الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مُشْكِلَةُ الزَّيِّ
إِن التوازن الأخلاقي في مجتمع ما، منوط بمجموعة من العوامل الأدبية والمادية، والملبس هو أحد تلك العوامل.
فالعباءة مثلاً من الأشياء التي ورثتها لنا بيئة تميل بروحها إلى التنعم والهدوء.
ولقد كان هذا اللباس يناسب جميع طبقات الشعب في الماضي، على تناقضها، فكما أنه كان لباس الزاهد المتقرب إلى الله، ولباس الراعي المسكين، فإنه كان لباس الأمراء المنهمكين في الملاذ والشهوات، وذلك لأن قاسما مشتركا من الحياة الراكدة الهادئة كان يجمعهم.
ولكن هل نتصور اليوم العباءة على ظهر عامل الماكينة أو مصلحها أو على ظهر عامل المنجم في باطن الأرض؟.
إن العالم الاسلامي على أبواب نهضة يدخل بها المصنع والعمل، وإن هذا كله ليدعوه إلى أن يساير ملبسه ذلك النشاط الجديد، فهذا شأن الأمم جميعاً. فالشعب الياباني قد بدأ بتغيير ملبسه عندما دق بابه ((الكومودور بيري))، قائد الأسطول الأمريكي عام 1853، لأنه أدرك أن لا مناص له من الخروج من ذلك الطور العتيق إلى الحضارة الحديثة، وفهم أن ذلك يقتضيه التخلي عن عباءته الحريرية المسماة (بالكيمونو) لكي يلبس ذلك اللباس الأزرق القطني الذي يناسب عامل الميكانيكا.
وليس اللباس من العوامل المادية التي تقر التوازن الأخلاقي في المجتمع فحسب، بل إن له روحه الخاصة به. وإذا كانوا يقولون:(القميص لا يصنع القسيس) فإني أرى على العكس من ذلك، فإن القميص يسهم في تكوين القسيس إلى حد ما، لأن اللباس يضفي على صاحبه روحه ومن المشاهد أنه عندما يلبس الشخص لباسا رياضيا، فإنه يشعر بأن روحا رياضية تسري في جسده، ولو كان ضعيف البنية، وعندما يلبس لباس العجوز فإن أثر ذلك يظهر في مشيته وفي نفسه، ولو كان شاباً قوياً.
ولم يكن نزع الطربوش والاستعاضة عنه بالقبعة في تركيا الكمالية بالشيء البسيط، فقد كان أتاتورك يعلم أن الطربوش جزء من الفكر العتيق، فكر الباحثين عن السلوك وقتل الوقت، أولئك الذين سئموا الحياة، وباتوا يدخنون النرجيلة، ويتلهون بكركرتها عن كر دقائق الزمن، تسلية لأنفسم بحياة تنابلة السلطان.
لقد كان من المحتم على أتاتورك أن يحطم ذلك الاستقرار المتحجر، في أحلام دامت قرونا على شاطىء البوسفور، فكانت القبعة هي القنبلة التي انفجرت في ذلك المجتمع، فحطمت أحلامه الخاوية، وبددت عن أفقه دخان النرجيلة، وطوت زرابيه المبثوثة، التي كان يلقي عليها همته ونشاطه.
لقد كانت فكرة مصطفى كمال التي دبرها قنبلة، ولكن تأثيرها لم يتم لأن صاحبها لم يفكر في الشروط الأخرى لنهضته.
ومهما يكن من أمر، فإننا نرى أن مشكلة الزي موضع اعتبارات مهمة غير التي ذكرنا، ونعني بها تلك التي تدفع إلى الاعتناء بالشكليات، فمن المعلوم أن الملبس يسير مع أهله في تطور التاريخ، وتبدل الأزمان، والدول المتقدمة تغير أزياءها الرسمية حسب تغيرات التاريخ، وبخاصة بعد النكبات الحربية، فإذا ما شوهت هزيمة كرامة زي من الأزياء العسكرية، نرى الدولة المهزومة كثيرا ما تقتبس أزياء الدولة المنتصرة. وقد شاهدنا ذلك مثلا في الجيش الروسي بعد
عام 1917، كما نشاهده اليوم في الجيش الفرنسي الذي قبس من الأزياء العسكرية الأمريكية ما يعرف بزي ( M.P) ، وصيره زيا له معرفا برمز ( P.M) .
ولقد يحدث هذا التشويه بسبب نكبات التاريخ في الملابس المدنية أيضا، ومما يذكر في هذا الباب ما لاحظه مستشرق كان قد ترجم للرحالة والمؤرخ الاجتماعي (أبي الفداء) الذي كان يدرس عادات وأخلاق قبائل الصقالبة، القاطنة على شواطىء (الفولجا)، فقال المستشرق في شأنه: (إن العرب كانوا يحبون إظهار عمائهم في كل مكان
…
)
وربما كانت هذه الملاحظة صائبة، ولكن ليت شعري! .. ماذا يفعل أبو الفداء بعمامته اليوم، وقد فقدت عزها بعدما صارت منذ قرون تاجا لأجيال جاهلة مستعبدة؟.
وهل يا ترى نستمسك بالطربوش؟ ذلك اللباس الذي شوهته أجيال من الباشوات والخدم، الذين تطوعوا في صفوف الاستعمار!
نعم!. إنه لمن الغباوة أن ننكر اليوم مشكلة الزي المناسب لرجال النهضة ونسائها، ولكننا نكون أكثر غباوة إذا ما استلمنا في ذلك إلى التقليد البحت، بلا التفات إلى مقتضيات أحوالنا من حيث دستور الجمال، وضيقنا الاقتصادي، والقيام ببعض الواجبات كالصلاة مثلاً.