الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التوجيه الأخلاقي
لسنا هنا نهتم بالأخلاق من الزاوية الفلسفية؟ ولكن من الناحية الاجتماعية. وليس المقصود هنا تشريح مبادىء خلقية، بل أن نحدد (قوة التماسك) اللازمة للأفراد في مجتمع يريد تكوين وحدة تاريخية، هذه القوة مرتبطة في أصلها بغريزة (الحياة في جماعة) عند الفرد، والتي تتيح له تكوين القبيلة والعشيرة والمدينة ووالأمة. وتستخدم القبائل الموغلة في البداوة هذه الغريزة لكي تتجمع، والمجتمع الذي يتجمع لتكوين حضارة، فإنه يستخدم نفس الغريزة، ولكنه يهذبها ويوظفها بروح خلقية سامية.
هذه الروح الخلقية منحة من السماء إلى الأرض، تأتيها مع نزول الأديان، عندما تولد الحضارات، ومهمتها في المجتمع ربط الأفراد بعضهم ببعض، كما يشير إلى ذلك القرآن الكريم في قوله تعالى:{وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} .
ومن العجب أن نجد اتفاقاً له مغزاه ودلالته بين ما توحي به هذه الآية، وبين معنى كلمة "دين"( Réligion) في أصلها اللاتيني فهي تعني هنالك "الربط والجمع".
وليس من شك في أن نظرات المثقفين عندنا- أي المتعلمين- إلى المدنية الغربية مؤسسة على غلط منطقي، إذ يحسبون أن التاريخ لا يتطور، ولا تتطور معه مظاهر الشيء الواحد الذي يدخل في نطاقه، حتى أنهم حين ينظرون إلى الشيء
بعد حين يحسبونه قد تبدل بشيء آخر، وما هو في الحقيقة إلا الشيء نفسه، تنكر لهم في مظهره الجديد.
وإن شبابنا لينظرون إلى المدنية الغربية في يومها الحالي، ويضربون صفحا عن أمسها الغابر، حيث نبتت أولى بذورها، وتلونت في تطورها ونموها ألوانا مختلفة، وما فتئت تتلون عبر السنين حتى استوت على لونها الحاضر فحسبناها نباتا جديدا.
ولو أننا تناولنا بالدراسة مشروعا اجتماعيا، كجمعية حضانة الأطفال في فرنسا على سبيل المثال، لبدا لنا من أول نظرة في صورة جمعية تقوم على شؤونها دولة مدنية، فنحكم إذا عليها بأنها مؤسسة نشأت في بادىء أمرها على أسس مدنية (لا دينية)! .. في حين لو درسنا تاريخها، ورجعنا إلى أصول فكرتها الأولى، لوجدناها ذات أصل مسيحي، فهي تدين بالفضل إلى القديس (فانسان دي بول) الذي أنشأ مشروع الأطفال المشردين، خلال النصف الأول من القرن السابع عشر.
غير أن نظرتنا العابرة هذه، جعلتنا ننظر إليه وكان تاريخه قد ابتدأ من يوم ان التفتت أنظارنا اليه، فاعرناه بعض اهتمامنا في صورته الطارئة لا في جوهره وهذا شان شبابنا في نظرتهم إلى الأشياء، فإن أكبر مصادر خطئنا في تقدير المدنية الغربية أننا ننظر إلى منتجاتها وكأنها نتيجة علوم وفنون وصناعات، وننسى أن هذه العلوم والفنون والصناعات ما كان لها أن توجد، لولا صلات اجتماعية خاصة، لا تتصور هذه الصناعات والفنون بدونها، فى الأساس الخلقي، الذي قام عليه صرح المدنية الغربية، في علومه وفنونه، بحيث لو ألغينا ذلك الأساس لسرى الإلغاء على جميع ما نشاهده اليوم من علوم وفنون، فلو أخذنا جهاز الراديو مثلا لرأينا فيه مجهودات علمية وفنية مختلفة، دون أن يخطر ببالنا أثر القيم المسيحية في بناء هذا الجهاز، على حين أنه في الواقع أثر من آثار العلاقات الاجتماعية الخاصة، التي وحدت جهودا مختلفة (لهرتز)" Hertz" الألماني،
و ((بو بوف)) " Popoff" الروسي و (برانلي)" Branly" الفرنسي، و (ماركوني)" Marconi" الايطالي، و (فليمن)" Fleming" الأمريكي فكان الراديو نتيجة هذه الجهود جميعاً وهل هذه العلاقات الخاصة في أصلها سوى الرابطة المسيحية، التي أنتجت الحضارة الغربية منذ عهد شارلمان؟ ..
وهكذا سوف نصل في النهاية- إذا ما تتبعنا كل مظهر مدني من مظاهر الحضارة الغربية- إلى الروابط الدينية الأولى التي بعثت الحضارة وهذه حقيقة كل عصر، وكل حضارة.
إن روح الإسلام هي التي خلقت من عناصر متفرقة كالأنصار والمهاجرين أول مجتمع إسلامي، حتى كان الرجل في المجتمع الجديد يعرض على أخيه أن ينكحه من يختار من أزواجه، بعد أن يطلقها له، لكي يبني بذلك أسرة!!.
إن قوة التماسك الضرورية للمجتمع الإسلامي موجودة بكل وضوح في الإسلام، ولكن أي إسلام؟
…
الاسلام المتحرك في عقولنا، وسلوكنا، والمنبعث في صورة إسلام اجتماعي.
وقوة التماسك هذه جديرة بأن تؤلف لنا حضارتنا المنشودة وفي يدها - ضمانا لذلك- تجربة عمرها ألف عام، وحضارة ولدت على أرض قاحلة، وسط البدو، رجال الفطرة والصحراء.