المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌دور السياسة والفكرة - شروط النهضة

[مالك بن نبي]

فهرس الكتاب

- ‌مُقَدِّمَةُ الطَّبْعَةِ الْفِرَنْسِيَّةِ

- ‌مُقَدِّمَةُ الطَّبْعَةِ الْعَرَبِيَّةِ

- ‌الْبَابُ الْأَوَّلُالْحَاضِرُ وَالتَّارِيخُ

- ‌أُنْشُوْدَةٌ رَمَزَيَّةٌ

- ‌دَوْرُ الْأَبْطَالِ

- ‌دَوْرُ السِّيَاسَةِ وَالْفِكْرَةِ

- ‌الْبَابُ الثَّانِيَالْمُسْتَقْبَلُ

- ‌أُنْشُوْدَةٌ رَمَزَيَّةٌ

- ‌مِنَ التَّكْدِيسِ إِلَى الْبِنَاءِ

- ‌الدَّوْرَةُ الخَالِدَةُ

- ‌الْعُدَّةُ الدَّائِمَةُ

- ‌أَثَرُ الْفِكْرَةِ الدِّينِيَّةِ فِي تَكْوِينِ الْحَضَارَةِ

- ‌الْعُنْصُرُ الْأَوَّلُ: الْإِنْسَانُ

- ‌فِكْرَةُ التَّوْجِيهِ

- ‌تَوْجِيهُ الثَّقَافَةِ

- ‌التوجيه الأخلاقي

- ‌التَّوْجِيهُ الْجَمَالِيُّ

- ‌الْمَنْطِقُ الْعَمَلِيُّ*

- ‌الصِّنَاعَةُ

- ‌الْمَبْدَأُ الْأَخْلَاقِيُّ وَالذَّوْقُ الْجَمَالِيُّ فِي بِنَاءِ الْحَضَارَةِ

- ‌تَوْجِيهُ الْعَمَلِ

- ‌تَوْجِيهُ رَأْسِ الْمَالِ

- ‌مشكلة المرأة

- ‌مُشْكِلَةُ الزَّيِّ

- ‌الْفُنُونُ الْجَمِيلَةِ

- ‌الْعُنْصُرُ الثَّانِيَ: التُّرَابُ

- ‌الْعُنْصُرُ الثَّالِثُ: الْوَقْتُ

- ‌الْإِسْتِعْمَارُ وَالشُّعُوبُ الْمُسْتَعْمَرَةِ

- ‌الْمُعَامِلُ الإِسْتِعْمَارِيْ

- ‌مُعَامِلُ الْقَابِلِيَّةِ لِلِاسْتِعْمَارِ

- ‌مُشْكِلَةُ الْتَّكَيُّفِ

الفصل: ‌دور السياسة والفكرة

‌دَوْرُ السِّيَاسَةِ وَالْفِكْرَةِ

إن الكلمة لَمِن روح القدس، إنها تساهم إِلى حد بعيد في خلق الظاهرة الاجتماعية، فهي ذات وقع في ضمير الفرد شديد، إذ تدخل إِلى سويداء قلبه، فتستقر معانيها فيه، لتحوله إلى إنسان ذي مبدأ ورسالة.

فالكلمة يطلقها إنسان، تستطيع أن تكون عاملاً من العوامل الاجتماعية حين تثير عواصف في النفوس تغير الأوضاع العالمية.

وهكذا كانت كلمة جمال الدين، فقد شقت كالمحراث في الجموع النائمة طريقها، فأحيت مواتها، ثم ألقت وراءها بذورا لفكرة بسيطة: فكرة النهوض، فسرعان ما آتت أكلها في الضمير الإسلامي ضعفين، وأصبحت قوية فعالة، بل غيرت ما بأنفس الناس من تقاليد، وبعثتم إلى أسلوب في الحياة جديد.

وكان من آثار هذه الكلمة أن بعثت الحركة في كل مكان، وكشفت عن الشعوب الإسلامية غطاءها، ودفعتها إلى نبذ ما كانت عليه من أوضاع ومناظر، فانكرت من أمرها ما كانت تستحسن، واتخذت مظاهر جديدة لا تتلاءم حتى مع ثيابها التي كانت تلبسها، فنبذت النرجيلة والطربوش والحرز والزردة (1). ولقد يلغ تأثير تلك القوة الفعالة الجزائر فأخذت منها بنصيب.

فمأساة الجزائر مثلاً حتى سنة 1918 لم تكن إلا رواية صامتة، أر أثرا من الآثار التاريخية وضع في متحف، أي في صدور قوم صامتين يعلمون السر الخفي للمأساة، حتى أرّقت ضمائرهم، واحتوته أيضا ملفات الحكومة التي كانت تعلم من أمرها ما تعلم، حتى إذا ظهرت الفكرة الإصلاحية حوالي سنة 1925 تحركت المشكلة الجزائرية، وقد أوتيت لسانا ينطق، وفكرة تنير لها الطريق.

(1) هي الوليمة التي يقيمها رجال الطرق في أحفالهم، ويطلق عليها العوام في مصر "الفتة".

ص: 22

والذين أدركوا شبابم في تلكم الأيام يتذكرون تلكم الخواطر التي كانت تمر بهم.

وليس من شك في أن التاريخ يرى في مثل هذه الظواهر خير شاهد على رجوع الحاسة الاجتماعية إلى الجزائر، بمعنى أنها قد عادت إلى الحياة التي يستأنف فيها كل شعب رسالته، ويبدأ تاريخه.

أما في الماضي فقد كانت البطولات تتمثل في جرأة فرد، لا في ثورة شعب، وفي قوة رجل، لا في تكاتف مجتمع، فلم تكن حوادثها تاريخا، بل كانت قصصا ممتعة، ولم تكن صيحاتها صيحات شعب بأكمله، وإنما كانت مناجاة ضمير لصاحبه، لا يصل صداه إلى الضمائر الأخرى، فيوقظها من نومها العميق.

وإنه لمن الواجب علينا أن ننوه ببعض ما كان من أمر مناجاة الشيخ (صالح بن مهنة) الضميرية الفردية- إن صح التعبير- فإن صوت مناجاته كاد يوقظ أهل قسنطينة كلها حوالي سنة 1898.

والحق أن هذا الشيخ الوقور كان في طليعة المصلحين، إذ أنه قام قومة مباركة ضد الخرافيين (الدراويش)، غير أن الحكومة الساهرة على الهدوء، كيلا يستيقد النائمون، عملت على إبعاده وعاقبته بمصادرة مكتبته الثمينة، وفرقت أمثاله من (مقلقي النوم العام) في نظر الاستعمار، فحولت الشيخ (عبد القادر المجاوي) من منصبه بمدرسة قسنطينة، إلى مدرسة العاصمة، وهكذا استطاع النوم أن يشد بالأجفان من جديد، بعد أن حاولت تفلتا من قيوده، ومضت هذه الأصوات التي كادت أن تلفت إليها الأذهان، وتجمع حولها الناس، وكأنها شجار حدث في وسط ليل: لم ينتبه إليه نائم.

ولكن شعاع الفجر قد بدأ ينساب بين نجوم الليل، من قمة الجبل. فلم يلبث أن محت آياته الظلمة من سماء الجزائر. فحوالي عام 1922، بدأت في الأرض هينمة وحركة، وكان ذلك إعلانا لنهار جديد، وبعثا لحياة جديدة. فكأنما

ص: 23

هذه الأصوات استمدت من صوت جمال الدين قوتها الباعثة، بل كأنها صدى لصوته البعيد، لقد بدأت معجزة البعث تتدفق من كلمات (بن باديس)(1) فكانت تلك ساعة اليقظة، وبدأ الشعب الجزائري المخدر يتحرك، ويا لها من يقظة جميلة مباركة، يقظة شعب ما زالت مقلتاه مشحونتين بالنوم، فتحولت المناجاة إلى خطب ومحادثات ومناقشات وجدل، وهكذا استيقظ المعنى الجماعي؛ وتحولت مناجاة الفرد إلى حديث الشعب، فتساءل الناس: كيف نمنا طويلاً؟ وهل استيقظنا حقا؟ وماذا يجب أن نفعل الآن! ولقد كانت هذه الأسئلة على شفاه قوم غمرتهم الدهشة، وما زالوا يتقلبون في خدر النوم، يتلمسون منه فكاكا.

كانت الحكومة في شك من أمرها، ومن المفيد أن نذكر كم كانت بطيئة في تكيفها مع الظروف الجديدة، فبعد عشر سنوات، أي حوالي عام 1933، لم تكن هذه الحكومة قد تفهمت تلك الظروف، إذ نجد أن حاكم الجزائر- وقد أصدر لائحته المشهورة التي حرمت المساجد على العلماء المصلحين- نجده يصفه الشعب الجزائري بأنه " شعب خامل"!!.

ومن الواجب أن نذكر أن هذا الخمول الذي لم يكن إلا في الإدارة الاستعمارية الشائخة هو السبب الأساسي للبلاء، بينما البلاد قد شاعت فيها الحيوية، وامتلأت بالغليان والثورة.

لقد انطلقت الأفكار، ثم تلاقت وتصارعت، فكانت أحيانا تنفجر شأن فقاقيع الهواء على سطح (الغلاية)، وأحيانا أخرى تتحول مباشرة من حالة الجمود إلى حالة التبخر والشيوع، في صورة مدرسة، أو مسجد، أو مؤسسة إصلاحية، وظهرت النظريات الاجتماعية التي كانت يومئذ رائجة في سوق الأفكار، ظهرت هذه النظريات في أفكار الشباب المتطلعين إلى كل تجديد، فهذا يرنو إلى المذهب الكمالي، وذاك يأخذ بالمذهب الوهابي، وذلك ينزع إلى التمدن الغربي، ومنهم من انحدر بفكره إلى مذهب المادة، وكل واحد من هؤلاء وأولنك

(1) أحد زعماء الإصلاح في الشمال الإفريقي

ص: 24

يتخذ ملبسا يعبر عن نزعة تفكيره، فهذا يلبس القبعة ليشعرنا بأنه يقفو أثر مصطفى كمال، وأنه تزعم تحرير النساء، وأنه يريد أن ينشر في البلاد التدريس المدني (اللاديني)، وأنه يريد أن يبدل مكان الشريعة القانون الوضعي.

ونرى من بين هؤلاء وأولئك عمائم الإصلاح، تدلنا على منهاج آخر يقوم على عقيدة صحيحة، ورجوع إلى السلف الصالح، وتغيير ما بالنفس من آثار الانحطاط.

ولكنا نرى أن هذه القيادات والاتجاهات- رغم تباينها واختلافها- كانت متفقة على نقطة هي: إرادة الحركة والتجديد والفرار من الزوايا الخرافية إلى المكاتب العلمية، ومن الخمارات الحقيرة إلى مواطن أكثر طهارة وفائدة.

ولقد كانت حركة الاصلاح التي قام بها العلماء الجزائريون أقرب هذه الحركات إلى النفوس، وأدخلها في القلوب، إذ كان أساس منهاجهم الأكمل قوله تعالى:(إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ).

فأصبحت هذه الآية شعار كل من ينطرح في سلك الإصلاح في مدرسة (بن باديس) وكانت أساسا لكل تفكير. فظهرت آثارها في كل خطوة، وفي كل مقال، حتى أشرب الشعب في قلبه نزعة التغيير فأصبحت أحاديثه تتخدها شرعة ومنهاجا، فهذا يقول: لا بد من تبليغ الإسلام إلى المسلمين، وذاك يعظ: فلنترك البدع الشنيعة البالية التي لطخت الدين، ولنترك هذه الأوثان. وذلك يلح: يجب أن نعمل، يجب أن نتعلم، يجب أن نجدد صلتنا بالسلف الصالح، ونحيي شعائر المجتمع الإسلامي الأول.

وإنه لتفكير سديد؛ ذلك الذي يرى أن تكوين الحضارة كظاهرة اجتماعية إنما يكون في نفس الظروف والشروط التي ولدت فيها الحضارة الأولى، كان هذا صادرا عن عقيدة قوية، ولسان يستمد من سحر القرآن تأثيره، ليذكر الناس بحضارة الإسلام في عصوره الزاهرة.

ص: 25

والشعب المتدين الطروب كان مصغيا

ولكن المستقبل هدف بعيد، فلا بد من طرق واضحة ودفعات قوية لكي يدرك هدفه. وإذن فيجب أن تحدد الكلمات معالم هذه الطرق، وأن تحتوي على الخمائر المباركة لهذه الدفعات.

وعلى الرغم من قوة عبارات الإصلاحيين الجزائريين، فإن هذه الكلمات قد انحرفت- أحيانا وبكل أسف- عن أهدافها، لأسباب تضاد المنهج، فلقد كان النوم يحذرهم عن أن ينشروا وعيهم وجهدهم باستمرار، فكانت النتيجة انحرافا. ولا نتيجة، لأن الحكمة قد تركت مكانها للانتهازية السياسية.

ولكن مهما كان شأن جمعية العلماء إزاء ذلك الانحراف، ومهما كان ركونها أحيانا إلى التفكير غير المنهجي، فإنها لا تزال في طليعة النهضة الجزائرية الصحيحة، ومن أقوى محركاتها.

على أن من الممكن أن يتحول هذا النوع من التفكير غير المنهجي إلى انتهازية خطيرة (1)، وبخاصة في العصور المضطربة عندما تؤدي كل خطوة خاطئة إلى الموت أحيانا.

فليس للانحراف طرق مرسومة نظريا، ولكن له دروبا مظلمة يتعثر فيها السائر في كل خطوة.

وهنا يظهر السبب الذي دعا العلماء إلى أن يسيروا عام 1936 في القافلة السياسية التي ذهبت إلى باريس كأكبر سبب جرَّ الحركة الإصلاحية الحزائرية إلى أول انحرافها.

فبأي غنيمة أرادوا أن يرجعوا من هناك، وهم يعلمون أن مفتاح القضية في روح الأمة لا في مكان آخر؟

وبأي شيء في الحقيقة قد رجعوا؟ ألم يرجعوا باخفاق المؤتمر الجزائري

(1) قد بينت الظروف أن هذه الانتهازية قد انتشرت بالفعل في الأوساط التي تقود الحركة الإصلاحية الجزائرية.

ص: 26

وبتشتيت جمعيتهم نفسها؟ فلقد ساد الرأي الانتخابي، وأصبح قائدا بدلاً من أن يكون مقودا، وهكذا انقلبت الحركة الاصلاحية على عقبها، وأصبحت تمشي على قمة رأسها، لا على قدميها وما كان الأمر خاصا بالجزائر، بل كان العالم الإسلامي مصابا بمثل ما أصاب الجزائر، فقد نشأت فيه التيارات الحزبية، وانعكست فيه روح السمو وقوة الصعود والنهوض، إلى عاطفة سفلية، وجاذبية سطحية.

وربما كان عام 1936 في الجزائر هو القمة التي بلغها روح الكفاح والاصلاح الاجتماعي، وهي نفسها القمة التي هبط منها الاصلاح إلى هاوية لا قرار لها.

وكان ذلك قبيل حرب عام 1939، عندما أوعدت سحبها السوداء في أفق العالم.

ومن المحزن حقا أن العالم الاسلامي- إبان هذه الحقبة- قد استسلم لرقاد طويل، فلم يفطن لساعات التاريخ الفاصلة، ولم يحاول انتهاز فرصتها السانحة، ليتخلص من الاستعمار.

***

ص: 27

دَوْرُ الْوَثَنِيَّةِ

((إذا فصلت السياسة عن الدين فقدت معناها .. كل طفل فى مدرستنا يدري الأنظمة السياسية في الهند، ويعرف كيف أن بلاده تتقد بإحساسات جديدة وبآمال جديدة، ولكننا أيضاً في حاجة إلى الضوء الثابت المستقر. ضوء الأيمان الديني))

((غاندي)).

من المعرو ف أن القرآن الكريم قد أطلق اسم الجاهلية على الفترة التي كانت قبل الإسلام، ولم يشفع لهم شعر رائع، وأدب فذ، من أن يصفهم القرآن بهذا الوصف، لأن التراث الثقافي العربي لم يكن يحوي سوى الديباجة المشرقة، الخالية من كل عنصر "خلاق" أو فكر عميق. وإذا كانت الوثنية في نظر الإسلام جاهلية، فإن الجهل في حقيقته وثنية، لأنه لا يغرس أفكارا، بل ينصب أصناما، وهذا هو شأن الجاهلية، فلم يكن من باب الصدفة المحضة أن تكون الشعوب البدائية وثنية ساذجة، ولم يكن عجيبا أيضا أن مر الشعب العربي بتلك المرحلة، حين شيد معبدا للأقطاب (الدراويش) المتصرفين في الكون، ومن سنن الله في خلقه أنه عندما تغرب الفكرة يبزغ الصنم، والعكس صحيح أحيانا.

وهكذا كان شأن الجزائر فإنها كانت حتى عام 1925 - على الرغم من إسلامها- تدين بالوثنية، التي قامت نصبها في الزوايا، هنالك كانت تذهب الارواح الكاسدة لالتماس البركات، ولاقتناء الحروز ذات الخوارق والمعجزات، غير أنه ما إن سطع نور الفكرة الإصلاحية حتى تحطم ذلك المعبد، فخرت الأوثان مع أسف عماتنا وخالاتنا اللاتي أدهشهن ما رأين.

وبالفعل فقد خمدت نيران أهل الزردة (الفتَّة)، وزالت عن البلاد حمى الدراويش، وتخلصت منها الجماهير بعد أن ظلت طوال خمسة قرون ترقص على دقات البنادير، وتبتلع العقارب والمسامير مع الخرافات والأوهام.

ص: 28

ولقد ذهبت بذهابهم تلك الجنة التي وُعِدها المريدون بلا كد ولا عمل، إلا ما يتلمسون من رضا الشيخ ودعواته، وحلت مكانها جنة الله التي وَعدَها المتقين العاملين.

وهكذا أتيح (للإصلاح) أن يمسك مقاليد النهضة الجزائرية، وأمكنه أن يبعثها خلقا آخر بالروح الإسلامية التي تخلصت من كابوس الأوثان، وكأني بالفكرة الإصلاحية قد بلغت أوجها وانتصرت يوم افتتاح المؤتمر الجزائري عام 1936، مما جعلنا نتساءل: هل سوف نمضي هكذا حتى النهاية؟

لقد كان ذلك ممكنا، لو لم يشعر العلماء المصلحون- بكل أسف- بمركب النقص إزاء قادة السياسة في ذلك العهد (1)، فمالؤوهم وسايروهم، ظنا منهم أنهم سوف يذودون عنهم نوائب الحكومة، ولقد كان ذلك ممكنا لو لم يكونوا على استعداد للعودة إلى فكرة الزوايا ذات الطابع السياسي، والأصنام المزوقة بأسماء جديدة.

لقد كانوا يستطيعون أن يبلغوا ذلك، لو أن أوراق الحروز التي نبذها الشعب لم ترجع إليه باسم أوراق الانتخابات، ولو أن العقول التي كانت تصدق بالمعجزات الكاذبة، لم تعد مرة أخرى تصدق بمعجزات صناديق الانتخابات، ولو أن الزردة التي كانت تقام في ساحات المشايخ لم تعقبها الزردة التي تقام في الميدان السياسي، والتي أصبحت تقدم فيها الأمة قربانها من حين إلى حين.

لقد كان من واجبنا أن ننتبه فلا نلدغ من حجر مرتين، غير أننا لم نكن في الواقع قد تخلصنا من الأسلوب الخرافي، ذلك الأسلوب الطفولي الذي نتجت عنه قصة ألف ليلة وليلة. تلك القصة الذي استطبنا مذاقها في عصور انحطاطنا، وكان لها تأثيرها في جونا الخلقي والاجتماعي.

ولقد كان حقيقا بنا أن نوصد مرة واحدة في عام 1936 باب التيه، فلا ندع أرواحنا تسبح في متاهات لا حد لها. ولو اننا احتطنا لأنفسنا بمثل هذه

(1) ويبدو لنا على ضوء الحوادث الأخيرة، مع كل أسف، أن قيادة جمعية العلماء في الجزائر لا زالت مصابة بهذا النقص الذي يسلبها حق القيام بواجبها أمام الانحرافات السياسية التي تفضل أن تسير معها عوض أن تقومها.

ص: 29

الاحتياطات البسيطة لاستطعنا منذ ذلك التاريخ أن نواجه الواقع. وأن نحل مشكلتنا بأيدينا حلا واقعيا علميا.

فلقد كان على الحركة الاصلاحية أن تبقى متعالية على أوحال السياسة والمعامع الانتخابية، ومعارك الاوثان. ولكن العلماء آنذاك قد وقعوا في الوحل - حيث تلطخت ثيابهم البيضاء، وهبطت معهم الفكرة الاصلاحية فجرت في المجرى الذي تجري فيه (الشامبانيا) في الأعراس الانتخابية، الممزوجة أحيانا بدم تريقه اليد السوداء لاغتيال الاصلاح (1).

ولئن كان هنالك شيء يؤسف له منذ عام 1925، فإن أكبر أسفنا على زلة العلماء، التي كانت زلة نزيهة، لما توفر فيها من النية الطاهرة، والقصد البريء.

ومع ذلك فإنه يجب أن لا يغرب عن بالنا أن الحكومة الاستعمارية كانت هي السبب الخارجي لتلك الخطوة المشؤومة التي خطاها العلماء نحو السراب السياسي، وكان ذلك حينما تكونت في فرنسا الجبهة الشعبية التي بذلت الوعود بغير حساب.

ولكن ألم تكن المعجزة الحقة في تحويل الأمة وتقدمها شيئا أغلى من هذا السراب؟

ألم يكن موطن المعجزة هو ما دل عليه القرآن، أي في النفس ذاتها؟

أوَ لم يكن العلماء أنفسم ينهلون من ذلك الينبوع معجزتهم من عام 1925 حتى عام 1936، إذ كانوا يغيرون ما بنفس الفرد، ذلك التغيير الذي هو الشرط الجوهري لكل تحول اجتماعي رشيد؟

وإذن فلا يجوز لنا أن نغفل الحقائق، فالحكومة مهما كانت ما هي إلا آلة اجتماعية تتغير تبعا للوسط الذي تعيش فيه وتتنوع معه، فإذا كان الوسط نظيفا حرا، فما تستطيع الحكومة أن تواجهه بما ليس فيه، وإذا الوسط كان متسما بالقابلية إلى الاستعمار فلا بد من أن تكون حكومته استعمارية.

(1) يشير المؤلف هنا إلى حادث مقتل المرحوم مفتي العاصمة سنة 1936.

ص: 30

هذه الملاحظة الاجتماعية تدعونا لأن نقرر أن الاستعمار ليس من عبث السياسيين، ولا من أفعالهم، بل هو من النفس ذاتها، التي تقبل ذل الاستعمار، والتي تمكن له في أرضها.

وليس ينجو شعب من الاستعمار وأجناده، إلا إذا نجت نفسه من أن تتسع لذل مستعمر، وتخلصت من تلك الروح التي تؤهله للاستعمار.

ولا يذهب كابوسه عن الشعب- كما يتصور البعض- بكلمات أدبية أو خطابية، وإنما بتحول نفسي، يصبح معه الفرد شيئا فشيئا قادرا على القيام بوظيفته الاجتماعية، جديرا بأن تُحترم كرامتُه، وحينئذ يرتفع عنه طابع "القابلية للاستعمار"، وبالتالي لن يقبل حكومة استعمارية تنهب ماله، وتمتص دمه، فكأنه بتغيير نفسه قد غير وضع حاكميه تلقائيا إلى الوضع الذي يرتضيه (1).

ولا شك في أن يلازمة السياسية الراهنة تعود في تعقدها إلى أننا نجهل أو نتجاهل القوانين الأساسية التي تقوم عليها الظاهرة السياسية والتي تقتضينا أن ندخل في اعتبارنا دائما صلة الحكومة بالوسط الاجتماعي، كآلة مسيرة له، وتتأثر به في وقت واحد، وفي هذا دلالة على ما بين تغيير النفس وتغير الوسط الاجتماعي من علاقات متينة، ولقد قال الكاتب الاجتماعي (بورك):" إن الدولة التي لا تملك الوسائل لمسايرة التغيرات الاجتماعية لا تستطيع أن تحتفط ببقائها"(2).

ومن الواضح أن السياسة، التي تجهل قواعد الاجتماع وأسسه لا تستطيع إلا أن تكوّن دولة تقوم على العاطفة في تدبير شؤونها، وتستعين بالكلمات الجوفاء في تأسيس سلطانها، ولن نستطيع فهم هذه الملاحظات الاجتماعية إلا إذا فهمنا الآية الكريمة التي اتخذها العلماء شعارا لهم في تأسيس دعوتهم:{إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} . وما بقي الاصلاح متمسكا بأهداب

(1) يمكننا التدليل على هذا بذكر حالة بعض البلاد الافريقية الآسيوية التي لم يطأ ترابها الاستعمار ولكن نراها خاضعة لجميع الظروف الاستعمارية، مثل الفقر والجهل، بينما بلاد أخرى، مثل اليابان أو ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، تحل بأرضها جيوش الاستعمار ولكن لا تتكون فيها ظروف استعمارية رغم ذلك.

(2)

كتاب " الرجل السياسي الأمريكي" أشار إليه بوفربريدج في كتاب،"قيمة السلم".

ص: 31

هذه الآية فلن يستطيع درويش جديد أن يهدد البلاد بخطر خرافته، ولكن زلة العلماء عام 1936 كان لها أكبر الأثر في عودة البلاد إلى الأفكار الوثنية؛ فقد كان من آثار هذه النكسة تلك الزردة الكبرى التي أقامتها (النخبة) من رجال السياسة في بلدة (سطيف)، حيث أمسكت بكلتا يديها المبخرة، ثم ألقت فيها العود الأخير من " الجاوي " المبارك الذي كان السدنة يعطرون به زواياهم.

وما كانت تلك الزردة إلا ابتداء لدروشة جديدة، تذهب معها جهود الاصلاح هباء، وكأنها لم تكن؛ دروشة لا تختلف عن سابقتها إلا بأنها تبيع بدل الحروز والتمائم حروزاً في شكل آخر، هي أوراق الانتخابات، والحقوق السياسية، والأماني السابحة في الخيال.

ومع ما استجلبناه من مصر (الفاروقية) من الاسطوانات والأشرطة السينمائية المجافية للفن والأخلاق، فإِننا قد استجلبنا منها أيضاً أسساً لسياستنا تقوم على أفكار تضلل العقول البسيطة، كان لها أسوأ تأثير في حياتنا، حيث اتخذتها (الدروشة السياسية) شعاراً لها ومبدأ، وكررتها على مسمع من الشعب، حيث رددها معها سنين طويلة، صباح مساء:(إن الحقوق تؤخذ ولا تعطى)! لحاها الله كلمة تطرب وتغري، فالحق ليس هدية تعطى، ولا غنيمة تغتصب، وإنما هو نتيجة حتمية للقيام بالواجب، فهما متلازمان، والشعب لا ينشئ دستور حقوقه إلا إذا عدل وضعه الاجتماعي، المرتبط بسلوكه النفسي.

وإنها لشرعة السماء: غير نفسك، تغير التاريخ!

وعلى هدى هذه الكليمة بدأ الإصلاح الجزائري من النفس- هادفا في جوهره إلى تغيير الإنسان، فبعث فيه روحا وثابة، أشرقت معها بوادر النهضة الكبرى، وكان الانطلاق الرائع للضمير الشعبي فيما قبل عام 1936 في انسجامه، واطراده، وحماسه، هو ملحمة الفكرة الاصلاحية التي توَّجها المؤتمر الإسلامي المنعقد في ذلك العام.

وخلال العصر الذهبي الذي بدأ عام 1925، واستمر حتى زوال المؤتمر

ص: 32

الذي مات في مهده، وكنا نشعر بالنهضة، ولم يكن زادنا في مبدأ رحلتنا سوى كلمات من الفصحى، وبعض آيات من القرآن، وهكذا ابتدأت على أثر هذه النهضة المدارس الأولى، تشيد بسيطة متواضعة، كتلك المدارس الأولى التي افتتحت في الغرب، في عهد شارلمان والتي كانت أصولا للمدنية الغربية.

ولقد كنا إذ ذاك، إذا ما خلصنا إلى سمرنا نتحدث حديث " الغشيم"!! ..

ولكنه ليس عقيما، إذ هو يدور حول الشئون الاجتماعية، كالتعليم

والتربية، وتطهير الأخلاق، والعادات، ومستقبل المرأة، واستخدام رؤوس الأموال. وكانت هذه الأحاديث ذات قيمة، لأنها كانت بعيدة عن منطق الغوغاء، وعن الرياء، والذاتية، وعن النزعات الانتخابية، فقد أصبحت لكل كلمة من هذه الكلمات قيمتها في الوسط الجزائري. ولكل سعي أثره وإن قل؛ إذ هو يساهم في بناء التقدم والنهضة، تماما كما تساهم القشة الصغيرة في بناء عش الطير، إبان الربيع.

ولم يتخلف الأدب الجزائري عن الركب، فقد بدأ يصور تقدم البلاد في قصائد، جدد فيها نشاطه بعد ركود طويل، كانت تلك القصائد تغني ربيع النهضة، أي ربيع الفكرة، لا ربيع الصنم.

وكنت ترى في كل مسجد أو مدرسة أو منزل حديث الاصلاح، بين مؤيد ومنتقد، ولكن كلا الفريقين كان يتمتع باللسان العِف، والسريرة النقية. إذ كانت المبادىء هدفهم من وراء اختلافهم، لا الأعراض الشخصية والوظائف السياسية.

وكانت الأمة تقدم تضحياتها لبناء المدارس والمساجد من أجل البعث الفكري، والبعث الروحي، اللذين هما عماد كل حضارة في سيرها الحثيث.

ولعلك تلاحظ كم يكون شاقاً القيام بهذه التضحيات في بلاد فقيرة، امتص المستعمر خيراتها، غير أن الشعب الذي آمن بالفكرة، كان عزاؤه في جهده الشاق، أنه سوف يحظى بالعاقبة الحميدة. لقد كان يعيش في جو من الحماس يتيح له أن يصنع المعجزات الاجتماعية، من تغيير العوائد والأفكار، والاتجاهات

ص: 33

والأشياء، وكانت الاستجابة لهذه التحولات بادية في تقاليد مدينة (تبسَّة) مثلاً، تلك المدينة التي بدت أعراسها وجنائزها أقرب إلى الكرامة والوقار، مما لم تعرفه قبل الاصلاح. وإنه لمن الواضح أن الشعب الذي بدأ يعود إلى وقاره، ويستمسك بأسباب كرامته، ويميل إلى التناسب والجمال في مظهره العام قد أعاد سيره في موكب التاريخ.

وكنت تشاهد حركات، الهدف منها إزالة كل منكر لا تقبله العقيدة.

ولا يقره الذوق العام. ومن ذلك حركة محاربة الخمور وبيعها، حتى لم يجد باعة تلك السموم حيلة يفرون بها من هجوم الحركة الاصلاحية، إلا أن يلجؤوا إلى الحكومة حوالي عام 1927، محتجين بأن إيرادهم تناقص، وأن تجارتهم بارت. وبدأت فعلاً المساجد تمتلئ برواد الخمارات. كما أن الحلقات الدراسية الليلية قد عمرت بأولئك الذين انصرفوا عن حلقات الدراويش.

ولعل هذا التغيير المطرد، والنسق الجديد من الحياة قد أقلق كثيرا أولئك الذين كانت مواردهم وإمكانياتهم مستمدة من سباتنا.

وبدأت المعجزة تشق طريقها بقوة وعزم، إلى أن جاءت سنة 1936، فإذا بها تضل طريقها، حتى تغلقت عليها السبل. ثم اختارت طريقا ظنت أنه موصلها إلى هدفها المنشود، ولم تدر أنها تتجه إلى الجهة التي انطلقت منها.

وهكذا عادت أدراجها، ميممة وجهها شطر السراب السياسي، حيث تتوارى من ورائها بوارق النهضة والتقدم.

لقد أصبحنا لا نتكلم إلا عن حقوقنا المهضومة، ونسينا الواجبات، ونسينا أن مشكلتنا ليست فيما نستحق من رغائب، بل فيما يسودنا من عادات. وما يراودنا من أفكار. وفي تصوراتنا الاجتماعية، بما فيها من قيم الجمال والأخلاق. وما فيها أيضا من نقائص تعتري كل شعب نائم.

وبدلاً من أن تكون البلاد ورشة للعمل المثمر والقيام بالواجبات الباعثة إلى الحياة. فإنها أصبحت منذ سنة 1936 سوقا للانتخابات. وصارت كل منضدة في المقاهي، منبرا تلقى منه الخطب الانتخابية. فلكم شربنا في تلك الأيام

ص: 34

الشاي، وكم سمعنا من الاسطوانات، وكم رددنا عبارة (إننا نطالب بحقوقنا)، تلك الحقوق الخلابة المغرية، التي يستسهلها الناس، فلا يعمدون إلى الطريق الأصعب: طريق الواجبات.

وهكذا تحول الشعب إلى جماعة من المستمعين، يصفقون لكل خطيب، أو قطيع انتخابي، يقاد إلى صناديق الاقتراع، أو قافلة عمياء زاغت عن الطريق، فذهبت حيث قادتها الصدف في تيار المرشحين.

وفي هذا اختلاس أي اختلاس للعقول التي أشرفت على قطف ثمار نهضتها، فإن هذه العقول قد عادت إليها الوثنية، تلك الوثنية التي تلد الاصنام المتعاقبة المتطورة. كما تتطور الدودة الصغيرة إلى فراشة طائرة، إذا ما صادفت جوا ملائماً. وهذا يعني أن البلاد لم تتحقق فيها النهضة المنشودة، وكل الذي كان هو أن أحداثا صدمتها صدمة عنيفة أيقظتها من نومها، ثم لم تلبث بعد أن زال أثر هذه الصدمة أن غالبها النعاس، فعادت إلى النوم، وأمكنها في نومتها هذه أن تعود إلى أحلامها، غير أنها أحلام ذات موضوع آخر، إنها أحلام الانتخابات، قامت على أطلال الزوايا المهدمة التي دمرها معول الاصلاح الأول.

وهو يعني من ناحية أخرى أن أرواحنا لا تزال مكدسة في محيط الطلاسم والخيال، ذلك المحيط الذي لا يزال يحتفظ بها منذ أن سقطت الحضارة الإسلامية.

وهكذا وجدنا أنفسنا بين أحضان الوثنية مرة أخرى، كان الإصلاح قد حطم الزوايا والقباب من دون الوثن، فقد توارت الفكرة عن العقول وحلت محلها الوثنية التي تتكلم اليوم وحدها، إذ نصب لها في كل سوق منبر (1)، كي يستمع الناس إليها، تسلية لهم، وإغفالا لواجباتهم، وإبعادا لهم عن طريق التاريخ. لقد ورث المكروب السياسي ميكروب الدروشة، فأصبح يفعل بالشعب ما كان سلفه يفعل، فبعد أن كان الشعب يقتني بالثمن الغالي البركات والحروز، أصبح يقتني الأصوات والمقاعد الانتخابية، ويسعى اليها في تعصب لا يفترق عن

(1) وعلينا ان نقول ان الاستعمار يتتبع هذه الأطوار بكل اهتمام وبكل ما لديه من الوسائل، لكي يعيد الشعب المستعمر إلى عهد الوثنية، فهو كلما تظهر فكرة فى الأفق ينصب اصناما ويشيد في البلاد منابر عليها يظهرون، كما بينا ذلك في كتاب "الصراع الفكري في البلاد المستعمرة".

ص: 35

تعصبه الأول، دون أي ذوق ناقد، ودون أي جهد لتغيير نفسه أو مجتمعه وبعد أن آمن الشعب لأحد رجاله وزعمائه السياسيين بمعجزة (الطيارة الخضراء)(1) أصبح يؤمن بالعصا السحرية التي تحوله بضربة واحدة إلى شعب رشيد، مع ما به من جهل، وما تنتابه من أمراض اجتماعية!! ..

وإننا لنتذكر- بكل أسف- مأدبة أقامها طلبة الجامعة في الأشهر الماضية، وتكلم فيها أحد الطلاب فقال: - "إننا نريد حقوقنا ولو مع جهلنا وعرينا ووسخنا"!!

ولقد كانت هذه الكلمة موضع استحسان من جميع الحاضرين!

ألا قاتل الله الجهل، الجهل الذي يلبسه أصحابه ثوب العلم، فإن هذا النوع أخطر على المجتمع من جهل العوام لأن جهل العوام بيّن ظاهر يسهل علاجه: أما الأول فهو متخفّ في غرور المتعلمين.

ولقد بدأنا بالفعل في التقهقر والعودة إلى الظلام؛ وبعثرة الجهود، وتحطيم المساعي والإسراف في إمكانياتنا القليلة التي تتطلب منا صرفها فيما يفيد تقدمنا.

وختاماً فإن (الزردة) التي أقامتها (النخبة) من رجال السياسة يوم (سطيف) كانت لصالح الاستعمار. الذي تمكن على إثر تقهقرنا من قتل (المؤتمر)، وتشتيت العلماء (2).

وأصبحت الحركة الجزائرية منذ ذلك الحين لا ترأسها فكرة بل تقودها أوثان، وليس يهمنا هنا الشكل، بل الموضوع. فليس الخطر من الإنقياد إلى نوع من الدروشة، ولكن الخطر من الانقياد الأعمى إلى الدروشة ذاتها وليس الخطر أيضاً من اسم الصنم، ولكن من سيطرة الوثنية.

إن جوهر المسألة هو مشكلتنا العقلية، ونحن لا زلنا نسير ورؤوسنا في الأرض، وأرجلنافي الهواء، وهذا القلب للأوضاع هو المظهر الجديد لمشكلة نهضتنا.

(1) هذا يشبه ما يطلقه بعض العوام في مصر عن الأولياء من أنهم من أهل الخطوة. أما في الجزائر فهذا الزعيم معروف، وبعض تلامذته هم الذين يقومون اليوم بدور التوجيه.

(2)

ولقد يبدو من الملاحظات الأخيرة، لمن يتتبع تطور هذه الحالة، أن الاستعمار لا زال يستطيع قتل أي جهد ببرز من الشعب، لأن النخبة في البلاد لا زالت بعيدة عن ميدان الواجب.

ص: 36