الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ما هي التربية
؟
((لقد أكدْتَ على التربية مرارًا .. وذكرْتَها تكرارًا .. فهل لك أن تبينها لنا باختصار))؟
إن مما ينبغي التنبه إليه أن العلم شيء، والتربية شيء آخر .. وأن التربية لا تتحقق بالخطب، ولا بحضور دروس العلم، ولا بحفظ متون الكتب.
وإنما التربية ممارسة عملية، وترجمة حقيقية، لكل ما نتلقى ونتعلم على ساحة الواقع.
وبعبارة أخرى:
ضبط تصرفات الفرد، بمعايير منضبطة، وقواعد معروفة.
وباختصار:
هي العمل الصادق بالعلم الصحيح.
أو تزكية النفس على ما يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وهي وظيفة عظيمة من وظائف الأنبياء عليهم السلام.
قال تعالى:
وقال سبحانه:
ففي الآية الأولى: ذَكَرَ اللهُ تعالى العلمَ قبل التزكية.
وفي الثانية: ذَكَرَ سبحانه التزكيةَ قبل العلم.
وفي ذلك إشارة بليغة إلى عدم استغناء دعوة الرسل بإحداهما عن الأخرى، فلا سداد بتربية دون علم .. ولا فلاح بعلم دون تربية.
والعلم والتربية لا يفترقان .. فتدبر هذا؛ فهو عزيز.
ثم إننا لو حاولنا الاستطراد والتتبع لِمَا كانت عليه الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- من ممارسة التربية العملية الواقعية -وبخاصة أسوتنا وقدوتنا صلى الله عليه وسلم لَعَجَزْنَا عن الحصر
…
فَمِنْ خُلُقِهِ صلى الله عليه وسلم مع أهله، وتربيته لهم .. إلى معاملته لأحفاده، وأطفال المسلمين .. إلى ممارسة تفتيش أسواق المسلمين .. إلى معايشة المسلمين في حلهم، وترحالهم، وضحكهم، وبكائهم، وسرائهم، وضرائهم، وهو يوجههم، وينصحهم، ويسددهم، إلى غير ذلك، مما يطول بحثه، وليس ههنا محله.
ولذلك اختصرت عائشة رضي الله عنها هذا كُلَّهُ حين سُئِلَتْ عن خُلُقِهِ صلى الله عليه وسلم، فقالت:((كان خلقه القرآن)) (1).
والتربية لا تعني حسنَ الخلق، وبشاشة الوجه فحسب، بل تعني التزام هذا الدين كافة، قلبًا وقالبًا، ظاهرًا وباطنًا، علمًا وعملًا، دعوة وعبادة، بدءًا من فَهْمِ كلمة التوحيد، والعمل بها، وانتهاء بإماطة الأذى عن الطريق.
ولهذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بإرشاد منه- يواكبون علمهم بالعمل.
فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ((كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات، لم يجاوزهن حتى يعرف ما فيهن، والعمل بهن)) (2).
من غير تفريق، ولا تبعيض، ولا تجزئة، ولا تهوين.
وقال أبو عبد الرحمن السلمي: ((حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن -وهم الصحابة- أنهم كان يستقرئون من النبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا إذا تعلموا عشر آيات، لم يخلفوها حتى يعملوا بما فيها من العمل، فَتَعَلَّمْنَا القرآن، والعمل جميعًا)).
وزاد في رواية ابن سعد: ((وإنه سيرث القرآن بعدنا قوم يشربونه شُرْبَ الماء، لا يجاوز تراقيهم، بل لا يجاوز ههنا، ووضع يده على الْحَلْقِ)) (3).
(1) أخرجه مسلم، وأحمد، وغيرهما.
(2)
أخرجه الطبري في تفسيره برقم (81).
(3)
أخرجه الطبري برقم (82) وابن سعد (6/ 172).
إن إهمال مسألة التربية على منهاج النبوة كان وراء معظم النكبات التي حَلَّتْ بالأمة الإسلامية، ومع ذلك لا يزال إخواننا لا يعقلون هذا، وعلى سبيلهم سادرون (1)، فلا هُمْ بالسنة يقتدون، ولا هم بالواقع والنتائج يتعظون! !
فكم في زماننا من مجاهد بلا عقيدة .. وكم من عالم بلا عمل .. وكم من عامل بلا علم .. وكم من داعية بلا تقوى تَرْدَعُهُ، أو علم يُقَوِّمُهُ! !
كل ذلك بسبب سوءِ التربية .. وَأَخْذِ بعض هذا الدين، وهجران بعضه.
والانشغال عنها بالسياسة، وبالأحداث الجارية، وبفقه الواقع الذي أُعْطِيَ حَقًّا فوق حَقِّهِ، وأُنزل محلًا غير محله، فَشُغلوا بذلك عن التربية، وهم لا يشعرون.
قال سيد:
((ولكن لي فقط توجيها عاما؛ لكل الإخوان، ولكل الحركات الإسلامية، وهو أن لا تستغرقهم الأحداث الجارية، وأن لا ينغمسوا فيها، وفي المناورات الحزبية، والسياسية، فإن لهم حقلًا آخر، أوسع وأبعد مَدًى، وإن كان بطيئًا، وطويلَ الأمد، وهو حقل البعث الإسلامي للعقيدة، وللقيم، وللأخلاق، وللتقاليد الإسلامية في صلب المجتمعات، حتى يأذن الله -بالجهد الطويل، والصبر- بقيام النظام الإسلامي، وإنني ألاحظ شدة انغماس [وذكر إحدى جماعات الإخوان]-ومنذ نشأة الجماعة هناك- بالأحداث السياسية، وقلة التفرغ للتربية)).
(1) قال أهل اللغة: السادر: المتحير، وغير المتثبت، والذي لم يكد يبصر الطريق، والذي لا يهتم بالشيء، ولا يبالي به.
والسادر: الذي يركب البحر، فيرفعه الموج ويخفضه .. فأي هذه المعاني اخترتَ فهو صواب، والمعنى الأخير أقرب؛ لمناسبته لواقع كثير من المسلمين المعاصرين.