الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْمَبْدَأُ الْأَخْلَاقِيُّ وَالذَّوْقُ الْجَمَالِيُّ فِي بِنَاءِ الْحَضَارَةِ
ما من حوار شجر بين الرجل والمرأة، منذ آدم وحواء، سواء كان ذلك في صورة رمزية ترمز إليها بعض الاشارات أو كان في صورة لغوية تنطق بها بعض الكلمات إلا والمرأة تحاول أن تظهر من خلال هذا الحوار في مظهر الجمال بينما الرجل يحاول أن يتخذ له مظهر القوة. في حين أن القوة هنا ضرب من الجمال. كذلك الجمال الرياضي الذي تعبر عنه الألعاب الأولبية، كما يصورها نحت فيدياس الخالد.
وإِن هذا المظهر من قبل المرأة. وتلك المحاولة من طرف الرجل ليعبران عن ذوق الجمال في أبسط صوره، كما أنهما المرجع البعيد الذي إليه يرد تاربخ كل فن ومولده.
فكل علاقة تنشأ بين المرأة والرجل، مهما تكن درجة البساطة في المجتمع الذي يعيشان فيه تقع بطبيعتها، وبحكم الغريزة. تحت قانون ذوق الجمال بما فيه من بساطة أو تعقد حسب تطور ذلك المجتمع.
والفنون جميعها: التصوير والموسيقا والشعر والنحت الخ .. إنما تعبر عن تلك العلاقة خلال القرون وعبر التاريخ.
والمرأة من قبائل الكو نجو حينما تشق شفتيها لتركب فيهما قرطين من نحاس، إنما تقوم- كما يقولون اليوم- بعملية تجميل مطابقة لتطور وسطها. كما أن
المرأة الصينية المعاصرة لسون يات سين، التي كانت في طفولتها تضع قدميها في قالب من حديد حتى لا يزيد طولهما عن قدر معين، إِنما هي في هذا تتجمل بمثل هذه العملية القاسية.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإنه منذ هابيل وقابيل ما اجتمع رجل برجل إلا وتنشأ بينهما علاقة تخضع بحكم طبيعتها منذ اللحظة الأولى لقانون أخلاقي.
من هنا يتضح لنا أن المجتمع ينتج، مهما تكن درجة تطوره، بذورا أخلاقية وجمالية نجدها في عرفه وعاداته وتقاليده. أي فيما نصطلح على تسميته بـ (ثقاقة) في أوسع معاني هذه الكلمة.
وطبيعي أنه بقدر ما تكون هذه " الثقافة " متطورة فإن البذور الأخلاقية والجمالية تكون أقرب إلى الكمال. حتى تصبح بالتالي القوانين المحددة التي يخضع لها نشاط المجتمع. والدستور الذي تقوم عليه حضارته.
وليس للثقافة، في صورتها الحية. أعني كنشاط، تقسيمات تفصل بعضها عن بعض. كتلك الفصول التي نصفها حينما ندرس الثقافة دراسبة نظرية- وإلا كانت ثقافة ميتة، قد حنطها الزمن، وفصل بعض أجزائها عن بعض علماء الآثار أو علماء التاريخ الذين يختارون أحياناً لتبسيط الأشياء دراستها مجزأة.
أما الثقافة في صورتها الحية، فهي وحدة ذات أجزاء متماسكة ومترابطة فيما بينها بروابط داخلية تحددها عبقرية الشعب الذي وضعها مطابقة لأخلاقه وأذواقه وتاريخه.
والروابط هذه هي التي تضع على الثقافة طابعها الخاص. فتضع طابعا خاصا لأسلوب الحياة في المجتمع ولسلوك الأفراد فيه. بمعنى أنها تحدد كل الميزات الانسانية والتاريخية الخاصة بتلك الثقافة.
إن هناك على الخصوص صلة بين المبدأ الأخلاقي وذوق الجمال، تكون في
الواقع علاقة عضوية ذات أهمية اجتماعية كبيرة. إذ أنها تحدد طابع الثقافة كله، واتجاه الحضارة حينما تضع هذا الطابع الخاص على أسلوب الحياة في المجتمع، وعلى سلوك الافراد فيه.
فالحياة في مجتمع معين قبل أن تتأثر بالفنون والصناعات، أي بالجانب المادي أو الاقتصادي من الحضارة تتخذ لها اتجاها عاما ولونا شاملاً. يجعلان جميع تفاصيلها مرتبطة بالمبدأ الأخلاقي وبذوق الجمال الشائعين في هذا المجتمع. وبعبارة أدق إنها تكون مرتبطة بالعلاقة الخاصة القائمة بينهما.
ونتيجة هذه العلاقة تأتى أولاً في ترتيب خاص يقدم أو يؤخر المبدأ الأخلاقي على ذوق الجمال في "سلم" القيم الثقافية. حتى يتكون نموذج معين من المجتمع بسبب هذا الترتيب.
ويمكننا أن نصوغ هذه العلاقة في صورة جبرية هكذا.
مبدأ أخلاقي + ذوق جمال= اتجاه حضارة.
وتعتبر إذن هذه المعادلة كمقياس عام يدل عن اتجاه الحضارة كما يدل ما يسميه علماء الرياضة " الدالة "( le discriminant) في المعادلات الجبرية من الدرجة الثانية (1).
كذلك شأن الحضارة. تتغير ميزاتها وتتجه بوجه خاص، طبقا لعلاقة المبدأ الأخلاقي وذوق الجمال في المعادلة الحضارية. أي طبقا لترتيب هذين العنصرين في تلك المعادلة.
وعليه فإنه يمكننا القول بأن هناك، بصورة عامة، نموذجين من المجتمع: نموذج يقوم فيه النشاط أساسا، على الدوافع الجمالية ونموذج يقوم فيه النشاط على الدوافع الأخلاقية أولاً.
(1) على شرط أن نعتبر ترتيب عنصريها ثابت لا يتغير. على خلات المعادلات الجبربة العادية.
وهذا الاختلاف الأساسي ليس مجرد اختلاف شكلي .. إنه يؤدي إلى نتائج تاريخية ذات أهمية كبيرة.
فالنموذجان اللذان يختلفان هكذا. بسبب اختلافهما في ترتيب عناصر الثقافة لا يتطوران في اتجاه واحد، بل إنه في بعض الظروف تنشأ بينهما مناقضات جذرية: حتى إن الأمر الذي لا يريد أحدهما- بل ولا يمكنه أن يريد- تحقيقه بسبب أخلاقي، نرى الآخر يحققه، بسبب جمالي.
ولنتخذ دليلا على هذا من حضارتين:
1 -
إِن المجتمع الغربي. قد مارس، من بين فنونه، فن التصوير وتصوير المرأة العارية على الخصوص بسبب الدافع الجمالي. بينما لا نرى الفن الإسلامي قد خلف آثارا في التصوير كذلك الذي نشاهده في متاحف الحضارة الغربية لأن الرادع الأخلاقي في المجتمع الإسلامي لا يطلق العنان للفنان أن يعبر عن كل ألوان الجمال وعلى الخصوص المرأة العارية.
2 -
إن تطور الملابس في المجتمع الغربي، قد انطلق من نقطة معينة، هو إبراز جمال المرأة في الشارع بكل ما يمكن أن يوضح مظهره، بينما نجد أن تطور الملابس في المجتمع الإسلامي قد اتخذ اتجاها مخالفا تمام الاختلاف إذ هو يهدف أساساً بوسائل "ملاية اللف" أن يخفي جمال المرأة في الشارع (1).
وليس الأمر في هذين الاتجاهين أمر تفكير واختيار وإنما هو أمر تقليد يخضع للوراثة الاجتماعية وللعادات والتقاليد. وليس يعني هذا أن الثقافه الإسلامية تفقد عنصر الجمال. وإنما تضعه في مكان آخر في سلم القيم.
فكل ثقافة تتضمن عنصر "الجمال" وعنصر "الحقيقة" غير أن عبقرية أحدهما تجعل محورها من الجمال بينما الأخرى تفضل أن يكون محورها "الحقيقة".
(1) عندما تظهر المرأة المسلة بالبكيني على البلاج العمومي فإن هذا لا يعنى أن المجتحع الاسلامي قد غير ملبسه، بل إنه قد بدأ يغير اتجاهه الأصيل. مستعيرا دوافع التعبير من مجتع آخر دون ان يشعر.
والاختلاف هذا يعود إلى الأصول البعيدة. فالثقافة الغربية قد ورثت ذوق الجمال من التراث اليوناني الروماني. أما الثقافة الإسلامية فقد ورثت الشغف "بالحقيقة" من بين ميزات الفكر السامي.
فكان رواد الأولى وحملة لوائها، زعماء الفن من فيدياس Phidias إلى مخائيل انجلو Angelo Michel بينما قادة الأخرى أنبياء من ابراهيم إلى محمد. ومن هنا لم يكن من محض الصدفة أو من لغو الحديث، أن مؤرخي، "النهضة " الأوروبية يحددونها بأنها "رجوع إلى الحضارة الرومانية اليونانية".
ولقد كان لهذا الاختلاف في الأصول البعيدة للحضارتين، أثر فيما ينتجه الفكر، في كل واحدة منهما. فالعبقرية الأوروبية أنتجت مناهج أدبية كتبت على رايتها خلال القرون أسماء لامعة منذ ( Zschyle) اسشيل وسوفوكل ( Sophocle) إلى راسين وبلزاك ودستويفسكي حتى برناردشو. غير أن هذه العبقرية بعيدة عن وحي التوراة والإنجيل والفرقان.
وعلى العكس من ذلك فإن الأدب العربي والادب الاسلامي بصفة عامة.
لم ينتج التراجيديه ( Tragedie) ولا القصة ( Roman) بل لم يحاول أن ينتجهما إلا في القرن العشرين، وفي صور تدعو أحيانا للأسف.
وعليه فإن كل ثقافة تتضمن علاقة "مبدأ أخلاقي- ذوق جمالي" تكون ذات دلالة عن نوع عبقرية مجتمع معين. وهي ليست تطبع إِنتاجه الأدبي بطابع خاص فحسب وإنما تحدد اتجاهه في التاريخ أيضا.
اننا نستطيع مثلا أن نعتبر الاستعمار "كظاهرة ثقافية" يدل على أن الثقافة الغربية حددت علاقة "مبدأ أخلاقي- ذوق جمالي" بصفة معينة وذلك بأن قدمت العنصر الثاني على الأول في ترتيب القيم فأثر هذا الترتيب في علاقة الإنسان الأوروبي بالانسانية.
فكل ثقافة سيطرة ( Culture d'empire) هي في أساسها ثقافة تنمو فيها القيم الجمالية على حساب القيم الأخلاقية.
وهكذا يمكننا أن نتتبع هذه الاعتبارات إلى أبعد مدى. فنرى كيف أن ثقافة تمنح الأولوية لذوق الجمال، تغذي حضارة تنتهي إلى فضيحة حمراء .... يقود جنونها رجل مثل نيرون أو إمرأة مثل مسالين ( Messaline) وذلك لأنها تسيطر عليها دوافع الأنوثة.
كما أننا نلاحظ من ناحية أخرى. كيف أن الثقافة التي تمنح الأولوية للمبدأ الأخلاقي، تكون حضارة مآلها التحجر والجمود. ـ وتنتهي إلى فضيحة صامتة سوداء تتيه في مجاهل تصوف متقهقر يقود جنونه مشايخ الطرق.
كما أننا لو تتبعنا مفعول علاقة " مبدأ أخلاقي- ذوق جمالي" في مركب الحضارة لوجدنا أن له أثرا كبيرا في مجالات أخرى مثل تركيب الأسرة حيث تسود الأم أو يسيطر الأب وفي اتجاه الأدب بصورة عامة. فإن العلاقة التي نحن بصددها تحدد نزعة "الفن للفن" التي يتعارف عليها القوم في المجتمعات التي تمنح الأولوية "لذوق الجمال" كما تحدد من ناحية أخرى نزعة " الأدب الملتزم" في المجتمعات التي تقدم الأخلاق بصورة ما. على الجمال.
والتقديم والتأخير هذا ينتهي أيضا إلى تحديد مناهج سياسية مختلفة تمام الاختلاف. فبينما ينزع منهج إلى تأسيس ديمقراطية تجعل حرية الفرد هدفها وذلك بدافع جمالي إذا بالأخرى تنهج إلى ديمقراطية تستهدف سعادة المجتمع وذلك بدافع أخلاقي.
وعليه فإنه حينما توضع مشكلة توجيه الثقافة. فإنه يجب أن تراعى هذه الاعتبارات جميعها. بحسب ضرورات الحياة. علما بأن العناصر الثقافية موجودة في كل حضارة تواجه هذه الضرورات. غير أن تأثيرها يختلف في الحياة والتاريخ بحسب ترتيبها في سلم القيم المصطلح عليه.
وإن هذا ليبين لنا مدى الأهمية التي ينبغي لنا أن نعيرها لعناصر الثقافة ليس فقط بالنسبة لقيمتها الفردية في مركب الحضارة ولكن بالنسبة لعلاقاتها في هذا المركب.
وبهذا فإنه يبين لنا من هذه الأسطر أن أي خلل يحدث في هذه العلاقات فإنه قد ينتهي في آخر المطاف إلى خلل في توازن الحضارة وفي كيانها.