الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْعُنْصُرُ الْأَوَّلُ: الْإِنْسَانُ
إن المشاكل التي تحيط بالإنسان (1) تختلف باختلاف بيئته، فالإنسانية لا تعاني مشكلة واحدة، بل مشاكل متنوعة، تبعا لتنوع مراحل التاريخ. فلا يمكن لنا أن نقارن في الوقت الحاضر بين رجل أوروبا المستعمر، ورجل العالم الإسلامي القابل للاستعمار، لأن كليهما في طور تاريخي خاص به.
ففي بلد أوروبية كبلجيكا، نجد الرجل لا يتمتع بتوازن اقتصادي في حياته، فهنالك اضطراب نتج عن عدم الملاءمة بين حاجاته وتيار الانتاج الصناعي المسرع، ومن هنا تنشأ مشكلة اجتماعية يعانيها شعب بلجيكا، وهي مشكلة "حركة" مضطربة لا يشعر بها شعب لا يعيش في مجال هذا التيار. بينما البلاد الإسلامية على نقيض ذلك أزمتها ليست في الحركة بل في "الركود"، فهو مشكلة الإنسان المتوطن فيها، الذي عزف عن الحركة، وقعد عن السير في ركب التاريخ.
فالأمر في الحالة الأولى يتعلق بحاجات غير مشبعة، وديناميكية مضطربة، على حين يتعلق في الأخرى بعادات راكدة وضعت الفرد في حالة توازن خامد، وخمول تام، في الوقت الذي خطت فيه الحضارة خطوات العماليق.
وعليه فالأمر متصل بمشكلتين مختلفتين في أساسهما، فهنالك هم في حاجة الى مؤسسات، بينما نحتاج هنا إلى رجال، فمن الرجل تنبع المشكلة الإسلامية بأكملها، وبخاصة في الجزائر، فالمسألة هي: يجب أولا أن نصنع رجالاً يمشون في التاريخ، مستخدمين التراب والوقت والمواهب في بناء أهدافهم الكبرى.
(1) ندرس هنا مشكلة الإنسان في عمومها، وسيكون الحديث غالبا عن الرجل ثم نخصص فصلا للمرأة بعد ذلك
ففي بلاد مستعمرة كالجزائر، نرى أنه ليس فيها طبقات، وإنما هنالك صنفان من الناس:
الصنف الأول: وهو الذي يسكن المدينة، إما متعطل لا يعمل شيئا، وإما أنه يبيع بعض العقاقير والحاجات، وإما أنه " شاويش " في إدارة استعمارية، وبعض آخر نجده محاميا أو صيدليا أو قاضيا، وقليل ما هم.
والصنف الثاني: وهو الذي يسكن البادية مترحلاً بلا مواش، فلاحا بلا محراث ولا أرض.
والفرق بين هذين الصنفين هو أن ساكن الحضر رجل قليل، تتمثل فيه القِلة في كل شيء. والثاني رجل الفطرة الذي يرضى من الأشياء بالعدم، ولكن رب عدم خير من القليل، إذ أن رجل المدينة الذي رضي بالقليل من الأشياء، قد تغلغلت في نفسه دواعي الانحطاط التي قضت على المدنيات المتعاقبة على بلاده من أيام قرطاجنّة، فهو يحمل روح الهزيمة بين جوانحه، فقد عاش حياته دائما في منحدر المدينة إذ هو دائما في منتصف طريق. وفي منتصف فكرة، وفي منتصف تطور، لا يعرف كيف يصل إلى هدف، إذ هو ليس "نقطة الانطلاق" في التاريخ كرجل الفطرة؛ ولا " نقطة الانتهاء " كرجل الحضارة، بل هو " نقطة التعليق " في التطور، وفي التاريخ، وفي الحضارة. فرجل المدينة إذن يصدق عليه هذان الوصفان:" رجل القلة " و " رجل النصف " الذي دخل في ميدان فكرة هي الاصلاح، فمسخها (نصف فكرة) وأطلق عليها اسم " السياسة " لأنه لم يكن مستعدا إلا لنصف جهد، ونصف اجتهاد، ونصف طريق.
واليوم فإن ذلك الرجل المقل يحاول وضع القضية الجزائرية في طريق نصف الحل، أمام المجلس المنصف بين المستعمرين وأهل البلاد ذلك المجلس الذي فرضه الاستعمار كميدان لإنصاف المثقفين (1).
(1) ولا زال هذا النوع يحمل بين طياته كل النكبات التي تحل ببلاده، متكررة كل مرة في ثوب جديد.
فقد صار من اللازم أن نضع أمامنا المشكلة بأكملها، وأن نأخذ في اعتبارنا - على الأخص- عنصرها الأساسي: الرجل، ويلزمنا أولاً أن نفم كيف يؤثر الإنسان في تركيب التاريخ الذي درسنا قانونه في الفصل السابق.
ومن الملاحظ أنه في القرن العشرين يؤثر الفرد في المجتمع بثلاثة مؤثرات: أولاً: بفكره. ثانياً: بعمله. ثالثاً: بماله.
وحاصل البحث أن قضية الفرد منوطة بتوجيهه في نواح ثلاثة:
أولا- توجيه الثقافة.
ثانيا- العمل.
ثالثا- رأس المال.
***