الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْعُنْصُرُ الثَّانِيَ: التُّرَابُ
التراب أحد العناصر الثلاثة التي تكون الحضارة، فإذا ما توفر " المركب الديني " لتركيب هذه العناصر- كما أسلفنا- فإننا نرى التراب في بلاد الاسلام جديرا ببحثه هنا كعامل من عوامل الحضارة.
ونحن حينما نتكلم عن التراب، لا نبحث في خصائصه وطبيعته، فليس هذا البحث من موضوع الكتاب، ولكننا نتكلم عنه من حيث قيمته الاجتماعية، وهذه القيمة الاجتماعية، للتراب مستمدة من قيمة مالكيه، فحينما تكون قيمة الأمة مرتفعة، وحضارتها متقدمة يكون التراب غالي القيمة، وحيث تكون الأمة متخلفة- كما نقول اليوم- يكون التراب على قدرها من الانحطاط.
ونستطيع بمقياسنا السابق أن نقول: إن التراب في أرض الإسلام عموماً على شيء من الانحطاط، بسبب تأخر القوم الذين يعيشون عليه (1)، ذلك أن الأرض الزراعية في بعض البلاد كالجزائر مثلاً بدأت تتقهقر رويدا أمام غزو الصحراء، فأكفان الرمال تمتد هناك حيث كان يوجد قطعان الماشية، والأرض الخضراء.
ولقد شاهدت الصحراء قبل عشر سنوات جنوب مدينة (تِبسه) ولكنها اليوم قد أصبحت شمالها. وليس بمستبعد- إذا ما واصلت الصحراء هذا التقدم- أن تكون عاصمة البلاد بعد قرن أو قرنين واحة محفوفة بشيء من النخيل، تحيط بها الرمال.
(1) ربما أمكننا ذكر أسباب سياسية أيضا مثل استيلاء الاستعمار على تراب بعض البلاد: ولكن هذا الجانب الطارئ قد يخفي علينا جوانب أخرى نراها أكثر أهمية في دراسة منهجية لأنها تتعلق بأسباب ط س ة [[قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: لم أستبن هذه الكلمة]] تستحق العلاج في طبيعة التراب أو في سلوك أصحابه.
ونحن لا نرى في هذا مجرد مشكلة، بل نراها في الحقيقة مأساة دامية، إذ تموت الأرض الخضراء عن أهلها، وتتركهم يتامى بين يدي الصحراء المقفرة، وليس لهم من مطعم إلا بعض أشجار من النخيل، وليس لهم من مشرب إلا بقية مما ترك الشتاء من مطر، هذا المصير الذي تنتظره أراضينا الخصبة يشبه إلى حد كبير مأساة (برقة) التي اكتسحتها الرمال منذ ألف عام.
ولكن ماذا فعل سكان الأرض أمام هذا الغزو؟ ..
إنهم وقفوا منه موقف الضعيف الجبان! لقد فر ساكن البادية، ذلك الرحالة الذي لم تبق له أرض يحرثها، ولا ماشية يحلبها، لم تبق له إِلا دابة يركبها ليفر، فهو الآن تائه حائر بين الصحراء التي تبدده، وبين المدن الساحلية التي ترفضه أو تبتلعه حيث تجعل منه إنسانا منبوذا.
ولقد كان من آثار هذا الجدب الضارب في الأرض، أن أصبحت رحلة القبائل في الشتاء والصيف مهددة بالانقراض، ولسوف يكون في انقراضها انقراضُ الرجل الفطرة الذي لم يستقر مصيره في البلاد.
وهكذا يذهب تراثُنَا الحيوي- تراث اللحم والدم- يذهب هباء ..
إنه الهرب .. إنه التشتت .. إنه الموت!!!
إن الوضع خطير، ولكنه لا يدعونا إلى اليأس من إصلاح ما نحن فيه.
فإن علينا أن نوقف النزيف أولا، وأن ننقذ الشعب من خطر الموت في أسماله، دون أن يجد ما يسد رمقه.
ونقطة الانطلاق في كل إصلاح اجتماعي، هي أولاً توفير القوت والملبس، ثم نطرح القضية على بساط التخطيط.
وقد سبق أن بحثت هذه القضية من الناحية الزراعية بحثا كاملاً متخصصا، غير أننا نود أن نلفت النظر إلى وجه آخر فيها، وذلك من حيث تأثير المناخ والأحوال الجوية، وهي تخص على الأقل 80% من البلاد الإسلامية، مثل
باكستان والأناضول والأردن والحجاز وغيرها، ولكننا نجعل نقطة تركيزنا على بلاد الشمال الأفريقي التي نعرفها، فعلى طول الخط الذي يمتد من جنوب تونس إِلى جنوب مراكش تتقدم الصحراء كل سنة، والسبب في ذلك. يعود بلا شك إلى الإقلال من الأشجار والغابات إقلالاً بالغاً، وبخاصة في الأعوام الأخيرة (1).
وانقراض الغابة في الشمال الأفريقي شيء له تاريخ قديم، يرجع إلى عهد الكاهنة التي صيرت جنوب البلاد (أرضاً حريقاً) كما يقول أهل البلاد.
ومن ذلك العهد بدأ خط الصحراء يصعد من الجنوب إلى الشمال في كل سنة. ويزدرد شيئا فشيئا الأراضي الصالحة للزراعة، ليدفنها تحت الرمال.
وليست أرض البادية- في أصلها إلا أرضا خضراء مخصبة صالحة للزراعة، حولتها الأيام إِلى ما هي عليه الآن، وهي جادة في تخريبها حتى تبلغ المأساة منتهاها، عندما تتعذر الحياة فيها على الحيوان، بعد أن تعذرت على النبات. وهذا التحول في الأرض الخصبة إلى فلاة ثم إلى صحراء- يؤدي إلى تحول في الحياة الاقتصادية، فقد تتحول أولاً حرفة البلاد من الزراعة إلى رعي الماشية، ومن هذه إلى لا شيء. وإن هذا التطور الطبيعي ليفرض على الحياة البشرية أن تتبع هذه الدورة الجهنمية، ونتيجة هذا التكيف تظهر في النهاية في صورة حياة اجتماعية راكدة هي ((الحياة النباتية)).
وإِن الإنسان ليدرك هذا الطور حين لا يجد في يده من الوسائل ما يرد به غائلة الصحراء، فيترك العمل، حيث لم تعد له حاجات يطلب إشباعها.
لقد كانت بلاد الشمال الإفريقي قبل ألف سنة تحتوي على مساحات من الأشجار تبلغ سبعة ملايين من الهكتارات، غير أننا نجدها اليوم قد نقصت إلى الثلث تقريبا، وهنا يكمن سر المأساة التي نعيشها اليوم، حيث نجد الجو لا يكف عن أن يقترب يوما فيوما من الطقس الصحراوي القاري.
(1) ويبدو أن هذه الظاهرة الطبيعية تعم كل البلاد الإسلامية.
ولقد أصبحت القضية اليوم في طورها النهائي من الخطورة، لأنها أصبحت تمس كيان الفرد، لا مصالحه فقط، ومن المناسب ذكر بعض الارقام توضيحاً لخطورتها:
فعلى سبيل المثال انخفض عدد السكان في منطقة جنوب قسنطينة وهي (تِبسّة) منذ عام 1939 إلى الآن، من مائة وثمانين ألفا إلى أربعين ألفا تقريبا، بينما الماشية التي كانت مورد الإقليم الوحيد نجدها اليوم على وشك الانقراض. وظاهر أن سبب الأزمة جوي ناشيء عن قلة المطر، وهي تتسبب في جفاف القشرة الخصبة من الارض، فتذروها الرياح، وتكفنها الرمال
…
وهكذا تولد الصحراء في مهد الأرض الخصبة.
وبدهي أنه لا حل لهذه الأزمة غير الشجرة، ولا يمنع ذلك أن يكون ثمة حل آخر، ولكنه في أيدي علماء الدولة المتمدينة أولئك الذين يستعملون علومهم لتخريب الأرض لا لتعميرها، فمن اليسير عليهم أن تحل تلك المشكلة حلاً علمياً باستعمال الطاقة الكامنة في الذرة، إِذ أن كل جرام من المادة يحوي آلاف المليارات من الوحدات الحرارية.
فلو أن هذه القوة استعملت في تبخير ماء البحر، بدلاً من أن تصرف في تبخير الجنس البشري وتدمير أرضه، اذن لحلت قضيتنا بوساطة الأمطار الصناعية.
ولكن ذلك بعيد عن أذهانهم، فإن سمة المدنية التي ينتسبون إليها تتطلب منهم ذلك التدمير، فلم يبق لنا إذن إلا أن نلتفت إلى الشجرة، غير أنه لن يتحقق لنا مثل ذلك النصر على الصحراء إلا اذا انتصرنا على أنفسنا الخاملة الكسولة، لأن القضية لا تتطلب شجرة واحدة، بل مئات الملايين.
وبالأحرى فإن القضية لا تهم الجزائر وحدها، بل الكتابة الطبيعية التي تكونها جبال الأطلس والبحر المتوسط، أي إِفريقيا الشمالية كلها.
فالمشكلة واحدة لا تتجزأ، من قابس إلى أغادير.
ولعل هذا يتطلب منا خدمة شاقة، ولكن لنا في دول أخرى أسوة حسنة، فإنها قد تعرضت لمثل هذه المحن، فواجهتها بكفاح وعبقرية.
لقد قامت فرنسا حوالي عام 1850 بغرس الأشجار في الناحية الجنوبية الغربية من البلاد، حيث كانت رمال الشاطىء الأطلنطي والمستنقعات الضارة تهدد مصالح أهلها وصحتهم، ولكن سكان تلك المنطقة انطلقوا بهمة وصبر، يوقفون الرمال عند حدها، وتكبدوا في سبيل ذلك ما تكبدوا، وقضوا عشرين سنة يسدون الطريق على الرمال من مدينة (بوردو) إلى مدينة (بياريتز).
فانتصروا على الرمال التي أرادوا صدها، وكانت نتيجة انتصارهم أبعد مما كانوا يتوقعون.
فقد كانت تلك المنطقة أفقر المناطق وأخطرها على الصحة في فرنسا فأصبحت بما تمتعت به من الأشجار الكثيرة ذات حركة اقتصادية ممتازة إِذ أصبحت أول منتج في العالم لزيت (التريبنتين) المستخرج من تلك الأشجار، وأصبحت ملجأ صحياً للمرضى من جميع أنحاء العالم.
ولن يعيبنا أن نضرب أمثلة من جميع انحاء العالم للتدليل على ذلك الانتصار الباهر الذي سجله الإنسان على عوامل الطبيعة، وذلك باستعماله الثلاثية الدائمة: الإنسان والتراب والزمن، ويمكن أن نذكر- لولا الإطالة- المعجزات التي قامت بها روسيا في هذا الميدان، وكذلك هولندا، التي يعتبر أكثر من ثلث بلادها مصنوعا بأيدي أهلها.
ومهما يكن من بدائية وسائلنا فإن علينا أن نعمل، فالعمل لازم لزوم دراسة طبيعة الارض والمناخ، فمثلاً غرس الأشجار في الأرض الصخرية ضرب من العبث في أول الأمر، إذ يجب أولاً أن نبدأ بزراعة الشواطىء القريبة من البحار، والتي لا يزال فيها بقية من استعداد لأن تستصلح بغرس الأشجار، ويكون ذلك بإنشاء
مراكز فنية في مناطق معينة، ينطلق منها (التشجير) إلى داخل البلاد.
هذا من الناحية الفنية.
أما من الناحية النفسية، فإنه يلزمنا أن تصبح الشجرة رمز رجل البلاد المهددة بالرمال، في إرادته للبقاء، بل ليكن لنا يوم للشجرة، يكون عيداً يتمثل فيه كفاحنا ضد الرمل الذي نرى خطره اليوم في غالب بلاد العروبة والإسلام.
لن نستطيع انقاذ ذريتنا من الأجيال القادمة إلا بالعمل الشاق الذي يقوم به جيلنا الحاضر، وعندما نحقق تلك المعجزة التي تكون بانتصارنا على أتفسنا، وعلى أهوال الطبيعة، فإننا سوف نرى أية رسالة في التاريخ نحن منتدبون إليها، لأننا نكون قد شرعنا في بناء حياة جديدة، ابتدأت بالجهود الجماعية بدل الجهود الفردية ولسوف تظهر أمامنا بعد ذلك أعمال جليلة خطيرة، ولكنها سوف لا تخيفنا، لأن شعبنا أخضع التراب، ومهد فيه لحضارته ولم يعد شعباً يخاف نوائب الزمن.
***