الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْمُعَامِلُ الإِسْتِعْمَارِيْ
لا شك أن بحثنا سوف يكون معرضا لانتقاد محق، إذا نحن تغافلنا عن تأثير المعامل الاستعماري واتصاله بنهضة البلاد العربية والإسلامية اتصالا وثيقا، غير أنه يجب أن نتحدث عن هذا المعامل من ناحيته الفنية:
فللفرد بصفته عاملاً أولياً للحضارة قيمتان:
الأولى منهما خام، والأخرى: صناعية؛ أو: الأولى منهما: طبيعية، والأخرى: اجتماعية.
أما القيمة الأولى فهي موجودة في كل فرد من الأفراد، في تكوينه البيولوجي، وتتمثل في استعداده الفطري لاستعمال عبقريته وترابه ووقته.
وإِذا نظرنا إلى المسلم الجزائري مثلا من هذه الزاوية، فإننا نراه مزودا من ذلك بأطيب زاد، فإن التاريخ يشهد بكفاءته وعبقريته في هذا الشأن إذ أنه سطر من مظاهر هذه العبقرية كثيرا، ما بين عهد القديس أوغستين البوني إلى عهد ابن خلدون.
وأما القيمة الثانية وهي القيمة الصناعية فإنه يكتسبها من وسطه الاجتماعي، وهي تتمثل في الوسائل والمسيرات التي يجدها الفرد في إطاره الاجتماعي لترقية شخصيته وتنمية مواهبه وتهذيبها.
ووظيفة الهيئة الاجتماعية إنما تتمثل في الواقع في هذه الترقية أو التنمية.
فإنها تصنع للانسان ما يمده في رفع مستواه من مدرسة أو مستشفى، ومن ادارة تسهر على مصلحته الخ
…
ومن هنا تبدأ قضية الاستعمار تهمنا، حيث أنه يفرض على حياة الفرد عاملاً سلبياً نسميه بالمصطلح الرياضي (المعامل) الاستعماري Cœfficient ولذلك المعامل تاريخه في سياسة الاستعمار، فقد كان القائد الفرنسي " بوجو " - وهو في عهد الاحتلال الصورة المقابلة لصورة الأمير عبد القادر- أول فرنسي أدرك حقيقة الشعب الجزائري وما ينطوي عليه من عبقرية فذة إدراكا وضع بمقتضاه الطريقة المناسبة لاستقرار الاستعمار.
وقد وضعها أساسا لتخطيط سياسته الفرنسية، التي كانت في نظره تحتاج إلى معمرين يتكافئون مع قيمة الأهالي الطبيعية. لذلك فإن شهادته بتلك الحقيقة لم تكن تخلو من النظر السياسي، إذ كان يريد اختيار معمرين تساوي قيمتهم قيمة الشعب الجزائري.
ولئن كانت شهادة الجنرال المذكور من قبيل الاعتراف بمزايا الخصم؛ ذلك الاعتراف الذي يحمل في طياته بقية الخلق الفرنسي القديم، فإن تلك الشهادة قد أصبحت اليوم هي الموحية لسياسة التهديم في جوهر الفرد الجزائري ومحو عبقريته، ولقد ظهرت طلائع هذه السياسة غداة الهزيمة التي أصابت فرنسا عام 1870 فانتقصت من هيبتها.
وبدلا من أن يدفعها شعورها بالنقص إلى الرفع من قيمة شعبها، فإنها - رغبة منها في إقرار التوازن بين المعمرين والمستعمرين- قد عمدت إلى الانتقاص من قيمة هؤلاء الآخرين، وتحطيم قواهم الكامنة فيهم، فمنذ ذلك الحين بدأ الحط من قيمة الأهالي ينفذ بطرق فنية، كأنه معامل جبري وضع أمام قيمة كل فرد، بقصد التنقيص من قيمته الإيجابية.
ولقد رأينا هذا (المعامل) يؤثر في حياة الفرد في جميع أطوارها، يؤثر فيه
وهو طفل، إذ لا يمده المجتمع بما يقوي جسده وينمي فكره، أو يهيىء له مدرسة أو توجيهاً، هذا إذا كان له أب يحنو عليه.
أما إذا فقد من نشأته الأب فسيكون الأمر أدهى وأمر، ولسوف يؤول صاغرا إلى ماسح أحذية، أو سائل يتخلى عن كل عز وكرامة، بإراقة ماء وجهه.
فإذا ما كتبت له النجاة من كل هذه النكبات، وهيئت له الأسباب لأن يجد مقعدا في مدرسة
…
فكم من العراقيل توضع في طريقه!
…
ممتحنون بلا إنتصاف، .. وحكام بلا شفقة، ومستخدمون بلا ضمير
…
وأخيرا فكم يلاقي ذلك الفتى المسلم في سبيل الحصول على وظيفة حقيرة!
وإذا ما بلغ مبلغ الرجال ماذا يعمل؟ فالشراء، والبيع، والسفر، والكلام، والكتابة، والتلفون، وكل الأعمال التي تقوم عليها حياته الاجتماعية لا تنالها يداه إلا بشق الأنفس، ومن خلال شبكة دقيقة مسمومة من الأحقاد، تسلبه كل وسيلة لإقامة حياته، وتنشر من حوله الأفكار المحطمة لقيمته والمعرقلة لمصالحه. فتحيطه بشبكة محكمة ينسجها خبث المستعمر الداهية.
وبدهي أنه في حاله هذه لا سبيل له لأن يقوم بأعماله إلا بالقدر الذي يقدره الاستعمار له، فهو يعيش كأن يدا خفية، وتارة مرئية، تشتت معالم طريقه، وتقصي باستمرار أمامه العلامة التي تحدد هدفه، فلا يدركه أبدا.
نعم، هناك واقع استعماري، هو ذلك المعامل الاستعماري.
لقد تكلم البعض في شأن هذا المعامل بلسان السياسة، فطالبوا بالحقوق التي هضمها الاستعمار، وأغفلوا الواجبات، وأصبح هذا الكلام من أروع مظاهر المأساة التي يعانيها الجنس البشري في عصرنا.
وتكلم عنه آخرون بلسان الواجبات كغاندي ففاز بحقوقه كاملة، وكأنها نظرة قرآنية غير منتظرة عند ذلك المصلح البرهمي.
أما هنا فنحن نريد أن نبحثه بحثاً علمياً في بلادنا، ولكي نتبع المقياس الصحيح في درس الاستعمار، يلزمنا أن نراه في أعماق التاريخ، وأن نوسع نطاق البحث فيه، لأنه ليس بالشيء الذي يخص علاقات الجزائر بفرنسا فحسب، ولاكنه يهم بصفة عامة علاقات الحضارة الغربية بالانسانية منذ أربعة قرون.
والاستعمار يعتبر من الوجهة التاريخية نكسة في التاريخ الإنساني، لأننا إِذا بحثنا عنه فسنجد أصوله تعود إلى روما، حيث وضعت المدنية الرومانية طابعها الاستعماري في سجل التاريخ، وقد أعقبهما العهد الاسلامي الذي كان في الواقع تجربة من نوع جديد في تاريخ علاقات الشعوب، فنحن لا نرى الحكم الاسلامي قد استعمر بما في هذه الكلمة من معنى مادي منحط، بل كان فتحه للبلاد كجنوب فرنسا وإسبانيا وأفريقيا الشمالية، لا لاستغلالها، ولكن لضمها للحضارة الإسلامية في الشام أو العراق. وليس لأحد أن ينكر هذه الحقيقة محتجا بأن انعدام التفرقة السياسية إنما يعود إِلى أن شعوبه كانت متوحدة في الدين، فإن الواقع التاريخي يشهد، وأقباط مصر ويهودها يشهدون، بأن الإسلام لم يكن يعم البلاد كدين، بل كحضارة.
وقد وجدنا القسيس (هربرت) يتعلم العلوم الإسلامية ثم يرقى عرش البابوية باسم البابا سلفستر الثاني، فيصبح المحرك الأول للحرب الصليبية الأولى، نعم، ما كان لذلك أن يحدث لولا أن الإسلام قد جاء بعهد جديد في تاريخ العلاقات بين الشعوب.
ومن سوء حظ الإنسانية أن نسيت أوربا أو تناست هذه التجربة اليوم، ولا عجب فإن الواقع كما لاحظه (جوستاف لوبون) هو أن جميع الوسائل قد اتخذت لمحو الحضارة الإسلامية من سجل التاريخ، من أجل ذلك زور الكتاب الغربيون التاريخ، حتى ظهر في عيون من أخذ عنهم أن التاريخ البشري ليس تلك السلسلة التي تتصل فيها جهود الأجيال، وإنما في نظرهم تلك المسافة المختزلة تبتدىء من (الأكروبول) في أثينا وتنتهي عند قصر (شايو) بباريس، أو أكثر
من ذلك بقليل. ولقد تظهر هذه الخرافة علمية في أعين قوم من أعلام المثقفين في أوربا حتى إِنه لتعلوهم الدهشة إذا ما كشف لهم المتحدث عن وهم هذه المسافة التي رأوا في مبدئها ابتداء للمدنية وفي منتهاها انتهاء لها، ولو أنهم دققوا النظر، لوجدنا هوة كبيرة تفصل حضارة أرسطو وحضارة ديكارت، وأن تلك الهوة من القرون هي الحضارة الإسلامية، وإني لأذكر يوما دهش فيه محدث لي بينت له زيف معلوماته التاريخية وأوضحت له هذه الحقيقة التي كانت همزة الوصل في التاريخ الإنساني بين حضارة باريس وأثينا.
غير أن المدنية الحاضرة تخطت الحضارة الإسلامية (التي تحمل رسالة الإنسانية) لتأخذ من الحضارة الرومانية روحها الاستعمارية، والمعمرون أنفسم يعترفون بذلك من حيث لا يشعرون، إذ نسمعهم صباح مساء يردون أعمالهم إلى عبقرية الرومان، ومن هنا نرى أن الاستعمار قد رجع بالإنسانية في التاريخ ألف عام ما قبل الحضارة الإسلامية ولكن ذلك لا يدفعنا إلى أن نحسبه شرا كله، بل إن خيراً قد حققه الله على يديه من حيث لا يدري، فلئن كان بطشه انتقاما، فإن في طياته رحمة
…
ولنتأمل .. ما الذي بعث العالم الإسلامي من نومه قرناً؟.
من الذي أيقظه من خمسين سنة تقريباً؟
من الذي قال له قم!!!
إنه الاستعمار. نعم إِنه قد خلع علينا بابنا، وزعزع دارنا، وسلب منا أشياء ثمينة.
لقد أخذ من حريتنا وسيادتنا وكرامتنا، وكتبنا المنسية، وجواهر عروشنا، وأرائكها الناعمة، التي كنا نود أن لو بقينا عليها نائمين! ..
ولكن إذا كان هذا هو الواقع الاستعماري فيجب أن نعترف بأنه أيقظ الشعب الذي استسلم لنوم عميق، بعد الغداء الدسم الذي أكله عندما كان يرفل
في نعم حضارته والتاريخ قد عودنا أن كل شعب يستسلم للنوم، فإن الله يبعث عليه سوطا يوقظه. على أن الذي نلاحظه في العبقرية الرومانية إنما هو الروح القيصرية، على حين نلاحظ في الاسلام روح الإنسانية.
وللانسانية أن تختار بين هاتين القيادتين في مستقبلها، الذي لا بد فيه من يقظات أخرى لشعوب نائمة، ومن تداول مستمر لتلك القيادة.
فإما أن يكون مستقبلها نوما تغط فيه إلى الأبد، ولا تستطيع النهوض من مشرق فجر جديد، فتعجز عن تجديد حضارة لا تحمل طابعا خاصا من شعب متكبر، يسوم الإنسانية سوء العذاب، من غير ما ضمير يردع، ولا قانون يمنع. وإما أن تأتي بحضارة تكون للبشر جميعا: تستخدم مواهبهم المتنوعة، وتصور قواهم المتعددة.
وفي هذين الاحتمالين عقدة عصرنا الحاضر، وإن تلك العقدة بيد (الكبار)، فهل هم يريدون حلها لصالح الإنسانية.؟
ومهما يكن من أمر فإن واجبنا نحن (غير الكبار) أن نتحدث في الأشياء التي تخصنا، ومنها ذلك المعامل الاستعماري، الذي يعمل في حياة الفرد ضد مصيره، وضد ضميره.
وإِن الواجب ليقضي على كل (غير كبير) أن يشعر بما تنطوي عليه شخصيته من قيمة جوهرية، هي تراثه الخاص الذي لا سلطان لأحد عليه، فكما أنه ليس للاستعمار أن يتصرف في الزمان والمكان، فكذلك لا يستطيع أن يتحكم في عبقرية الإنسان.
ولئن كان له من السلطان السياسي ما يهدم مجتمع الفرد، ويزيف قيمته الاجتماعية فإن قيمته الجوهرية، التي تشتمل على شروط بسيطة لازمة لاجتياز مرحلة العسرة من حياته، تقصر عنها يد المستعمر، وما دامت القيم الجوهرية الثلاثة: الإنسان والتراب، والزمن (وهي الزاد وقت العسرة) في يد شعب،
يشعر بها حينما ينهض من النوم، فإن ذلك الشعب بلا شك يمسك بيده مفتاح الأقدار، وربما تصادفه عراقيل أو يعثر مرات كثيرة، أو يفقد الأدوات المساعدة في طريقه، ولكن هيهات أن ينتكس أو يعود إلى الانحطاط إذا ما تصرف في إمكانياته تصرف الرشيد.
وأخيرا. فإن المعامل الاستعماري في الواقع يخدع الضعفاء، ويخلق في نفوسهم رهبة ووهما، ويشلهم عن مواجهته بكل قوة، وإِن هذا الوهم ليتعدى أثره إلى المستعمرين أنفسهم فيغريهم بالشعوب الضعيفة، ويزين لهم احتلالهم إِذ يحاولون إطفاء نور النهار على الشعوب المتيقظة، ويدقون ساعات الليل عند غرة الفجر، وفي منتصف النهار، لترجع تلك الشعوب إلى العبودية والنوم.
ولكن مهما سمعنا تلك الدقات الخادعة تلح في إيهامنا بأنه الليل، فلن نعود إِلى النوم.
لقد أصبحنا والحمد لله، ولا رجعة إلى الظلام مهما حاول الاستعمار، إنه النهار
…
النهار
…