الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولذلك لَمَّا طلب أصحاب بيعة العقبة الثانية من رسول الله صلى الله عليه وسلم البدءَ بالقتال، والهجوم على الأعداء، أَبَى عليهم ذلك، ومنعهم منه (1).
إذن؛ كان المسلمون يتشوقون إلى القتال، وَيَتَمَنَّوْنَ الجهادَ، ولكن لم تكن المصالح وقتئذ أكبرَ من المفاسد وأعظمَ، بل كان العكس هو الصواب؛ ولذلك لم يُؤْذَنْ لهم به، وهذه هي العلة الصحيحة التي يجب أن يُقاس عليها في كل زمان، ومكان.
الأسباب الكامنة وراء حكمتهم وصبرهم:
من هذه الأسباب:
الأول: قلة عددهم بالنسبة إلى كثرة عدد عدوهم.
وهذا أمر مُعْتَبَرٌ شرعًا وواقعًا
…
الثاني: لأنهم في دار ضَعْفٍ، وَذُلٍّ .. وليسوا في دار قوة، وَمَنَعَةٍ.
وإذا كانوا كذلك من الضعف والقلة .. فأين يداوون جريحهم؟ !
وكيف يوارون شهيدهم؟ !
وأنى يُوَفِّرُونَ مواردهم، وأعداؤهم من فوقهم، والمسلمون لا يملكون من أسباب التمكين شيئًا سوى العاطفة الخادعة، والحماس المتهور، وإنهما لن يغنيا عنهم شيئًا؟ !
وحينئذ فإنهم سيساقون إلى السجون كالنعاج .. وإلى المذابح كالدجاج.
الثالث: مصلحة بقائهم على الدعوة -على ضعف واستمرار- خيرٌ من الانتصار لظلمهم على خطر وانقطاع، ونتائج لا تُحْمَدُ عقباها.
قال ابن القيم: في ((الإعلام)) (2/ 150):
((إنه تعالى نهى المؤمنين في مكة عن الانتصار باليد، وأمرهم بالعفو
(1) راجع تاريخ الإسلام للذهبي، بيعة العقبة الثانية.
والصفح؛ لئلا يكون انتصارهم ذريعةً إلى وقوع ما هو أعظم مفسدة من مفسدة الإغضاء، واحتمال الضيم .. ومصلحة حفظ نفوسهم، ودينهم، وذريتهم، راجحة على مصلحة الانتصار والمقابلة)).
ولهذا الأمر أسرار خَفِيَّةٌ دقيقة، ليس ههنا محل تفصيلها، سنأتي عليها مفصلة في كتاب ((المنهاج))، إن شاء الله.
غير أَنَّ ثَمَّةَ نقطةً جديرة بالتسجيل، لا بأس بذكرها:
وهي أنه لم يكن كل أهل مكة يُنَاصِبُونَ المسلمين العداءَ، (1) رغم كفرهم، بل كان منهم من يرأف لحال المسلمين، ويرحمهم، وهم يرونهم يعذبون بلا جناية اقترفوها، ولا جُرْمٍ ارتكبوه.
فكان يحصل في قلوبهم من العطف، واللين، ما يكون مقدمة للإيمان، وقبول دعوة الإسلام ..
وإن عدم رَدِّ المسلمين جَعَلَ كثيرًا من المشركين -في أسوأ الأحوال- يقفون حيادًا، إن لم يكن بعضهم يساعدونهم سرًّا.
وَتَصَوَّرْ معي -أخي المسلم- لو أن المسلمين استخدموا أيديهم في رفع الغضاضة، وَرَدِّ الظلم؛ كقتل أحد المشركين، أو اغتياله، أو ضربه ضربًا شديدًا، فماذا يكون؟ ؟
سيكون هناك ردة فعل من الجميع عنيفة، يتبعها اشتداد في التعذيب كبير، ثم يكون عندهم من الْمُسَوِّغَاتِ ما يدفعهم لحصد المسلمين وإبادتهم عن بَكْرَةِ أبيهم.
(1) من المَجَاز: نَاصَبَهُ الشَّرَّ، والحَربَ، والعَداوَةَ: أَظْهرَهُ لَهُ. [هذه الحاشية في النسخة الإلكترونية فقط وليست بالمطبوع (مُعِدُّه للشاملة)]
إن استخدام العنف في الدعوة إلى الله يعني تقديم مسوغات للعدو، لتعجيل تنفيذ مخططاته في القضاء على الدعوة، والدعاة، ولكن أكثر الدعاة لا يعلمون، ووراء عواطفهم يركضون.
الرابع: لقد أُمِرُوا بتأخير المواجهة، رغم تَوَفُّرِ بعض الإمكانات المادية، من عَتَادٍ، وغيره، ورغم وجود بعض الاستعدادات المعنوية، من شجاعة، وبأس في القتال، وغيره، وذلك كيما يتم التمكين الإيماني أولًا، ثم الأرضي.
الخامس: لقد كان تأخير المواجهة لحكمة بالغة، أَلَا وهي بلوغ الصحابة الأهلية المعنوية العالية، من إيمان قوي، وصبر جميل، وتضحية مستمرة، وإخلاص دائم.
قال تعالى:
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ
…
} [النساء: 77].
فإذا حصل هذا الأمر العظيم -وهو الخشية- من فريق منهم، وهم في المدينة، في دار تمكين، وَمَنَعَةٍ، وَعِزٍّ، فما عساهم أن يكون موقفهم في مكة لو أُمروا بالجهاد، وهم في دار ضعف، وَذُلٍّ؟ !
إن التسلح بالعاطفة، والحماسة، والاندفاع، والتهور، لا يغني شيئًا في طريق الدعوة الشائك، والسبيل الطويل.
قال سيد رحمه الله (2/ 712):
((إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ حَمَاسَةً، وَانْدِفَاعًا، وَتَهَوُّرًا، قَدْ يَكُونُونَ هُمْ أَشَدُّ النَّاسِ جَزَعًا، وَانْهِيَارًا، وَهَزِيمَةً، عِنْدَمَا يَجِدُّ الْجِدُّ، وَتَقَعُ الْوَاقِعَةُ .. بَلْ إِنَّ هَذِهِ قَدْ
تَكُونُ الْقَاعِدَةَ! ذَلِكَ أَنَّ الِانْدِفَاعَ، وَالتَّهَوُّرَ، وَالْحَمَاسَةَ الْفَائِقَةَ، غَالِبًا مَا تَكُونُ مُنْبَعِثَةً عَنْ عَدَمِ التَّقْدِيرِ لِحَقِيقَةِ التَّكَالِيفِ، لَا عَنْ شَجَاعَةٍ وَاحْتِمَالٍ وَإِصْرَارٍ، كَمَا أَنَّهَا قَدْ تَكُونُ مُنْبَعِثَةً عَنْ قِلَّةِ الِاحْتِمَالِ، إِلَى طَلَبِ الْحَرَكَةِ، وَالدَّفْعِ، والِانْتِصَارِ بِأَيِّ شَكْلٍ، دَونَ تَقْدِيرٍ لِتَكَالِيفِ الْحَرَكَةِ، وَالدَّفْعِ، وَالِانْتِصَارِ، حَتَّى إِذَا وُوجِهُوا بِهَذِهِ التَّكَالِيفِ كَانَتْ أَثْقَلَ مِمَّا قَدَّرُوا، وَأَشَقَّ مِمَّا تَصَوَّرُوا، فَكَانُوا أَوَّلَ الصَّفِ جَزَعًا، وَنُكُولًا، وَانْهِيَارًا
…
عَلَى حِينِ يَثْبُتُ أُوَلئِكَ الَّذِينَ كَانُوا يُمْسِكُونَ أَنْفُسَهُمْ، وَيَحْتَمِلُونَ الضِّيقَ وَالْأَذَى بَعْضَ الْوَقْتِ، وَيُعِدُّونَ لِلْأَمْرِ عُدَّتَهُ، ويعرفون حقيقة تكاليف الحركة، ومدى احتمال النفوس لهذه التكاليف، فيصبرون، ويتمهلون، ويعدّون للأمر عدته، والمتهورون، المندفعون، المتحمسون، يحسبونه إذ ذاك ضعفًا، ولا يعجبهم تمهلهم، ووزنهم للأمور! وفي المعركة يتبين أي الفريقين أكثر احتمالًا، وأي الفريقين أبعد نظرًا كذلك! )).
قلتُ: والله لقد عرفتَ فبينتَ .. ونصحتَ فأصبتَ .. ووعظتَ فصدقتَ .. ولكن ((لا حياة لمن تنادي))!
وبناء على ما سبق؛ يمكننا القول:
لا .. ثم لا .. ثم ألف لا .. قبل التربية.
ثم قال (2/ 714):
(( .. ربما كان ذلك لأن الفترة المكية كانت فترة تربية وإعداد، في بيئة معينة، ومن أهداف التربية والإعداد تربية نفس الفرد العربي على الصبر على ما لا يصبر عليه عادة من الضيم
…
ويتجرد من ذاته، ولا تعود ذاته، ولا من يلوذون