الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْقِسْمُ الثّانِي مُجْتَهِدٌ فِي مَذهَبِ إِمَامِهِ، أَوْ إِمَامِ غَيْرِهِ
وَأَحْوَالهُ أرْبَعَةٌ:
الْحَالةُ الْأُولَى:
أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُقَلِّدٍ لِإِمَامِهِ فِي الْحُكْمِ وَالدَّلِيلِ، لَكِنْ سَلَكَ طَرِيقَهُ فِي الاِجْتِهَادِ وَالفَتْوَى، وَدَعَا إِلَى مَذْهَبِهِ، وَقَرَأَ كَثِيرًا مِنْهُ عَلَى أَهْلِهِ؛ فَوَجَدَهُ صَوَابًا، وَأوْلَى مِنْ غَيْرِهِ، وَأَشَدَّ مُوَافَقَةً فِيهِ وَفِي طَرِيقِهِ.
وَقَدِ ادَّعَى هَذَا مِنَّا [الْقَاضِي أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي مُوسَى الْهَاشِمِيُّ](1) فِي "شَرْحِ الإِرْشادِ"(2) الَّذِي لَهُ، وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى، وَغَيْرُهُمَا.
وَمِنَ (3) الشَّافِعِيَّةِ خَلْقٌ كَثِيرٌ (4).
وَاخْتَلَفَتِ (5) الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ فِي أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالْمُزَنِيِّ وَابْنِ سُرَيْجٍ؛ هَلْ كَانُوا مُجْتَهِدِينَ مُسْتَقِلِّينَ أَوْ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامَيْنِ؟ (6)
(1) من (أ) و (ح)، وفي (ب) و (ص): ابن أبي موسى.
(2)
هذا الكتاب مفقودٌ، يسر الله العثور عليه.
(3)
في (ب): من.
(4)
(أدب المُفتي): 92.
(5)
من (أ) و (ح)، وفي (ب): ومن.
(6)
(أدب المُفتي): 93.
* وَفَتْوَى الْمُجْتَهِدِ الْمَذْكُورِ؛ كَفَتْوَى الْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ، فِي الْعَمَلِ بِهَا، وَالاِعْتِدَادِ بِهَا فِي الْإِجْمَاعِ وَالْخِلَافِ (1).
* * *
(1) يُنظر: (أدب المُفتي): 91، و (مقدمة المجموع): 1/ 97، و (المسودة): 2/ 966، و (إعلام الموقعين): 6/ 126، و (الدر النضيد):315.
فَصْلٌ
* وَقَال بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: "إِذَا كَانَ رَجُلٌ مُجْتَهِدًا فِي مَذْهَبِ إِمَامٍ، وَلَمْ يَكُنْ مُسْتَقِلًّا بِالْفَتْوَى [فِيهِ](1) عَنْ نَفْسِهِ، فَهَلْ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِقَوْلِ ذَلِكَ الْإِمَامِ؟
عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ، وَيَكُونُ مُتَّبِعُهُ مُقَلَّدًا لِلْمَيِّتِ لَا لَهُ.
وَالثَّانِي: الْمَنْعُ؛ لِأَنَّهُ مُقَلِّدٌ لَهُ، لَا لِلْمَيِّتِ، وَالسَّائِلُ إِنَّما أَرَادَ الاسْتِفْتَاءَ عَلَى قَوْلِ الْمَيِّتِ" (2).
وَالأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ مُسْتَفْتِيَهُ عَمِلَ بِقَوْلِ الْمَيِّتِ الَّذِي عَرَفَ الْمُفْتِي صِحَّتَهُ بِالدَّلِيلِ، فَقَدْ وَافَقَهُ [فِيهِ](3)؛ فَصَحَّتْ فُتْيَاهُ.
* وَإِنْ مَنَعْنَا تَقْلِيدَ الْمَيِّتِ - فِي وَجْهٍ لَنَا بَعِيدٍ وَمَذْهَبٍ لِغَيْرِنَا ضَعِيفٍ-؛ لِاحْتِمَالِ تَغَيُّرِ اجْتِهَادِهِ لَوْ كَانَ حَيًّا، وَجَدَّدَ النَّظَرَ عِنْدَ حُدُوثِ الْمَسْأَلةِ حِينَ الْفَتْوَى -وَفِي وُجُوبِهِ (4) مَذْهَبَانِ، سَنَذْكُرُهُمَا إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالى-[؛ فَلَا يُفْتِي السَّائِلَ. وَفِيهِ ضَعْفٌ.
وَعَلَى صِحَّةِ هَذِهِ الْفَتْوَى أَدْرَكْنَا الْأَئِمَّةَ الَّذِينَ يُرْجَعُ إِلَيْهِمْ فِي الفُتْيَا] (5).
(1) من (أ).
(2)
يُنظر: (إعلام الموقعين): 6/ 128.
(3)
من (أ).
(4)
أي: وجوب تجديد الفتوى بتجدد الحادثة.
(5)
من (ب).
الْحَالةُ الثَّانِيةُ:
أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا فِي مَذْهَبِ إِمَامِهِ، مُسْتَقِلًّا بِتَقْرِيرِهِ بِالدَّلِيلِ، لَكِنْ لَا يَتَعَدَّى أُصُولَهُ وَقَوَاعِدَهُ، مَعَ إِتْقَانِهِ لِلفِقْهِ وَأُصُولِهِ، وَأَدِلَّةِ مَسَائِلِ الْفِقْهِ، عَارِفًا (1) بِالقِيَاسِ وَنحْوِهِ، تَامَّ الرِّيَاضَةِ، قَادِرًا عَلَى التَّخْرِيجِ وَالاسْتِنْبَاطِ، وَإِلْحَاقِ الفُرُوعِ بِالْأُصُولِ وَالقَواعِدِ الَّتِي لإمَامِهِ.
وَقِيلَ (2): "وَلَيْسَ مِنْ [شَرْطِهِ: مَعْرِفَةُ هَذَا] (3) عِلْمَ الْحَدِيثِ، وَاللُّغَةَ، وَالْعَرَبِيَّةَ؛ لِكَوْنِهِ يَتَّخِذُ نُصُوصَ (4) إِمَامِهِ أُصُولًا يَسْتَنْبِطُ مِنْهَا الأْحْكَامَ؛ كَنُصُوصِ الشَّارِعِ، وَقَدْ يَرَى حُكْمًا ذَكَرَهُ إِمَامُهُ بِدَليلٍ، فَيَكْتَفِي بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ بَحْيثٍ عَنْ مُعَارِضٍ أَوْ غَيْرِهِ". وَهُوَ بَعِيدٌ.
وَهَذَا شَأْنُ أَهْلِ الْأَوْجُهِ وَالطُّرُقِ فِي الْمَذَاهِبِ، وَهُوَ حَال أَكْثَرِ عُلَمَاءِ الطَّوَائِفِ الْآنَ.
* فَمَنْ عَمِلَ بِفُتْيَا هَذَا؛ فَقَدْ قَلَّدَ إِمَامَهُ دُونَهُ؛ لِأَنَّ مُعَوَّلَهُ عَلَى صِحَّةِ إِضَافَةِ مَا يَقُولُ إِلَى إِمَامِهِ؛ لِعَدَمِ اسْتِقْلَالِهِ بِتَصْحِيحِ نِسْبَتِهِ إِلَى الشَّارعِ بِلَا وَاسِطَةِ إِمَامِهِ.
وَالظَّاهِرُ: مَعْرِفتهُ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ مِنْ حَدِيثٍ وَلُغَةٍ وَنَحْوٍ.
وَقِيلَ (5): "إِنَّ فَرْضَ الْكِفَايةِ لَا يَتَأَدَّى بِهِ؛ لَأَنَّ تَقْلِيدَهُ نَقْصٌ وَخَلَلٌ فِي الْمَقْصُودِ".
(1) من (أ) و (ح) و (ش)، وفي (ب) و (ص): عالمًا.
(2)
القائل هو: ابن الصلاح. (أدب المُفتي): 95.
(3)
من (أ)، (ح)، وفي (ب) و (ص): شرط هذا معرفة.
(4)
من (ب) و (ص)، وفي (ح): بنُصوص، وفي (أ): أصول.
(5)
هو قول لبعض الأئمة حكاه ابن الصلاح في (أدب المُفتي): 95.
وَقِيلَ (1): "يَتَأَدَّى بِهِ فِي الفَتْوَى، لَا فِي إِحْيَاءِ الْعُلُومِ الَّتِي تُسْتَمَدُّ مِنْها الفَتْوَى؛ لِأَنَّهُ قَدْ قَامَ فِي فَتْوَاهُ مَقَامَ إِمَامٍ مُطْلَقٍ، فَهُوَ يُؤَدِّي عَنْهُ مَا كَانَ يَتَأَدَّى بِهِ الْفَرْضُ حِينَ كَانَ حَيًّا قَائِمًا بِالفَرْضِ مِنْهَا".
وَهَذَا عَلَى الصَّحِيحِ فِي جَوَازِ تَقْلِيدِ الْمَيِّتِ.
* ثُمَّ قَدْ يُوجَدُ مِنَ الْمُجْتَهِدِ الْمُقَيَّدِ اسْتِقْلالٌ بِالاِجْتِهَادِ وَالفَتْوَى فِي مَسْألَةٍ خَاصَّةٍ أَوْ بَابٍ خَاصٍّ.
* وَيَجُوزُ (2) لَهُ أَنْ يُفْتِيَ فِيمَا لَمْ يَجِدْهُ مِنْ أَحْكَامِ الْوَقَائِعِ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ عَنْ إِمَامِهِ لِمَا (3) يُخْرِّجُهُ عَلَى مَذْهَبِهِ.
وَعَلَى هَذَا الْعَمَلُ، وَهُوَ أَصَحُّ.
فَالْمُجْتَهِدُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ -مَثَلًا- إِذَا أَحَاطَ بِقَوَاعِدِ مَذْهَبِهِ، وَتَدَرَّبَ فِي مَقَايِيسِهِ وَتَصَرُّفَاتِهِ؛ تَنَزَّلَ مِنَ الْإِلْحَاقِ بمَنْصُوصَاتِهِ وَقَوَاعِدِ مَذْهَبِهِ مَنْزِلَةَ الْمُجْتَهِدِ الْمُسْتَقِلِّ فِي إِلْحَاقِهِ مَا لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ الشَّارِعُ بِمَا نَصَّ عَلَيْهِ.
وَهَذَا أَقْدَرُ عَلَى ذَا مِنْ ذَاكَ [عَلَى ذَاكَ](4)، فَإِنَّهُ يَجِدُ فِي مَذْهَبِ إِمَامِهِ قَوَاعِدَ مُمَهَّدَةً، وَضَوَابِطَ مُهَذَّبَةً، مَا لَا يَجِدُهُ (5) الْمُسْتَقِلُّ (6) فِي أُصُولِ الشَّرْعِ (7) وَنُصُوصِهِ.
(1) هو قول ابن الصلاح في (أدب المُفتي): 95.
(2)
من (ب) و (ص) و (د)، وفي (أ): فيجوز.
(3)
من (أ) و (ص) و (د)، وفي (ب): لم.
(4)
من (أ) و (ص) و (د)، وليست في (ب).
(5)
في (ب): يجد.
(6)
من (ب) و (د) و (ص)، وفي (أ): المجتهد.
(7)
من (أ) و (د)، وفي (ب) و (ص): الشارع.
وَقَدْ سُئِلَ [الإِمَامُ](1) أَحْمَدُ رضي الله عنه عَمَّنْ يُفْتِي بِالْحَدِيثِ، هَلْ لَهُ ذَلِكَ (2) إِذَا حَفِظَ أَرْبَعَمِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ؟
فَقَال: "أَرْجُو".
فَقِيلَ لِأَبِي إِسْحَاقَ ابْنِ شَاقْلَا: فَأَنْتَ تُفْتِي، وَلَسْتَ تَحْفَظُ هَذَا القَدْرَ؟
فَقَال: "لَكِنِّي أُفْتِي بِقَوْلِ مَنْ يَحْفَظُ أَلْفَ أَلْفِ حَدِيثٍ" يَعْنِي الإِمَامَ أَحْمَدَ (3).
* ثُمَّ إِنَّ الْمُسْتَفْتِيَ -فِيمَا يُفْتِيهِ بِهِ مِنْ تَخْرِيجِهِ هَذَا- مُقَلِّدٌ لِإمَامِهِ لَا لَهُ.
وَقِيلَ: "مَا يُخَرِّجُهُ أَصْحَابُ الْإِمَامِ عَلَى مَذْهَبِهِ، هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُنْسَبَ (4) إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ مَذْهَبُهُ؟ "
فِيهِ لَنَا وَلِغَيرِنَا خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ.
* وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ فِي مَذْهَبِ إِمَامِهِ هُوَ: "الَّذِي يَتَمَكَّنُ مِنَ التَّفْرِيعِ عَلَى أَقْوَالِهِ، كَمَا يَتَمَكَّنُ الْمُجْتَهِدُ الْمُطْلَقُ مِنَ التَّفْرِيعِ عَلَى [كُلِّ] (5) مَا انْعَقَدَ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ، وَدَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ أَوِ (6) السُّنَّةُ أَوِ الاسْتِنْبَاطُ".
(1) من (أ).
(2)
من (أ) و (ص)، وفي (ب): ذاك.
(3)
الرواية ذكرها أبو يعلى في (العدة): 5/ 1597، وابن أبي يعلى في (طبقات الحنابلة): 2/ 164، وابن تيمية في (المسودة): 2/ 926، وابن القيم في (إعلام الموقعين): 6/ 104، والمرداوي في (التَّحبير): 8/ 4077، وابن النجار في (شرح الكوكب المنير): 4/ 561.
(4)
من (أ) و (ج)، وفي (ب): ينسبه.
(5)
من (ب).
(6)
من (أ)، وفي (ب) و (ص): و.
* ولَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْمُجْتَهِدِ أَنْ يُفْتِيَ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ فِيمَا يُفْتِي بِهِ، بِحَيْثُ يَحْكُمُ فِيمَا يَدْرِي، وَيَدْرِي أَنَّهُ يَدْرِي، بَلْ قَدْ يَجْتَهِدُ الْمُجْتَهِدُ فِي الْقِبْلَةِ، وَيَجْتَهِدُ العَامِّيُّ فِيمَنْ يُقَلِّدُهُ وَيَتَّبِعُهُ.
* ثُمَّ تَخْرِيجُهُ تَارَةً يَكُونُ مِنْ نَصٍّ مُعَيَّنٍ لِإِمَامِهِ فِي مَسْأَلَةٍ مُعَيِّنَةٍ، وَتَارَةً لَا يَجِدُ لِإِمَامِهِ نَصًّا مُعَيَّنًا [يُخَرِّجُ مِنْهُ](1)؛ فَيُخَرِّجُ عَلَى وَفْقِ أُصُولِهِ وَقَوَاعِدِهِ، بِأَنْ يَجِدَ (2) دَلِيلًا مِنْ جِنْسِ مَا يَحْتَجُّ بِهِ إِمَامُهُ، وَعَلَى شَرْطِهِ، فَيُفْتِيَ بِمُوجَبِهِ.
وَجَعْلُ هَذَا مَذْهَبًا لِإِمَامِهِ بَعِيدٌ.
* ثمَّ إِنْ وَقَعَ النَّوْعُ الْأَوَّلُ مِنَ التَّخْرِيجِ فِي صُورَةٍ فِيهَا نَصٌّ رمَامِهِ مُخَرَّجًا (3) -هُوَ فِيهَا بِخِلَافِ نَصِّهِ فِيهَا- مِنْ نَصٍّ آخَرَ فِي (4) صُورَةٍ أُخْرَى، سُمِّيَ (5):"قَوْلًا مُخَرَّجًا (6) "؛ كَنَصِّهِ عَلَى حُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فِي مَسْأَلَتَيْنِ مُتَشَابِهَتَيْنِ (7) فِي وَقْتَيْنِ، فَيُخَرِّجُ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ فِي الْأُخْرَى، فَيَكُونُ لَهُ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ قَوْلَانِ: قَوْلٌ مَنْصُوصٌ، وَقَوْلٌ مُخَرَّجٌ.
وَإِنْ قُلْنَا: "الْأَوَّلُ مِنْ قَوْلَيْهِ [فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ] (8) لَيْسَ مَذْهَبًا لَهُ"؛ لَمْ يَجُزِ
(1) من (أ).
(2)
من (أ) و (د)، وفي (ب): يجدد.
(3)
من (أ) و (د)، وفي (ب): فيخرج.
(4)
من (أ) و (د)، وفي (ب): و.
(5)
من (ب) و (د)، وفي (أ): فهي.
(6)
من (ب) و (د)، وفي (أ): مخرج.
(7)
في (أ): متشابهين.
(8)
من (ب).
النَّقْلُ وَالتَّخْرِيجُ مِنَ الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ إِلَى الْمُتَأَخِّرَةِ.
[وَيَجُوزُ عَكْسُهُ. هَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ وَأَصْحَابِنَا.
وَفِي جَوَازر خِلافٌ وَتَفْصِيلٌ نَذْكُرُهُ آنِفًا.
وَأَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ يُطْلِقُونَ النَّقْلَ وَالتَّخْرِيجَ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ، فَيَلْزَمُ التَّخْرِيجُ مِنَ الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ إِلَى الْمُتَأَخِّرَةِ] (1)؛ فَيَكُونُ الْقَدِيمُ مَذْهَبًا، وَالْجَدِيدُ لَيْسَ مَذْهَبًا.
* وَإِذَا وَقَعَ النَّوْعُ الثَّانِي فِي صُورَةٍ قَدْ قَال فِيهَا بَعْضُ الْأَصْحَابِ غَيْرَ ذَلِكَ، سُمِّيَ [ذَلِكَ] (2):"وَجْهًا" لِمَنْ خَرَّجَهُ، وَيُقَال:"فِيهَا وَجْهَانِ".
* وَقَدْ يُخَرِّجُ بَعْضُ الْأَصْحَابِ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ خِلَافَ نَصِّ الْإِمَامِ فِيهَا، عَلَى مَا يَرَاهُ دَلِيلًا مِنْ جِنْسِ أَدِلَّةِ الْإِمَامِ.
وَذَلِكَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا كَثِيرٌ، وَالْخِلَافُ هُنَا اصْطِلَاحٌ لَفْظِيٌّ.
* وَشَرْطُ التَّخْرِيجِ الْمَذْكُورِ أَوَّلًا عِنْدَ اخْتِلافِ النَّصَّيْنِ: أَلَّا يُوجَدَ بَيْنَ الْمَسْأَلتَيْنِ فَرْقٌ مُؤَثِّرٌ (3)، وَلَا يَكُونَ الْإِمَامُ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا، أَوْ كَانَ زَمَنُ الْقَوْلَيْنِ قَرِيبًا.
وَلَا حَاجَةَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ إِلَى عِلَّةٍ جَامِعَةٍ، وَهُوَ كَإِلْحَاقِ الْأَمَةِ بِالْعَبْدِ فِي الْعِتْقِ.
* وَمَتَى أَمْكَنَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَسْأَلتَيْنِ؛ لَمْ يَجُزْ لَهُ -عَلَى الأصَحِّ- التَّخَريجُ، وَلَزِمَهُ تَقْرِيرُ النَّصَّيْنِ عَلَى ظَاهِرِهِمَا لِلْفَارِقِ الْمُؤَثِّرِ.
(1) من (أ).
(2)
من (أ).
(3)
في (أ): يؤثر.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْقَوْلِ بِالتَّخْرِيجِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ؛ لِاخْتِلَافِهِمْ فِي إِمْكَانِ الفَرْقِ (1) وَتَمَامُ ذَلِكَ يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللهُ -تَعَالى-.
* * *
(1) يُنظر: (أدب المُفتي): 98، و (مقدمة المجموع): 1/ 98، و (المسودة): 2/ 967، و (إعلام الموقعين): 6/ 126، و (الدر النضيد):317.
الْحَالةُ الثَّالِثَةُ:
أَلَّا يَبْلُغَ بِهِ رُتْبَةَ أَئِمَّةِ الْمَذْهَبِ (1)، أَصْحَابِ الْوُجُوهِ وَالطُّرُقِ، غَيْرَ أَنّهُ فَقِيهُ النَّفْسِ، حَافِظٌ لِمَذْهَبِ إِمَامِهِ، عَارِفٌ بِأَدِلَّتِهِ، قَائِمٌ بِتَقْرِيرِهِ وَنُصْرَتِهِ، يُصَوِّرُ، [ويُحَرِّرُ](2)، ويُمَهِّدُ، ويقَرِّرُ، ويزَيِّفُ، ويرَجِّحُ.
* لَكِنَّهُ قَصَّرَ عَنْ دَرَجَةِ أُولِئَكَ:
- إِمَّا لِكَوْنِهِ لَمْ يَبْلُغْ فِي حِفْظِ الْمَذْهَبِ مَبْلَغَهُمْ.
- وَإِمَّا لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُتبَحِّرٍ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَنحْوِهِ، عَلَى أَنَّهُ لَا يَخْلُو مِثْلُهُ فِي ضِمْنِ مَا يَحْفَظُهُ مِنَ الْفِقْهِ، وَيَعْرِفُهُ مِنْ أَدِلِّتِهِ، عَنْ أَطْرَافٍ مِنْ قَوَاعِدِ أُصُولِ الْفِقْهِ وَنَحْوِهِ.
- وَإِمَّا لِكَوْنِهِ مُقَصِّرًا فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعُلُومِ الَّتِي هِيَ أَدَوَاتُ الاجْتِهَادِ الْحَاصِلِ لِأَصْحَابِ الْوُجُوهِ وَالطُّرُقِ (3).
وَهَذِهِ صِفَةُ كَثِيرٍ مِنَ الْمُتَأخِّرِينَ الَّذِينَ رَتَّبُوا الْمَذَاهِبَ وَحَرَّرُوهَا، وَصَنَّفُوا فِيهَا تَصَانِيفَ بِهَا يَشْتَغِلُ النَّاسُ الْيَومَ غَالِبًا، وَلَمْ يَلْحَقُوا مَنْ يُخَرِّجُ الوُجُوهَ ويمَهِّدُ الطُّرُقَ فِي الْمَذَاهِبِ.
* وَأَمَّا [فِي](4) فَتَاوِيهِمْ: فَقَدْ كَانُوا يَتبَسَّطُونَ (5) فِيهَا كَتبَسُّطِ (6) أُولَئِكَ أَوْ نَحْوِهِ،
(1) من (ب) و (ص) و (ك) و (د)، وفي (أ) و (ح) و (ذ): المذاهب.
(2)
تصحَّفت في (أ) و (ب) إلى: ويجوز، والمثبت موافق لـ (ح) و (ص) و (د) و (ذ).
(3)
عند ابن الصلاح زيادة، وهي: وإما لكونه لم يرتض في التخريج والاستنباط كارتياضهم.
(4)
من (أ) و (خ)، وليست في (ب).
(5)
من (أ) و (د) و (ح)، وفي (ب): ينبسطون، وفي (ص): يَسْتَنْبِطُون.
(6)
من (أ)، وفي (ب): انبساط، وفي (ح): كبسط، وفي (ص): استنباط، وفي (د): كتبسيط.
وَيَقِيسُونَ غَيْرَ الْمَنْقُولِ وَالْمَسْطُورِ [عَلَى الْمَنْقُولِ وَالْمَسْطُورِ فِي الْمَذْهَبِ، غَيْرُ مُقْتَصِرِينَ فِي ذَلِكَ عَلَى الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ وَقِيَاسِ لَا فَارِقَ](1)، نَحْوُ: قِيَاسُ الْمَرْأَةِ عَلَى الرَّجُلِ فِي رُجُوعِ الْبَائِعِ إِلَى عَيْنِ مَالِهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الثَّمَنِ.
* وَلَا تَبْلُغُ فَتَاوِيهِمْ فَتَاوَى أَصْحَابِ الْوُجُوهِ.
* وَرُبَّمَا تَطَرَّقَ بَعْضُهُمْ إِلَى تَخْرِيجِ قَوْلٍ، وَاسْتِنْبَاطِ وَجْهٍ وَاحْتِمَالٍ (2).
* وَفَتَاوِيهِمْ مَقْبُولَةٌ أَيْضًا (3).
* * *
(1) من (أ).
(2)
من (أ) و (ح)، وفي (ب) و (ص): أو احتمال.
(3)
يُنظر: (أدب المُفتي): 98، و (مقدمة المجموع): 1/ 99، و (المسودة): 2/ 968، و (إعلام الموقعين): 6/ 126، و (الدر النضيد):319.
الْحَالةُ الرَّابِعَةُ:
* أَنْ يَقُومَ بِحِفْظِ الْمَذْهَبِ، وَنَقْلِهِ، وَفَهْمِهِ، فَهَذَا يُعْتَمَدُ نَقْلُهُ وَفَتْوَاهُ [بِهِ](1)، فِيمَا يَحْكِيهِ مِنْ مَسْطُورَاتِ مَذْهَبِهِ، مِنْ مَنْصُوصَاتِ إِمَامِهِ، وَتَفْرِيعَاتِ (2) أَصْحَابِهِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي مَذْهَبِهِ وَتَخْرِيجَاتِهِمْ.
* - وَأَمَّا مَا [لَا](3) يَجِدُهُ مَنْقُولًا فِي مَذْهَبِهِ:
- فَإِنْ وَجَدَ فِي الْمَنْقُولِ مَا هَذَا فِي مَعْنَاهُ، بِحَيْثُ يُدْرِكُ مِنْ غَيْرِ فَضْلِ فِكْرٍ وَتَأَمُّلٍ أَنَّهُ لَا فَارِقَ بَيْنَهُمَا، كَمَا فِي الْأَمَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَبْدِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي إعْتَاقِ الشَّرِيكِ؛ جَازَ لَهُ إِلْحَاُقهُ بِهِ، وَالفَتْوَى بِهِ.
وَكَذَلِكَ: مَا يَعْلَمُ انْدِراجُهُ تَحْتَ ضَابِطٍ وَمَنْقُولٍ مُمَهَّدٍ فِي الْمَذْهَبِ.
- وَمَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ؛ فَعَلَيْهِ الإِمْسَاكُ عَنِ الفُتْيَا فِيهِ (4).
وَمثْلُ هَذَا يَقَعُ نَادِرًا فِي حَقِّ مِثْلِ الْفَقِيهِ (5) الْمَذْكُورِ، إِذْ يَبْعُدُ أَنْ تَقَعَ وَاقِعَةٌ لَمْ يُنَصَّ عَلَى حُكْمِهَا فِي الْمَذْهَبِ، وَلَا هِيَ فِي مَعْنَى [بَعْضِ](6) الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ، وَلَا مُنْدَرِجةٌ تَحْتَ شَيْءٍ مِنْ ضَوَابِطِ الْمَذْهَبِ الْمُحَرَّرَةِ فِيهِ.
* ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْفَقِيهَ لَا يَكُونُ إِلَّا فَقِيهَ النَّفْسِ؛ لِأَنَّ تَصْوِيرَ الْمَسَائِلِ عَلَى وَجْهِهَا
(1) من (ب).
(2)
من (أ) و (د)، وفي (ب) و (ص) و (ح): أو تفريعات.
(3)
من (ب).
(4)
من (ب) و (ص) و (د)، وفي (أ) و (ح) و (ش): به.
(5)
من (أ) و (ح) و (د)، وفي (ب) و (ص): هذا.
(6)
من (أ).
وَنَقْلَ أحْكَامِهَا بَعْدَهُ؛ لَا يَقُومُ بِهِ إِلَّا فَقِيهُ النَّفْسِ.
* وَيَكْفِي اسْتِحْضَارُ أَكْثَرِ الْمَذْهَبِ، مَعَ قُدرَتهِ عَلَى مُطَالعَةِ بَقِيَّتِهِ قَرِيبًا (1).
* * *
(1) يُنظر: (أدب المُفتي): 99، و (مقدمة المجموع): 1/ 99، و (المسودة): 2/ 968، و (إعلام الموقعين): 6/ 127، و (الدر النضيد):320.