الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التَّوْجِيهُ الْجَمَالِيُّ
((إن الله جميل يحب الجمال))
((أثر نبوي))
لا يمكن لصورة قبيحة أن توحي بالخيال الجميل، فإن لمنظرها القبيح في النفس خيالاً أقبح، والمجتمع الذي ينطوي على صور قبيحة، لا بد أن يظهر أثر هذه الصور في أفكاره، وأعماله، ومساعيه.
ولقد بعثت هذه الملاحظة كل من عنوا بالنفس الاجتماعية من علماء الأخلاق، أمثال الغزالي، لدراسة الجمال، وتقديره في الروح الاجتماعية.
ويمكن أن نلخص أفاكارهم- في هذا الصدد- في اعتبارهم "الإحسان" صورة نفسية للجمال.
وترجمة هذا الاعتبار في لغة الاجتماع: أن الأفكار- بصفتها روح الأعمال التي تعبر عنها أو تسير بوحيها- إنما تتولد من الصور المحسة، الموجودة في الإطار الاجتماعي، والتي تنعكس في نفس من يعيش فيه. وهنا تصبح صوراً معنوية يصدر عنها تفكيره.
فالجمال الموجود في الإطار الذي يشتمل على ألوان، وأصوات، وروائح، وحركات، وأشكال، يوحي للإنسان بأفكاره، ويطبعها بطابعه الخاص من الذوق الجميل، أو السماجة القبيحة.
فبالذوق الجميل الذي ينطبع فيه فكر الفرد، يجد الإنسان في نفسه نزوعا إلى الإحسان في العمل، وتوخياً للكريم من العادات.
ولا شك أن للجمال أهمية اجتماعية هامة، إذا ما اعتبرناه المنبع الذي تنبع منه الأفكار، وتصدر عنه بواسطة تلك الأفكار أعمال الفرد في المجتمع.
والواقع أن أزهد الأعمال- في نظرنا- له صلة كبرى بالجمال، فالشيء الواحد قد يختلف تأثيره في المجتمع باختلاف صورته التي تنطق بالجمال، أو تنضح بالقبح، ونحن نرى أثر تلك الصورة في تفكير الإنسان، وفي عمله، وفي السياسة التي يرسمها لنفسه، بل حتى في الحقيبة التي يحمل فيها ملابس سفره.
ولعل من الواضح لكل إنسان أننا أصبحنا اليوم نفقد ذوق الجمال، ولو أنه كان موجودا في ثقاقننا، إذن لسخرناه لحل مشكلات جزئية، تكون في مجموعها جانبا من حياة الإنسان.
ويكفينا للتدليل على ذلك ما نراه مثلاً من شأن ذلك الطفل الذي يلبس الأسمال البالية، والثياب القذرة، التي إن شئنا وصفها لقلنا إنها ثياب حيكت من قاذورات وجراثيم، مثل هذا الطفل الذي يعيش جسمه وسط هذه القاذرات والمرقعات غير المتناسبة، يحمل في المجتمع صورة القبح والتعاسة معا، بينما هو جزء من ملايين السواعد والعقول التي تحرك التاريخ، ولكنه لا يحرك شيئاً، لأن نفسه قد دفنت في أوساخه، ولن تكفينا عشرات من الخطب السياسية لتغيير ما به من القبح، وما يسوده من الضعة النفسية، والبؤس الشنيع.
فإن هذا الطفل لا يعبر عن فقرنا المسلم به، بل عن تفريطنا في حياتنا.
ولنستخدم أبسط معنى للجمال، ولننظر من قريب إلى أسمال هذا الطفل، في- على كونها أسمالا- تحمل معنى القبح، وتحمل أكثر من ذلك جراثيم تقتله مادياً وأدبياً، فليست هذه الاسمال جراباً للوسخ فقط، ولكنها سجن لنفس الطفل أيضا.
لقد أراد الطفل من الوجهة الخلقية، ستر عورته، ولكن مرقعاته قتلت كرامته، لأن العدالة الشكلية تذهب أحيانا إلى أن "الجبة" تصنع الشيخ، كما أن القبعة تصنع القسيس.
وليس من شك في أن مصطفى كمال حينما فرض القبعة لباسا وطنيا للشعب، إنما أراد بذلك تغيير نفس، لا تغيير ملبس، إِذ أن الملبس يحكم تصرفات الإنسان إلى حد بعيد.
فإذا ما لاحظنا أن مرقعات طفلنا قد أصبحت بما تحمل من أوساخ لا تقيه من البرد، أو الحر، وجدنا أيضاً أنها لا تستدر في الإنسان عطفا، بل تبعث فيه اشمئزازا، وذلك بتأثير الصورة الشنيعة، والرائحة الكريهة، والألوان المتنافرة.
وإن دستور الجمال في النفس الإنسانية ليعبر عن هذه المأساة كلها بكلمة واحدة: إنه لمنظر قبيح!! إلا أنه لا يقف عند هذا الحد، بل يوحي بالحل والمعالجة الممكنة. ومن المؤكد أننا سوف لا نأتي له بثوب آخر فنحن نريد أن نخلِّصه من قبحه في سرعة ويسر، وإِذن فنحن نأخذ بيد هذا الطفل إلى الماء فننزع عنه مرقعاته، ونأمره بأن يقوم بغسل واحدة منها ذات لون أقرب إلى الذوق، قطعة تكفي لستر عورته يغسلها، ثم يرتديها، بعد أن يغتسل هو أيضا مما به من وسخ، ثم نأخذه إلى حلاق يحلق رأسه، ونتركه بعد ذلك يسير في حاله، بعد أن نعلمه كيف يقصد في مشيه، وكيف لا يطأطىء رأسه، فبهذا لا يظل كومة متحركة من الأوساخ، بل يصبح طفلاً فقيرا يسعى لقوته، نجد فيه صورة للفقر والكرامة، لا للقبح والمهانة.
ولا يظننَّ ظان أننا بضربنا هذا المثل نرى أن ذوق الجمال يسعى لحل مشكلات المساكين فحسب، بل أردنا التدليل على تأثيره في المجتمع، باختيار نموذج من صميم أوضاعنا الاجتماعية. أما تأثيره فعام يمس كل دقيقة من دقائق الحياة، كذوقنا في الموسيقى، وفي الملابس، والعادات، وأساليب الضحك، والعطاس، وطريقة تنظيم بيوتنا، وتمشيط أولادنا، ومسح أحذيتنا، وتنظيف أرجلنا.
ولقد صدرت أخيرا بعض الأوامر في مدينة موسكو- نقلتها إلينا الصحافة
بتاريخ 1957/ 8/3 - تلزم سكانها بأن يراعوا نظافة مدينتهم، فهم مهددون بفرض غرامة تبدأ من خمسة وعشرين روبلا إلى مائة روبل على كل من يبصق في الشارع أو يلقي بأعقاب (السجائر) على الرصيف، أو يعلق ملابسه في الشباك المطل على الشارع أو يلصق إعلانات على الحوائط، وأيضا كل من يركب السيارات العامة بملابس العمل المتسخة.
فلو أننا سألنا عمدة موسكو مثلاً عن السبب الذي دعا لمثل هذه الاجراءات لأجابنا بأنه: النظام. وجيب طبيب من وجهة نظره بأنه: الصحة، وثالث فنان يذهب إلى أنه: جمال المدينة.
وكل إجابة من هذه الإجابات صادقة كسلوك يمليه وضع خاص بكل فرد ولكن جميع هذه الاجابات لا تكون صادقة إلا لأنها تعبر عن سلوك عام يعكس (الثقافة الشيوعية) التي نتصورها في شكلها الأعم الذي سميناه في تعريف الثقافة (المحيط) الاجتماعي.
وعليه، فإن فكرة المحيط تدخل في كل عمل فردي أو إداري في وسط متحضر، ولكنها تدخل ضمنا فقط- كما رأينا- لا على وجه التحديد، الذي نريد القيام به هنا حين نتحدث عن أحد مقومات الثقافة وهو: الجمال.
والإطار الحضاري بكل محتوياته متصل بذوق الجمال، بل إن الجمال هو الاطار الذي تتكون فيه أية حضارة، فينبغي أن نلاحظه في نفوسنا، وأن نتمثل في شوارعنا، وبيوتنا، ومقاهينا، مسحة الجمال نفسها التي يرسمها مخرج رواية في منظر سينمائي أو مسرحي.
يجب أن يثيرنا أقل نشاز في الأصوات، والروائح، والألوان، كما يثيرنا منظر مسرحي سيء الأداء.
إن الجمال هو وجه الوطن في العالم، فلنحفط وجهنا، لكي نحفط كرامتنا، ونفرض احترامنا على جيراننا، الذين ندين لم بنفس الاحترام.