الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَالَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ وُلَاةُ الْأُمُورِ بِالْمَدِينَةِ، فَضَمِيرُ أَمْرَهُمْ يَعُودُ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ فَقالُوا، أَي الَّذين غَلَبُوا عَلَى أَمْرِ الْقَائِلِينَ: ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا.
وَإِنَّمَا رَأَوْا أَنْ يَكُونَ الْبِنَاءُ مَسْجِدًا لِيَكُونَ إِكْرَامًا لَهُمْ وَيَدُومَ تَعَهُّدُ النَّاسِ كَهْفَهُمْ. وَقَدْ كَانَ اتِّخَاذُ الْمَسَاجِدِ عَلَى قُبُورِ الصَّالِحِينَ مِنْ سُنَّةِ النَّصَارَى، وَنَهَى عَنهُ النبيء صلى الله عليه وآله وسلم كَمَا فِي الْحَدِيثِ يَوْمَ وَفَاةِ رَسُول الله صلى الله عليه وآله وسلم قَالَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها:«وَلَوْلَا ذَلِكَ لِأُبْرِزَ قَبْرُهُ» ، أَيْ لِأُبْرِزَ فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ وَلَمْ يُجْعَلْ وَرَاءَ جِدَارِ الْحُجْرَةِ.
وَاتِّخَاذُ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ، وَالصَّلَاةُ فِيهَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ ذَرِيعَةٌ إِلَى عِبَادَةِ صَاحِبِ الْقَبْرِ أَوْ شَبِيهٌ بِفِعْلِ مَنْ يَعْبُدُونَ صَالِحِي مِلَّتِهِمْ. وَإِنَّمَا كَانَتِ الذَّرِيعَةُ مَخْصُوصَةً بِالْأَمْوَاتِ لِأَنَّ مَا يَعْرِضُ لِأَصْحَابِهِمْ مِنَ الْأَسَفِ عَلَى فُقْدَانِهِمْ يَبْعَثُهُمْ عَلَى الْإِفْرَاطِ فِيمَا يَحْسَبُونَ أَنَّهُ إِكْرَامٌ لَهُمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ، ثُمَّ يُتَنَاسَى الْأَمْرُ وَيَظُنُّ النَّاسُ أَنَّ ذَلِكَ لِخَاصِّيَّةٍ فِي ذَلِكَ الْمَيِّتِ. وَكَانَ بِنَاءُ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ سُنَّةً لِأَهْلِ النَّصْرَانِيَّةِ، فَإِنْ كَانَ شَرْعًا لَهُمْ فَقَدْ نَسَخَهُ الْإِسْلَامُ، وَإِنْ كَانَ بِدْعَةً مِنْهُمْ فِي دِينِهِمْ فَأَجْدَرُ.
[22]
[سُورَة الْكَهْف (18) : آيَة 22]
سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَاّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَاّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (22)
سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ.
لَمَّا شَاعَتْ قِصَّةُ أَهْلِ الْكَهْفِ حِينَ نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ صَارَتْ حَدِيثَ النَّوَادِي، فَكَانَتْ
مَثَارَ تَخَرُّصَاتٍ فِي مَعْرِفَةِ عَدَدِهِمْ، وَحَصْرِ مُدَّةِ مُكْثِهِمْ فِي كَهْفِهِمْ، وَرُبَّمَا أَمْلَى عَلَيْهِمُ الْمُتَنَصِّرَةُ مِنَ الْعَرَبِ فِي ذَلِكَ قِصَصًا، وَقَدْ نَبَّهَهُمُ الْقُرْآنُ إِلَى ذَلِكَ وَأَبْهَمَ
عَلَى عُمُومِ النَّاسِ الْإِعْلَامَ بِذَلِكَ لِحِكْمَةٍ، وَهِيَ أَنْ تَتَعَوَّدَ الْأُمَّةُ بِتَرْكِ الِاشْتِغَالِ فِيمَا لَيْسَتْ مِنْهُ فَائِدَةٌ لِلدِّينِ أَوْ لِلنَّاسِ، وَدَلَّ عِلْمُ الِاسْتِقْبَالِ عَلَى أَنَّ النَّاسَ لَا يَزَالُونَ يَخُوضُونَ فِي ذَلِكَ.
وَضَمِيرُ «يَقُولُونَ» عَائِدٌ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ مِنَ الْمَقَامِ، أَيْ يَقُولُ النَّاسُ أَوِ الْمُسْلِمُونَ، إِذْ لَيْسَ فِي هَذَا الْقَوْلِ حَرَجٌ وَلَكِنَّهُمْ نُبِّهُوا إِلَى أَنَّ جَمِيعَهُ لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ.
وَمَعْنَى سِينِ الِاسْتِقْبَالِ سَارَ إِلَى الْفِعْلَيْنِ الْمَعْطُوفَيْنِ عَلَى الْفِعْلِ الْمُقْتَرِنِ بِالسِّينِ، وَلَيْسَ فِي الِانْتِهَاءِ إِلَى عَدَدِ الثَّمَانِيَةِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ الْعِدَّةُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ.
وَقَدْ أَعْلَمَ اللَّهُ أَنَّ قَلِيلًا مِنَ الْخَلْقِ يَعْلَمُونَ عِدَّتَهُمْ وَهُمْ مَنْ أَطْلَعَهُمُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ.
وَفِي مقدمتهم مُحَمَّد صلى الله عليه وآله وسلم لِأَنَّ قِصَّتَهُمْ جَاءَتْ عَلَى لِسَانِهِ فَلَا شَكَّ أَنَّ اللَّهَ أَطْلَعَهُ عَلَى عِدَّتِهِمْ.
وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: أَنَا مِنَ الْقَلِيلِ.
وَكَأَنَّ أَقْوَالَ النَّاسِ تَمَالَأَتْ عَلَى أَنَّ عِدَّتَهُمْ فَرْدِيَّةٌ تَيَمُّنًا بِعَدَدِ الْمُفْرَدِ، وَإِلَّا فَلَا دَلِيلَ عَلَى ذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِ، وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ قَوْلَهُمْ ذَلِكَ رَجْمًا بِالْغَيْبِ.
وَالرَّجْمُ حَقِيقَتُهُ: الرَّمْيُ بِحَجَرٍ وَنَحْوِهِ. وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِرَمْيِ الْكَلَامِ مِنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ وَلَا تَثَبُّتٍ، قَالَ زُهَيْرٌ:
وَمَا هُوَ عَنْهَا بِالْحَدِيثِ الْمُرَجَّمِ وَالْبَاءُ فِي بِالْغَيْبِ لِلتَّعْدِيَةِ، كَأَنَّهُمْ لَمَّا تَكَلَّمُوا عَنْ أَمْرٍ غَائِبٍ كَانُوا يَرْجُمُونَ بِهِ.
وكل من جُمْلَةِ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَجُمْلَةِ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِاسْمِ الْعَدَدِ الَّذِي قَبْلَهَا، أَوْ مَوْضِعِ الْخَبَرِ الثَّانِي عَنِ الْمُبْتَدَأِ الْمَحْذُوفِ.
وَجُمْلَةُ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ الْوَاوُ فِيهَا وَاوُ الْحَالِ، وَهِيَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْمُبْتَدَأِ الْمَحْذُوفِ، أَوْ مِنِ اسْمِ الْعَدَدِ الَّذِي هُوَ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ، وَهُوَ وَإِن كَانَ نَكِرَةً
فَإِنَّ وُقُوعَهُ خَبَرٌ عَن مَعْرِفَةٍ أَكْسَبَهُ تَعْرِيفًا. عَلَى أَنَّ وُقُوعَ الْحَالِ جُمْلَةً مُقْتَرِنَةً بِالْوَاوِ قَدْ عُدَّ مِنْ مُسَوِّغَاتِ مَجِيءِ الْحَالِ مِنَ النَّكِرَةِ. وَلَا وَجْهَ لِجَعْلِ الْوَاوِ فِيهِ دَاخِلَةً عَلَى جُمْلَةٍ هِيَ صِفَةٌ لِلنَّكِرَةِ لِقَصْدِ تَأْكِيدِ لُصُوقِ الصِّفَةِ بِالْمَوْصُوفِ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ فِي «الْكَشَّافِ» لِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْرُوفٍ فِي فَصِيحِ الْكَلَامِ: وَقَدْ رَدَّهُ السَّكَّاكِيُّ فِي الْمِفْتَاحِ وَغَيْرُ وَاحِدٍ.
وَمِنْ غَرَائِبِ فِتَنِ الِابْتِكَارِ فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ قَوْلُ مَنْ زَعَمَ: إِنَّ هَذِهِ الْوَاوَ وَاوُ الثَّمَانِيَةِ، وَهُوَ مَنْسُوبٌ فِي كُتُبِ الْعَرَبِيَّةِ إِلَى بَعْضِ ضَعْفَةِ النُّحَاةِ وَلَمْ يُعَيَّنْ مُبْتَكِرُهُ. وَقَدْ عَدَّ ابْنُ هِشَامٍ فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ» مِنَ الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ الْحَرِيرِيَّ وَبَعْضَ ضَعْفَةِ النُّحَاةِ كَابْنِ خَالَوَيْهِ وَالثَّعْلَبِيِّ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ.
قُلْتُ: أَقْدَمُ هَؤُلَاءِ هُوَ ابْنُ خَالَوَيْهِ النَّحْوِيُّ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ 370 فَهُوَ الْمَقْصُودُ بِبَعْضِ ضَعْفَةِ النُّحَاةِ. وَأَحْسَبُ وَصْفَهُ بِهَذَا الْوَصْفِ أَخْذَهُ ابْنُ هِشَامٍ مِنْ كَلَامِ ابْنِ الْمُنِيرِ فِي «الِانْتِصَافِ عَلَى الْكَشَّافِ» مِنْ سُورَةِ التَّحْرِيمِ إِذْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ الْحَاجِبِ: أَنَّ الْقَاضِيَ الْفَاضِلَ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْوَاوَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ [5] هِيَ الْوَاوُ الَّتِي سَمَّاهَا بَعْضُ ضَعْفَةِ النُّحَاةِ وَاوَ الثَّمَانِيَةِ. وَكَانَ الْقَاضِي يَتَبَجَّحُ بِاسْتِخْرَاجِهَا زَائِدَةً عَلَى الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ الْمَشْهُورَةِ، أَحَدُهَا: الَّتِي فِي الصِّفَةِ الثَّامِنَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ [112] . وَالثَّانِيَةُ: فِي قَوْلِهِ: وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ.
وَالثَّالِثَةُ: فِي قَوْلِهِ: وَفُتِحَتْ أَبْوابُها فِي الزُّمَرِ [73] . قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَلَمْ يَزَلِ الْفَاضِلُ يَسْتَحْسِنُ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ إِلَى أَنْ ذَكَرَهُ يَوْمًا بِحَضْرَةِ أَبِي الْجُودِ النَّحْوِيِّ الْمُقْرِي فَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ وَاهِمٌ فِي عَدِّهَا مِنْ ذَلِكَ الْقَبِيلِ وَأَحَالَ الْبَيَانَ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ دُعَاءِ الضَّرُورَةِ إِلَى الْإِتْيَانِ بِالْوَاوِ هُنَا لِامْتِنَاعِ اجْتِمَاعِ الصِّفَتَيْنِ فِي مَوْصُوفٍ وَاحِدٍ إِلَى آخِرِهِ.
وَقَالَ فِي «الْمُغْنِي» : سَبَقَ الثَّعْلَبِيُّ الْفَاضِلَ إِلَى عَدِّهَا مِنَ الْمَوَاضِعِ فِي تَفْسِيرِهِ.
وَأَقُولُ: لَعَلَّ الْفَاضِلَ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ. وَزَادَ الثَّعْلَبِيُّ قَوْلَهُ تَعَالَى: سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فِي سُورَةِ الْحَاقَّةِ [7] حَيْثُ قَرَنَ اسْمَ عَدَدِ (ثَمَانِيَةَ) بِحِرَفِ الْوَاوِ.
وَمِنْ غَرِيبِ الِاتِّفَاقِ أَنْ كَانَ لِحَقِيقَةِ الثَّمَانِيَةِ اعْتِلَاقٌ بِالْمَوَاضِعِ الْخَمْسَةِ الْمَذْكُورَةِ مِنَ الْقُرْآنِ إِمَّا بِلَفْظِهِ كَمَا هُنَا وَآيَةِ الْحَاقَّةَ، وَإِمَّا بِالِانْتِهَاءِ إِلَيْهِ كَمَا فِي آيَةِ بَرَاءَةَ وَآيَةِ التَّحْرِيمِ، وَإِمَّا بِكَوْنِ مُسَمَّاهُ مَعْدُودًا بِعَدَدِ الثَّمَانِيَةِ كَمَا فِي آيَةِ الزُّمَرِ. وَلَقَدْ يُعَدُ الِانْتِبَاهُ إِلَى ذَلِكَ مِنَ اللَّطَائِفِ، وَلَا يَبْلُغُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمَعَارِفِ. وَإِذَا كَانَتْ كَذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ لَهَا ضَابِطٌ مَضْبُوطٌ فَلَيْسَ مِنَ الْبَعِيدِ عَدُّ الْقَاضِي الْفَاضِلِ مِنْهَا آيَةَ سُورَةِ التَّحْرِيمِ لِأَنَّهَا صَادَفَتِ الثَّامِنَةَ فِي الذِّكْرِ وَإِنْ لَمْ تكن ثامنة فِي صِفَاتِ الْمَوْصُوفِينَ، وَكَذَلِكَ لعد الثَّعْلَبِيّ آيَةِ سُورَةِ الْحَاقَّةِ وَمِثْلُ هَذِهِ اللَّطَائِفِ كَالزَّهْرَةِ تُشَمُّ وَلَا تُحَكُّ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ [112] .
وَجُمْلَةُ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِمَا تُثِيرُهُ جُمْلَةُ سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ إِلَى آخِرِهَا مِنْ تَرَقُّبِ تَعْيِينِ مَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ عِدَّتِهِمْ. فَأُجِيبَ بِأَنْ يُحَالَ الْعِلْمُ بِذَلِكَ عَلَى عَلَّامِ الْغُيُوبِ. وَإِسْنَادُ اسْمِ التَّفْضِيلِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى يُفِيدُ أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ بِعِدَّتِهِمْ هُوَ الْعِلْمُ الْكَامِلُ وَأَنَّ عِلْمَ غَيْرِهِ مُجَرَّدُ ظَنٍّ وَحَدَسٍ قَدْ يُصَادِفُ الْوَاقِعَ وَقَدْ لَا يُصَادِفُهُ.
وَجُمْلَةُ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ كَذَلِكَ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ الْإِخْبَارَ عَنِ اللَّهِ بِأَنَّهُ الْأَعْلَمُ يُثِيرُ فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ أَنْ يَسْأَلُوا: هَلْ يَكُونُ بَعْضُ النَّاسُ عَالِمًا بِعِدَّتِهِمْ عِلْمًا غَيْرَ كَامِلٍ، فَأُجِيبَ بِأَنَّ قَلِيلًا مِنَ النَّاسِ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ وَلَا مَحَالَةَ هُمْ مَنْ أَطْلَعَهُمُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ بِوَحْيٍ وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَهُمْ لَا يوصفون بالأعلمية لِأَنَّ عِلْمَهُمْ مُكْتَسَبٌ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ الْأَعْلَمِ بِذَلِكَ.
فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً تَفْرِيعٌ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي عَدَدِ أَهْلِ الْكَهْف، أَي إِذْ أَرَادَ بَعْضُ الْمُشْرِكِينَ الْمُمَارَاةَ فِي عِدَّةِ أَهْلِ الْكَهْفِ لِأَخْبَارٍ تَلَقَّوْهَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَوْ لِأَجْلِ طَلَبِ تَحْقِيقِ عِدَّتِهِمْ فَلَا تُمَارِهِمْ إِذْ هُوَ اشْتِغَالٌ بِمَا لَيْسَ فِيهِ جَدْوَى. وَهَذَا التَّفْرِيعُ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ مُعْتَرِضٌ فِي أَثْنَاءِ الْقِصَّةِ.
وَالتَّمَارِي: تَفَاعُلٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الْمِرْيَةِ، وَهِيَ الشَّكُّ. وَاشْتِقَاقُ الْمُفَاعَلَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا إِيقَاعٌ مِنَ الْجَانِبَيْنِ فِي الشَّك، فيؤول إِلَى مَعْنَى الْمُجَادَلَةِ فِي الْمُعْتَقَدِ لِإِبْطَالِهِ وَهُوَ يُفْضِي إِلَى الشَّكِّ فِيهِ، فَأَطْلَقَ الْمِرَاءَ عَلَى الْمُجَادَلَةِ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ، ثُمَّ شَاعَ فَصَارَ حَقِيقَةً لَمَّا سَاوَى الْحَقِيقَةَ. وَالْمُرَادُ بِالْمِرَاءِ فِيهِمُ: الْمِرَاءُ فِي عِدَّتِهِمْ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى التَّفْرِيعِ.
وَالْمِرَاءُ الظَّاهِرُ: هُوَ الَّذِي لَا سَبِيلَ إِلَى إِنْكَارِهِ وَلَا يَطُولُ الْخَوْضُ فِيهِ. وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ: قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ وَقَوْلِهِ: مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ، فَإِنَّ هَذَا مِمَّا لَا سَبِيلَ إِلَى إِنْكَارِهِ وَإِبَايَتِهِ لِوُضُوحِ حُجَّتِهِ وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ مُحْتَاجٌ إِلَى الْحُجَّةِ فَلَا يَنْبَغِي الِاشْتِغَالُ بِهِ لِقِلَّةِ جَدْوَاهُ.
وَالِاسْتِفْتَاءُ: طَلَبُ الْفَتْوَى، وَهِيَ الْخَبَرُ عَنْ أَمْرٍ عِلْمِيٍّ مِمَّا لَا يَعْلَمُهُ كُلُّ أَحَدٍ. وَمَعْنَى فِيهِمْ أَيْ فِي أَمْرِهِمْ، أَيْ أَمْرِ أَهْلِ الْكَهْفِ. وَالْمُرَادُ مِنَ النَّهْيِ عَنِ اسْتِفْتَائِهِمِ الْكِنَايَةُ عَنْ جَهْلِهِمْ بِأَمْرِ أَهْلِ الْكَهْفِ، فَضَمِيرُ مِنْهُمْ عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ،
وَهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ الَّذِينَ سَأَلُوا عَنْ أَمْرِ أَهْلِ الْكَهْفِ.
أَوْ يَكُونُ كِنَايَةً رَمْزِيَّةً عَنْ حُصُولِ علم النبيء صلى الله عليه وآله وسلم بِحَقِيقَةِ أَمْرِهِمْ بِحَيْثُ هُوَ غَنِيٌّ عَنِ اسْتِفْتَاءِ أَحَدٍ، وَأَنَّهُ لَا يُعْلِمُ الْمُشْرِكِينَ بِمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ مِنْ شَأْنِ أَهْلِ الْكَهْفِ، وَتَكُونُ (مِنْ) تَعْلِيلِيَّةً، وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِهَا عَائِدًا إِلَى السَّائِلِينَ