي لا يدري من أمر استخدامها شيئا.
***