الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سُورَة الْكَهْف (18) : آيَة 50]
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَاّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (50)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ [الْكَهْف: 47] بِتَقْدِيرِ: وَاذْكُرْ إِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ، تَفَنُّنًا لِغَرَضِ الموعظة الَّذِي سيقت لَهُ هَذِهِ الْجُمَلُ، وَهُوَ التَّذْكِيرُ بِعَوَاقِبِ اتِّبَاعِ الْهَوَى وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الصَّالِحَاتِ، وَبِمَدَاحِضِ الْكِبْرِيَاءِ وَالْعُجْبِ وَاحْتِقَارِ الْفَضِيلَةِ وَالِابْتِهَاجِ بِالْأَعْرَاضِ الَّتِي لَا تُكْسِبُ أَصْحَابَهَا كَمَالًا نَفْسِيًّا. وَكَمَا وُعِظُوا بِآخِرِ أَيَّامِ الدُّنْيَا ذُكِّرُوا هُنَا بِالْمَوْعِظَةِ بِأَوَّلِ أَيَّامِهَا وَهُوَ يَوْمُ خَلْقِ آدَمَ، وَهَذَا أَيْضًا تَمْهِيدٌ وَتَوْطِئَةٌ لِقَوْلِهِ:
وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ الْآيَة [الْكَهْف: 52] ، فَإِنَّ الْإِشْرَاكَ كَانَ مِنْ غُرُورِ الشَّيْطَانِ بِبَنِي آدَمَ.
وَلَهَا أَيْضًا مُنَاسَبَةٌ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي أَنْحَتْ عَلَى الَّذِينَ افْتَخَرُوا بِجَاهِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَاحْتَقَرُوا فُقَرَاءَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَلَمْ يُمَيِّزُوا بَيْنَ الْكَمَالِ الْحَقِّ وَالْغُرُورِ الْبَاطِلِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ [الْكَهْف:
28] ، فَكَانَ فِي قِصَّةِ إِبْلِيسَ نَحْوَ آدَمَ مَثَلٌ لَهُمْ، وَلِأَنَّ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ تَذْكِيرًا بِأَنَّ الشَّيْطَانَ هُوَ أَصْلُ الضَّلَالِ، وَأَنَّ خُسْرَانَ الْخَاسِرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ آيِلٌ إِلَى اتِّبَاعِهِمْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَأَوْلِيَائِهِ. وَلِهَذَا فَرَّعَ عَلَى الْأَمْرَيْنِ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ.
وَهَذِهِ الْقِصَّةُ تَكَرَّرَتْ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ، وَهِيَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ تَشْتَمِلُ عَلَى شَيْءٍ لَمْ تَشْتَمِلْ عَلَيْهِ فِي الْآخَرِ، وَلَهَا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ ذُكِرَتْ فِيهِ عِبْرَةٌ تُخَالِفُ عِبْرَةَ غَيْرِهِ، فَذِكْرُهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ (مثلا) إِعْلَام بمبادىء الْأُمُورِ، وَذِكْرُهَا هُنَا تَنْظِيرٌ لِلْحَالِ وَتَوْطِئَةٌ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ، وَقِسْ عَلَى ذَلِكَ.
وَفَسَقَ: تَجَاوَزَ عَنْ طَاعَتِهِ. وَأَصْلُهُ قَوْلُهُمْ: فَسَقَتِ الرُّطَبَةُ، إِذَا خَرَجَتْ مِنْ قِشْرِهَا فَاسْتُعْمِلَ مَجَازًا فِي التَّجَاوُزِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ. وَالْفِسْقُ بِمَعْنَى التَّجَاوُزِ عَنِ الطَّاعَةِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ:«لَمْ نَسْمَعْ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَشْعَارِ الْجَاهِلِيَّةِ وَلَا أَحَادِيثِهَا وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ بِهِ الْعَرَبُ بَعْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ» ، أَيْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَنَحْوِهَا. وَوَافَقَهُ الْمُبَرِّدُ وَابْنُ الْأَعْرَابِيِّ. وَأُطْلِقَ الْفِسْقُ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلَى الْعِصْيَانِ الْعَظِيمِ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [26] عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ.
وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ بِمَعْنَى الْمَأْمُورِ، أَيْ تَرَكَ وَابْتَعَدَ عَمَّا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ.
وَالْعُدُولُ فِي قَوْلِهِ: عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ إِلَى التَّعْرِيفِ بِطَرِيقِ الْإِضَافَةِ دُونَ الضَّمِيرِ لِتَفْظِيعِ فِسْقِ الشَّيْطَانِ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ بِأَنَّهُ فِسْقُ عَبْدٍ عَنْ أَمْرِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ طَاعَتُهُ لِأَنَّهُ مَالِكُهُ.
وَفَرَّعَ عَلَى التَّذْكِيرِ بِفِسْقِ الشَّيْطَانِ وَعَلَى تَعَاظُمِهِ عَلَى أَصْلِ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ إِنْكَارَ اتِّخَاذِهِ وَاتِّخَاذِ جُنْدِهِ أَوْلِيَاءَ لِأَنَّ تَكَبُّرَهُ عَلَى آدَمَ يَقْتَضِي عَدَاوَتَهُ لِلنَّوْعِ، وَلِأَنَّ عِصْيَانَهُ أَمْرَ مَالِكِهِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يُرْجَى مِنْهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ أَهْلًا لِأَنْ يُتَّبَعَ.
وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ لِلْمُشْرِكِينَ، إِذْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ، قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ [الْأَنْعَام: 100] . وَلِذَلِكَ عَلَّلَ النَّهْيَ بِجُمْلَةِ الْحَالِ وَهِيَ جُمْلَةُ وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ.
وَالذُّرِّيَّةُ: النَّسْلُ، وَذُرِّيَّةُ الشَّيَاطِينُ وَالْجِنُّ.
وَالْعَدُوُّ: اسْمٌ يَصْدُقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَعَلَى الْجَمْعِ، قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ [الممتحنة: 1] وَقَالَ: هُمُ الْعَدُوُّ [المُنَافِقُونَ: 4] .
عُومِلَ هَذَا الِاسْمُ مُعَامَلَةَ الْمَصَادِرِ لِأَنَّهُ عَلَى زِنَةِ الْمَصْدَرِ مِثْلَ الْقَبُولِ وَالْوَلُوعِ، وَهُمَا مَصْدَرَانِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ