الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[طرح التثريب]
أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ لَا تَكُونُ الرُّؤْيَا مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ إلَّا إذَا وَقَعَتْ مِنْ مُسْلِمٍ صَادِقٍ صَالِحٍ، وَهُوَ الَّذِي يُنَاسِبُ حَالُهُ حَالَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأُكْرِمَ بِنَوْعٍ مِمَّا أُكْرِمَ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ، وَهُوَ الِاطِّلَاعُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ كَمَا قَالَ عليه الصلاة والسلام «أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ مُبَشِّرَاتِ النُّبُوَّةِ إلَّا الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ يَرَاهَا الرَّجُلُ الصَّالِحُ أَوْ تُرَى لَهُ» فَإِنَّ الْكَافِرَ وَالْكَاذِبَ وَالْمُخَلِّطَ، وَإِنْ صَدَقَتْ رُؤْيَاهُمْ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ لَا تَكُونُ مِنْ الْوَحْيِ وَلَا مِنْ النُّبُوَّةِ إذْ لَيْسَ كُلُّ مَنْ صَدَقَ فِي حَدِيثٍ عَنْ غَيْبٍ يَكُونُ خَبَرُهُ ذَلِكَ نُبُوَّةً، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْكَاهِنَ يُخْبِرُ بِكَلِمَةِ الْحَقِّ وَكَذَلِكَ الْمُنَجِّمُ قَدْ يُحَدِّثُ فَيَصْدُقُ وَلَكِنْ عَلَى النُّدُورِ وَالْقِلَّةِ وَكَذَلِكَ الْكَافِرُ وَالْفَاسِقُ وَالْكَاذِبُ، وَقَدْ يَرَى الْمَنَامَ الْحَقَّ وَيَكُونُ ذَلِكَ الْمَنَامُ سَبَبًا فِي شَرٍّ يَلْحَقُهُ أَوْ أَمْرٍ يَنَالُهُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْوُجُوهِ الْمُعْتَبَرَةِ الْمَقْصُودَةِ بِهِ، وَقَدْ وَقَعَتْ لِبَعْضِ الْكُفَّارِ مَنَامَاتٌ صَحِيحَةٌ صَادِقَةٌ كَمَنَامِ الْمَلِكِ الَّذِي رَأَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ وَمَنَامِ الْفَتَيَيْنِ فِي السِّجْنِ وَمَنَامِ عَاتِكَةَ عَمَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهِيَ كَافِرَةٌ وَنَحْوُهُ كَثِيرٌ لَكِنَّ ذَلِكَ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنَامَاتِهِمْ الْمُخَلَّطَةِ وَالْفَاسِدَةِ انْتَهَى.
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ وَأَنَا أَقُولُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ يُشِيرُ إلَى عُمُومِ صِدْقِ الرُّؤْيَا فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ وَأَنَّ صِدْقَهَا لَا يَخْتَصُّ بِصَالِحٍ مِنْ طَالِحٍ، وَهُوَ بَيِّنٌ.
[فَائِدَة مَعْنَى قَوْلُهُ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ]
1
(الرَّابِعَةُ) قَوْلُهُ «جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ» ) هِيَ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ كَمَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ إنَّهَا الْأَكْثَرُ وَالْأَصَحُّ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَحَكَى أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ الْمَازِرِيِّ أَنَّهَا الْأَكْثَرُ وَالْأَصَحُّ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَلَمْ أَقِفْ عَلَى ذَلِكَ فِي الْمُعَلِّمِ وَإِنَّمَا هُوَ فِي الْإِكْمَالِ لِلْقَاضِي وَكَأَنَّهُ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا «جُزْءٌ مِنْ خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ» وَهِيَ رِوَايَةُ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْهُ وَاَلَّذِي فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ سِيرِينَ أَيْضًا وَكَذَا هُوَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ «مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ» ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَأَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ وَهَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ وَغَيْرِهِمْ وَكَذَا هُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِلَفْظِ «خَمْسَةٍ» وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِلَفْظِ «سَبْعِينَ» وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ «جُزْءٌ مِنْ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[طرح التثريب]
سَبْعِينَ جُزْءًا» وَهُوَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لَا يُخْتَلَفُ فِي صِحَّتِهِ قَالَ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلُهُ قَالَ وَرَوَى عَاصِمُ بْنُ كُلَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ «مِنْ تِسْعَةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ» قَالَ وَأَخْطَأَ فِيهِ رِشْدِينُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «جُزْءًا مِنْ أَرْبَعَةٍ وَأَرْبَعِينَ» بِإِسْنَادٍ فِيهِ لِينٌ، ثُمَّ رُوِيَ بِإِسْنَادٍ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْرَجِ عَنْ سَلْمَانَ بْنِ غَرِيبٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ «سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ» .
قَالَ سَلْمَانُ فَحَدَّثْت بِهِ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ مِنْ خَمْسِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ فَقُلْت إنِّي سَمِعْت أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ إنَّنِي سَمِعْت «رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ جُزْءًا مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ» فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ سَمِعْت الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: صلى الله عليه وسلم «الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ مِنْ الْمُؤْمِنِ جُزْءٌ مِنْ خَمْسِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ» قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَقَدْ حَدَّثَ هَذَا الْحَدِيثَ أَبُو سَلَمَةَ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَقَالَ عُمَرُ لَوْ كَانَتْ جُزْءًا مِنْ عَدَدِ الْحَصَا لَرَأَيْتهَا صِدْقًا، ثُمَّ رَوَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْمُخْتَارِ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا «رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ» ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي رَزِينٍ الْعُقَيْلِيِّ بِلَفْظِ «جُزْءٍ مِنْ أَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ» وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ حَدِيثَ أَبِي رَزِينٍ بِهَذَا اللَّفْظِ وَبِلَفْظِ «جُزْءٍ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ» فَهَذِهِ ثَمَانِ رِوَايَاتٍ أَقَلُّهَا مِنْ سِتَّةٍ وَعِشْرِينَ وَأَكْثَرُهَا سَبْعُونَ وَأَصَحُّهَا وَأَشْهَرُهَا سِتَّةٌ وَأَرْبَعُونَ فَإِنْ مِلْنَا إلَى التَّرْجِيحِ فَرِوَايَةُ السِّتَّةِ وَالْأَرْبَعِينَ أَصَحُّ كَمَا تَقَدَّمَ وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ أَكْثَرُهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَكُلُّهَا مَشْهُورٌ فَلَا سَبِيلَ إلَى أَخْذِ أَحَدِهَا وَطَرْحِ الْبَاقِي كَمَا فَعَلَ الْمَازِرِيُّ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ بَعْضُ مَا تَرَكَ أَوْلَى مِمَّا قَبِلَ إذَا بَحَثْنَا عَنْ رِجَالِ أَسَانِيدِهَا وَرُبَّمَا تَرَجَّحَ عِنْدَ غَيْرِهِ غَيْرُ مَا اخْتَارَهُ هُوَ انْتَهَى.
وَهُوَ اسْتِرْوَاحٌ وَرَدٌّ بِغَيْرِ نَظَرٍ وَكَشْفٍ، وَقَدْ عَرَفْت بِتَفْصِيلِ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ الْأَشْهَرَ وَالْأَصَحَّ رِوَايَةُ السِّتَّةِ وَالْأَرْبَعِينَ كَمَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَإِنْ سَلَكْنَا طَرِيقَ الْجَمْعِ فَفِي ذَلِكَ أَوْجُهٌ:
(أَحَدُهَا) أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ صَاحِبِ الرُّؤْيَا قَالَ الْمَازِرِيُّ أَشَارَ الطَّبَرِيُّ إلَى أَنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[طرح التثريب]
رَاجِعٌ إلَى اخْتِلَافِ حَالِ الرَّائِي فَالْمُؤْمِنُ الصَّالِحُ تَكُونُ نِسْبَةُ رُؤْيَاهُ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ وَالْفَاجِرُ مِنْ سَبْعِينَ وَلِهَذَا لَمْ يُشْتَرَطْ فِي رِوَايَةِ السَّبْعِينَ فِي وَصْفِ الرَّائِي مَا اُشْتُرِطَ فِي وَصْفِ الرَّائِي فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فِيهِ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ مِنْ كَوْنِهِ صَالِحًا وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لَيْسَ ذَلِكَ عِنْدِي بِاخْتِلَافِ تَضَادٍّ وَتَدَافُعٍ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَسَبِ مَا يَكُونُ الَّذِي يَرَاهَا مِنْ صِدْقِ الْحَدِيثِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَالدِّينِ الْمَتِينِ وَحُسْنِ الْيَقِينِ فَمَنْ خَلَصَتْ لَهُ نِيَّةٌ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ وَيَقِينِهِ وَصِدْقِ حَدِيثِهِ كَانَتْ رُؤْيَاهُ أَصْدَقَ وَإِلَى النُّبُوَّةِ أَقْرَبَ كَمَا أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ يَتَفَاضَلُونَ وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ هَذَا فِيهِ بُعْدٌ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ صِحَّةِ حَمْلِ مُطْلَقِ الرِّوَايَاتِ عَلَى مُقَيَّدِهَا وَبِمَا قَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعِينَ وَسَكَتَ فِيهِ عَنْ ذِكْرِ وَصْفِ الرَّائِي وَكَذَلِكَ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو حِينَ ذَكَرَ سَبْعَةً وَأَرْبَعِينَ وَحَدِيثُ الْعَبَّاسِ حِينَ ذَكَرَ خَمْسِينَ قُلْت كَذَا رَأَيْته فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ سَبْعَةً وَأَرْبَعِينَ، وَهُوَ سَبْقُ قَلَمٍ وَإِنَّمَا فِيهِ مِنْ تِسْعَةٍ وَأَرْبَعِينَ كَمَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(ثَانِيهَا) قَالَ الْمَازِرِيُّ بَعْدَ كَلَامِهِ الْمُتَقَدِّمِ وَقِيلَ إنَّ الْمَنَامَاتِ دَلَالَاتٌ وَالدَّلَالَاتُ مِنْهَا خَفِيٌّ وَمِنْهَا جَلِيٌّ فَمَا ذَكَرَ فِيهِ السَّبْعِينَ يُرِيدُ الْخَفِيَّ مِنْهَا وَمَا ذَكَرَ فِيهِ السِّتَّةَ وَالْأَرْبَعِينَ يُرِيدُ بِهِ الْجَلِيَّ مِنْهَا.
(ثَالِثُهَا) أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْمَنَامَ الصَّادِقَ خَصْلَةٌ مِنْ خِصَالِ النُّبُوَّةِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ «التُّؤَدَةُ وَالِاقْتِصَادُ وَحُسْنُ السَّمْتِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ» أَيْ النُّبُوَّةُ مَجْمُوعَةُ خِصَالٍ تَبْلُغُ أَجْزَاؤُهَا سِتَّةً وَعِشْرِينَ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ أَشْيَاءَ جُزْءٌ وَاحِدٌ مِنْهَا وَعَلَى مُقْتَضَى هَذِهِ التَّجْزِئَةِ كُلُّ جُزْءٍ مِنْ السِّتَّةِ وَالْعِشْرِينَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ فِي نَفْسِهِ فَإِذَا ضَرَبْنَا ثَلَاثَةً فِي سِتَّةٍ وَعِشْرِينَ صَحَّ لَنَا أَنَّ عَدَدَ خِصَالِ النُّبُوَّةِ مِنْ حَيْثُ آحَادِهَا ثَمَانِيَةٌ وَسَبْعُونَ وَيَصِحُّ أَنْ نُسَمِّيَ كُلَّ اثْنَيْنِ مِنْ الثَّمَانِيَةِ وَالسَّبْعِينَ جُزْءًا خَصْلَةً فَيَكُونُ جَمِيعُهَا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ تِسْعَةً وَثَلَاثِينَ وَيَصِحُّ أَنْ تُسَمَّى كُلُّ أَرْبَعَةٍ مِنْهَا جُزْءًا فَيَكُونُ مَجْمُوعُ أَجْزَائِهَا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ تِسْعَةَ عَشَرَ جُزْءًا وَنِصْفَ جُزْءٍ فَتَخْتَلِفُ أَسْمَاءُ الْعَدَدِ الْمُجَزِّئِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ اعْتِبَارِ الْأَجْزَاءِ.
وَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ اخْتِلَافُ أَعْدَادِ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ فِي أَحَادِيثِ الرُّؤْيَا الْمَذْكُورَةِ اضْطِرَابًا وَإِنَّمَا هُوَ اخْتِلَافُ اعْتِبَارِ مَقَادِيرِ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ الْمَذْكُورَةِ ذَكَرَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ وَقَالَ أَنَّهُ أَشْبَهَ مَا ذَكَرَ فِي ذَلِكَ مَعَ أَنَّهُ لَمْ تَثْلُجْ النَّفْسُ بِهِ وَلَا طَابَ لَهَا انْتَهَى كَلَامُهُ وَذَكَرَهُ قَبْلَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ بِأَخْصَرَ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[طرح التثريب]
مِنْهُ.
(رَابِعُهَا) قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ أَيْضًا يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ التَّجْزِئَةُ فِي طُرُقِ الْوَحْيِ إذْ مِنْهُ مَا سُمِعَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى دُونَ وَاسِطَةٍ كَمَا قَالَ {أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى: 51] وَمِنْهُ بِوَاسِطَةِ الْمَلَكِ كَمَا قَالَ {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا} [الشورى: 51] وَمِنْهُ مَا يُلْقَى فِي الْقَلْبِ كَمَا قَالَ {إِلا وَحْيًا} [الشورى: 51] أَيْ إلْهَامًا وَهَذَا حَصْرٌ لَهَا، ثُمَّ فِيهِ مَا يَأْتِيهِ الْمَلَكُ عَلَى صُورَتِهِ وَمِنْهُ مَا يَأْتِيهِ عَلَى صُورَةِ آدَمِيٍّ يَعْرِفُهُ وَمِنْهُ مَا يَتَلَقَّاهُ مِنْهُ، وَهُوَ لَا يَعْرِفُهُ، وَمِنْهُ مَا يَأْتِيهِ بِهِ فِي مَنَامِهِ بِحَقِيقَةٍ كَقَوْلِهِ الرَّجُلُ مَطْبُوبٌ وَمِنْهُ مَا يَأْتِيهِ فِي مِثْلِ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ وَمِنْهُ مَا يُلْقِيهِ رُوحُ الْقُدُسِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا وَقَفْنَا عَلَيْهِ وَمَا لَمْ نَقِفْ عَلَيْهِ فَتَكُونُ تِلْكَ الْحَالَاتُ إذَا عُدِّدَتْ غَايَتُهَا انْتَهَتْ إلَى سَبْعِينَ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا الْوَجْهِ مِنْ الْبُعْدِ وَالتَّسَاهُلِ فَإِنَّ تِلْكَ الْأَعْدَادَ كُلَّهَا إنَّمَا هِيَ أَجْزَاءُ النُّبُوَّةِ وَأَكْثَرُ هَذِهِ الْأَحْوَالِ الَّتِي ذَكَرْت هُنَا لَيْسَتْ مِنْ النُّبُوَّةِ فِي شَيْءٍ كَكَوْنِهِ يَعْرِفُ الْمَلَكَ أَوْ لَا يَعْرِفُهُ أَوْ يَأْتِيهِ عَلَى صُورَتِهِ أَوْ غَيْرِ صُورَتِهِ، ثُمَّ مَعَ هَذَا التَّكَلُّفِ الْعَظِيمِ لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَبْلُغَ عَدَدَ مَا ذَكَرَ إلَى ثَلَاثِينَ انْتَهَى.
(خَامِسُهَا) قَالَ الْقُرْطُبِيُّ أَيْضًا ظَهَرَ لِي وَجْهٌ خَامِسٌ وَأَنْ أَسْتَخِيرَ اللَّهَ فِي ذِكْرِهِ، وَهُوَ أَنَّ النُّبُوَّةَ مَعْنَاهَا أَنْ يُطْلِعَ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ عَلَى مَا يَشَاءُ مِنْ أَحْكَامِهِ وَوَحْيِهِ إمَّا بِالْمُشَافَهَةِ وَإِمَّا بِوَاسِطَةِ مَلَكٍ أَوْ بِإِلْقَاءٍ فِي الْقَلْبِ لَكِنَّ هَذَا الْمَعْنَى الْمُسَمَّى بِالنُّبُوَّةِ لَا يَخُصُّ اللَّهُ بِهِ إلَّا مَنْ خَصَّهُ بِصِفَاتِ كَمَالِ نَوْعِهِ مِنْ مَعَارِفِ الْعُلُومِ وَالْفَضَائِلِ وَالْآدَابِ وَنَزَّهَهُ عَنْ نَقَائِضِ ذَلِكَ فَأَطْلَقَ عَلَى تِلْكَ الْخِصَالِ نُبُوَّةً كَمَا قَالَ عليه الصلاة والسلام «التُّؤَدَةُ وَالِاقْتِصَارُ وَالسَّمْتُ الْحَسَنُ جُزْءٌ مِنْ النُّبُوَّةِ» أَيْ مِنْ خِصَالِ الْأَنْبِيَاءِ لَكِنَّ الْأَنْبِيَاءَ فِي هَذِهِ الْخِصَالِ مُتَفَاضِلُونَ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء: 55] وَقَالَ {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة: 253] فَتَفَاضُلُهُمْ بِحَسَبِ مَا وَهَبَ لِكُلِّ مِنْهُمْ مِنْ تِلْكَ الصِّفَاتِ وَشَرُفَ بِهِ مِنْ تِلْكَ الْحَالَاتِ وَكُلٌّ مِنْهُمْ الصِّدْقُ أَعْظَمُ صِفَتِهِ فِي نَوْمِهِ وَيَقَظَتِهِ وَكَانُوا تَنَامُ أَعْيُنُهُمْ وَلَا تَنَامُ قُلُوبُهُمْ فَنَائِمُهُمْ يَقْظَانُ وَوَحْيُهُمْ فِي النَّوْمِ وَالْيَقَظَةِ سِيَّانِ فَمَنْ نَاسَبَهُمْ فِي الصِّدْقِ حَصَلَ مِنْ رُؤْيَاهُ عَلَى الْحَقِّ غَيْرَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْأَنْبِيَاءُ فِي مَقَامَاتِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ مُتَفَاضِلِينَ وَكَانَ كَذَلِكَ أَتْبَاعُهُمْ مِنْ الصَّادِقِينَ وَكَانَ أَقَلُّ خِصَالِ كَمَالِ الْأَنْبِيَاءِ مَا إذَا اُعْتُبِرَتْ كَانَتْ سِتًّا وَعِشْرِينَ جُزْءًا وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ ذَلِكَ سَبْعِينَ وَبَيْنَ الْعَدَدَيْنِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[طرح التثريب]
مَرَاتِبُ مُخْتَلِفَةٌ بِحَسَبِ مَا اخْتَلَفَتْ أَلْفَاظُ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ وَعَلَى هَذَا فَمَنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ فِي صَلَاحِهِ وَصِدْقِهِ عَلَى رُتْبَةٍ تُنَاسَبُ كَمَالَ نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ كَانَتْ رُؤْيَاهُ جُزْءًا مِنْ نُبُوَّةِ ذَلِكَ النَّبِيِّ وَكِمَالَاتُهُمْ مُتَفَاضِلَةٌ كَمَا قَرَّرْنَاهُ فَنِسْبَةُ أَجْزَاءِ مَنَامَاتِ الصَّادِقِينَ مُتَفَاوِتَةٌ عَلَى مَا فَصَّلْنَاهُ وَبِهَذَا الَّذِي أَظْهَرَهُ اللَّهُ لَنَا يَرْتَفِعُ الِاضْطِرَابُ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ اهـ.
(الْخَامِسَةُ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ كَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ «جُزْءًا مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ» قَوْلًا لَا يَكَادُ يَتَحَقَّقُ مِنْ طَرِيقِ الْبُرْهَانِ، قَالَ إنَّهُ عليه الصلاة والسلام بَقِيَ مُنْذُ أَوَّلِ مَا بُدِئَ بِالْوَحْيِ إلَى أَنْ تُوُفِّيَ ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ سَنَةً مِنْهَا بِمَكَّةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرَ سِنِينَ وَكَانَ يُوحَى إلَيْهِ فِي مَنَامِهِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ بِمَكَّةَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ وَهِيَ نِصْفُ سَنَةٍ فَصَارَتْ هَذِهِ الْمُدَّةُ جُزْءًا مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ زَمَانِ النُّبُوَّةِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَهَذَا، وَإِنْ كَانَ وَجْهًا قَدْ يَحْتَمِلُهُ قِسْمَةُ الْحِسَابِ وَالْعَدَدِ فَإِنَّ أَوَّلَ مَا يَجِبُ فِيهِ أَنْ يَثْبُتَ مَا قَالَهُ مِنْ ذَلِكَ خَبَرًا وَرِوَايَةً، وَلَمْ نَسْمَعْ فِيهِ خَبَرًا وَلَا ذِكْرَ قَائِلٍ فِي هَذِهِ الْمَقَالَةِ فِيمَا بَلَغَنِي عَنْهُ فِي ذَلِكَ أَثَرًا فَكَأَنَّهُ ظَنٌّ وَحُسْبَانُ الظَّنِّ لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا وَلَئِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْمُدَّةُ مَحْسُوبَةً مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْقِسْمَةِ لَقَدْ كَانَ يَجِبُ أَنْ يُلْحِقَ بِهَا سَائِرَ الْأَوْقَاتِ الَّتِي كَانَ يُوحَى إلَيْهِ فِي مَنَامِهِ فِي تَضَاعِيفِ أَيَّامِ حَيَاتِهِ وَأَنْ تُلْتَقَطَ فَتُلَفَّقُ وَيُزَادُ فِي أَصْلِ الْحِسَابِ وَإِذَا صِرْنَا إلَى هَذَا بَطَلَتْ هَذِهِ الْقِسْمَةُ، وَقَدْ كَانَ عليه الصلاة والسلام يَرَى الرُّؤْيَا فِي أُمُورِ الشَّرِيعَةِ وَمُهِمَّاتِ الدِّينِ فَيَقُصُّهَا عَلَى أَصْحَابِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ عِدَّةَ أَحَادِيثَ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ وَكَانَ بَعْضُ الشَّرِيعَةِ عَنْ رُؤْيَا بَعْضِ أَصْحَابِهِ كَرُؤْيَا عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ الْأَذَانِ فَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْوَحْيِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَعْلَى مِنْ هَذَا كُلِّهِ مَا نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ مِنْ رُؤْيَا الْفَتْحِ فِي قَوْلِهِ عز وجل {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ} [الفتح: 27] وَقَالَ {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60] وَلَيْسَ كُلُّ مَا تَخْفَى عَلَيْنَا عِلَّتُهُ لَا تَلْزَمُنَا حُجَّتُهُ وَهَذَا كَقَوْلِهِ فِي حَدِيثٍ آخَرَ «إنَّ الْهَدْيَ الصَّالِحَ وَالسَّمْتَ الصَّالِحَ جُزْءٌ مِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ» وَحَصْرُ النُّبُوَّةِ مُتَعَذِّرٌ لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا هُمَا مِنْ هَدْيِ الْأَنْبِيَاءِ وَشَمَائِلِهِمْ فَكَذَلِكَ الْأَمْرُ فِي الرُّؤْيَا وَمَعْنَى الْحَدِيثِ تَحْقِيقُ أَمْرِ الرُّؤْيَا وَأَنَّهَا مِمَّا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[طرح التثريب]
كَانَ الْأَنْبِيَاءُ يُثْبِتُونَهُ وَيُحَقِّقُونَهُ وَأَنَّهَا كَانَتْ جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ الْعِلْمِ الَّذِي كَانَ يَأْتِيهِمْ وَالْأَنْبَاءِ الَّتِي كَانَ يَنْزِلُ بِهَا الْوَحْيُ عَلَيْهِمْ انْتَهَى.
وَذَكَرَ الْمَازِرِيُّ مِثْلَ ذَلِكَ مُخْتَصَرًا، ثُمَّ قَالَ وَلَا وَجْهَ عِنْدِي لِلِاعْتِرَاضِ بِمَا كَانَ مِنْ الْمَنَامَاتِ خِلَالَ زَمَنِ الْوَحْيِ لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ تُوصَفُ بِمَا يَغْلِبُ عَلَيْهَا وَتُنْسَبُ إلَى الْأَكْثَرِ مِنْهَا فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ السِّتَّةُ أَشْهُرٍ مُخْتَصَّةً بِالْمَنَامَاتِ وَالثَّلَاثُ وَالْعِشْرُونَ سَنَةً جُلُّهَا وَحْيٌ وَإِنَّمَا فِيهَا مَنَامَاتٌ قَلِيلَةٌ وَشَيْءٌ يَسِيرٌ يُعَدُّ عَدًّا صَحَّ أَنْ يَطَّرِدَ الْأَقَلُّ فِي حُكْمِ النِّسْبَةِ وَالْحِسَابِ، ثُمَّ قَالَ الْمَازِرِيُّ وَيَحْتَمِلُ عِنْدِي أَنْ يُرَادَ بِالْحَدِيثِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ ثَمَرَةَ الْمَنَامَاتِ الْخَبَرُ بِالْغَيْبِ لَا أَكْثَرُ، وَإِنْ كَانَ يَتْبَعُ ذَلِكَ إنْذَارَاتٌ وَبُشْرَى وَالْإِخْبَارُ بِالْغَيْبِ أَحَدُ ثَمَرَاتِ النُّبُوَّةِ وَأَحَدُ فَوَائِدِهَا، وَهُوَ فِي جَنْبِ فَوَائِدِ النُّبُوَّةِ وَالْمَقْصُودِ مِنْهَا يَسِيرٌ لِأَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُبْعَثَ نَبِيٌّ يُشَرِّعُ الشَّرَائِعَ وَيُثْبِتُ الْأَحْكَامَ وَلَا يُخْبِرُ بِغَيْبٍ أَبَدًا وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ قَادِحًا فِي نُبُوَّتِهِ وَلَا مُبْطِلًا لِلْمَقْصُودِ مِنْهَا وَهَذَا الْجُزْءُ مِنْ النُّبُوَّةِ، وَهُوَ الْإِخْبَارُ بِالْغَيْبِ لَا يَكُونُ إلَّا صِدْقًا وَالرُّؤْيَا بِمَا دَلَّتْ عَلَى شَيْءٍ وَلَا يَقَعُ لِكَوْنِهَا مِنْ الشَّيْطَانِ أَوْ مِنْ حَدِيثِ النَّفْسِ أَوْ مِنْ غَلَطِ الْعَابِرِ فِي الْعِبَارَةِ فَصَارَ الْخَبَرُ بِالْغَيْبِ أَحَدَ ثَمَرَاتِ النُّبُوَّةِ، وَهُوَ غَيْرُ مَقْصُودٍ مِنْهَا وَلَكِنَّهُ لَا يَقَعُ إلَّا حَقًّا وَثَمَرَةُ الْمَنَامِ الْإِخْبَارُ بِالْغَيْبِ وَلَكِنَّهُ قَدْ لَا يَقَعُ صِدْقًا فَتُقَدَّرُ النِّسْبَةُ فِي هَذَا بِقَدْرِ مَا قَدَّرَهُ الشَّرْعُ بِهَذَا الْعَدَدِ عَلَى حَسَبِ مَا أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلِأَنَّهُ يَعْلَمُ مِنْ حَقَائِقِ نُبُوَّتِهِ مَا لَا نَعْلَمُهُ نَحْنُ انْتَهَى.
(فَإِنْ قُلْت) قَدْ شَارَكَ الْمَنَامُ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ الْغَيْبِ الْإِلْقَاءُ فِي الرَّوْعِ، وَهُوَ مِنْ أَقْسَامِ الْوَحْيِ فِي حَقِّ الْأَنْبِيَاءِ وَيَقَعُ مِثْلُهُ لِمَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ كَمَا قَالَ عليه الصلاة والسلام «قَدْ كَانَ فِيمَا مَضَى قَبْلَكُمْ مِنْ الْأُمَمِ مُحَدِّثُونَ أَيْ مُلْهَمُونَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونُوا أَنْبِيَاءَ فَإِنْ يَكُنْ فِي هَذِهِ الْأَمَةِ أَحَدٌ فَعُمَرُ» فَمَا وَجْهُ الْحَصْرِ فِي الْمَنَامِ فِي قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَمْ يَبْقَ مِنْ النُّبُوَّةِ إلَّا الْمُبَشِّرَاتُ قَالُوا وَمَا الْمُبَشِّرَاتُ قَالَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ كُرْزٍ الْكَعْبِيَّةِ «ذَهَبَتْ النُّبُوَّةُ وَبَقِيَتْ الْمُبَشِّرَاتُ» (قُلْت) الْمَنَامُ يَرْجِعُ إلَى قَوَاعِدَ مُقَرَّرَةٍ وَلَهُ تَأْوِيلَاتٌ مَعْرُوفَةٌ وَيَقَعُ لِآحَادِ الْمُسْلِمِينَ بِخِلَافِ الْإِلْقَاءِ فِي الرَّوْعِ لَا يَكُونُ إلَّا لِلْخَوَاصِّ وَلَا يَرْجِعُ إلَى قَاعِدَةٍ يُمَيِّزُ بِهَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ لَمَّةِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[طرح التثريب]
الشَّيْطَانِ وَإِنَّمَا يَعْرِفُ ذَلِكَ أَهْلُ الْوِلَايَةِ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ إنَّ الْخَاطِرَ الَّذِي مِنْ الْمَلَكِ مُسْتَقِرٌّ غَيْرُ مُضْطَرِبٍ بِخِلَافِ الْخَاطِرِ الشَّيْطَانِيِّ فَإِنَّهُ مُضْطَرِبٌ لَا اسْتِقْرَارَ لَهُ وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ أَجْزَاءُ النُّبُوَّةِ لَا يَعْلَمُهَا بَشَرٌ إلَّا الْأَنْبِيَاءُ وَمَنْ أُوتِيَ ذَلِكَ مِنْ الْمَلَائِكَةِ، ثُمَّ حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ تُقَسَّمَ النُّبُوَّةُ أَجْزَاءً تَبْلُغُ إلَى سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ فَتَكُونُ الرُّؤْيَا جُزْءًا مِنْهَا قَالَ فَقُلْت لَهُ مَا تَفْعَلُ بِالْخَمْسِ وَالْأَرْبَعِينَ وَالسَّبْعِينَ وَلَا تُنْسَبُ السِّتَّةُ وَالْأَرْبَعُونَ مِنْ السَّبْعِينَ بِنِسْبَةٍ عَدَدِيَّةٍ، وَإِنْ انْتَسَبَتْ الْخَمْسَةُ وَالْأَرْبَعُونَ مِنْهَا وَالْقَدْرُ الَّذِي أَرَادَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ الرُّؤْيَا جُزْءٌ مِنْ النُّبُوَّةِ فِي الْجُمْلَةِ لَنَا لِأَنَّهَا اطِّلَاعٌ عَلَى الْغَيْبِ وَتَفْصِيلُ النِّسْبَةِ يَخْتَصُّ بِهِ دَرَجَةُ النُّبُوَّةِ انْتَهَى.
(قُلْت) وَلَا يُمْكِنُ إلْغَاءُ النِّسْبَةِ بَعْدَ ذِكْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهَا وَغَايَتُهُ أَنْ لَا يَصِلَ عِلْمُنَا إلَى حَقِيقَةِ ذَلِكَ فَنُؤْمِنُ بِهِ وَنَكِلُ عِلْمَهُ إلَى عَالَمِهِ، وَقَدْ قَالَ الْمَازِرِيُّ لَا يَلْزَمُ الْعُلَمَاءُ أَنْ تَعْرِفَ كُلَّ شَيْءٍ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِلْعُلَمَاءِ حَدًّا تَقِفُ عِنْدَهُ فَمِنْهَا مَا لَا نَعْلَمُهُ أَصْلًا وَمِنْهَا مَا نَعْلَمُهُ جُمْلَةً لَا تَفْصِيلًا وَهَذَا مِنْهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(السَّادِسَةُ) لَا يُتَخَيَّلُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ رُؤْيَا الصَّالِحِ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ فَإِنَّ الرُّؤْيَا إنَّمَا هِيَ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ فِي حَقِّ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام وَلَيْسَتْ فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَحْصُلَ لِغَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ جُزْءٌ مِنْ النُّبُوَّةِ وَإِنَّمَا الْمَعْنَى أَنَّ الرُّؤْيَا الْوَاقِعَةَ لِلصَّالِحِ تُشْبِهُ الرُّؤْيَا الْوَاقِعَةَ لِلْأَنْبِيَاءِ الَّتِي هِيَ فِي حَقِّهِمْ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ فَأَطْلَقَ أَنَّهَا مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ عَلَى طَرِيقِ التَّشْبِيهِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَإِنَّمَا كَانَتْ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ فِي الْأَنْبِيَاءِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - دُونَ غَيْرِهِمْ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - يُوحَى إلَيْهِمْ فِي مَنَامِهِمْ كَمَا يُوحَى إلَيْهِمْ فِي الْيَقَظَةِ، ثُمَّ قَالَ وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مَعْنَاهُ أَنَّ الرُّؤْيَا تَجِيءُ عَلَى مُوَافَقَةِ النُّبُوَّةِ لَا أَنَّهَا جُزْءٌ بَاقٍ مِنْ النُّبُوَّةِ وَقَالَ آخَرُ مَعْنَاهُ إنَّهَا جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ عِلْمِ النُّبُوَّةِ وَعِلْمُ النُّبُوَّةِ بَاقٍ وَالنُّبُوَّةُ غَيْرُ بَاقِيَةٍ انْتَهَى. .
(فَإِنْ قُلْت) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قِيلَ لِمَالِكٍ رحمه الله أَيَعْبُرُ الرُّؤْيَا كُلُّ أَحَدٍ؟ فَقَالَ أَبِالنُّبُوَّةِ يُلْعَبُ؟ قِيلَ لَهُ فَهَلْ يَعْبُرُهَا عَلَى الْخَيْرِ وَهِيَ عِنْدَهُ عَلَى الْمَكْرُوهِ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ إنَّهَا عَلَى مَا أُوِّلَتْ عَلَيْهِ، قَالَ لَا، ثُمَّ قَالَ الرُّؤْيَا جُزْءٌ مِنْ النُّبُوَّةِ فَلَا يُتَلَاعَبُ بِالنُّبُوَّةِ انْتَهَى.