الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سُورَة الْإِسْرَاء (17) : الْآيَات 76 إِلَى 77]
وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لَا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَاّ قَلِيلاً (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (77)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ [الْإِسْرَاء: 73] تِعْدَادًا لِسَيِّئَاتِ أَعْمَالِهِمْ.
وَالضَّمَائِرُ مُتَّحِدَةٌ.
وَالِاسْتِفْزَازُ: الْحَمْلُ عَلَى التَّرَحُّلِ، وَهُوَ اسْتِفْعَالٌ مِنْ فَزَّ بِمَعْنَى بَارَحَ الْمَكَانَ، أَيْ كَادُوا أَنْ يَسْعَوْا أَنْ تَكُونَ فَازًّا، أَيْ خَارِجًا مِنْ مَكَّةَ. وَتَقَدَّمَ مَعْنَى هَذَا الْفِعْلِ عِنْدَ قَوْلِهِ:
وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ فِي هَذِه السُّورَة الْإِسْرَاء [64] . وَالْمَعْنَى: كَادُوا أَنْ يُخْرِجُوكَ مِنْ بَلَدِكَ. وَذَلِكَ بِأَنْ هَمُّوا بِأَنْ يُخْرِجُوهُ كُرْهًا ثُمَّ صَرَفَهُمُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ لِيَكُونَ خُرُوجُهُ بِغَيْرِ إِكْرَاهٍ حِينَ خَرَجَ مُهَاجِرًا عَنْ غَيْرِ عِلْمٍ مِنْهُمْ لِأَنَّهُمُ ارْتَأَوْا بَعْدَ زَمَانٍ أَنْ يُبْقُوهُ بَيْنَهُمْ حَتَّى يَقْتُلُوهُ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْأَرْضِ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ، أَيْ مِنْ أَرْضِكَ وَهِيَ مَكَّةُ.
وَقَوْلُهُ: لِيُخْرِجُوكَ تَعْلِيلٌ لِلِاسْتِفْزَازِ، أَيِ اسْتِفْزَازًا لِقَصْدِ الْإِخْرَاجِ.
وَالْمُرَادُ بِالْإِخْرَاجِ: مُفَارَقَةُ الْمَكَانِ دُونَ رُجُوعٍ. وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ جُعِلَ عِلَّةً لِلِاسْتِفْزَازِ لِأَنَّ الِاسْتِفْزَازَ أَعَمُّ مِنَ الْإِخْرَاجِ.
وَجُمْلَةُ وَإِذاً لَا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَإِنْ كادُوا، أَوْ هِيَ اعْتِرَاضٌ فِي آخِرِ الْكَلَامِ، فَتَكُونُ الْوَاوُ لِلِاعْتِرَاضِ وَ (إِذًا) ظَرْفًا لِقَوْلِهِ: لَا يَلْبَثُونَ وَهِي (إِذا) الْمُلَازِمَةُ الْإِضَافَةِ إِلَى الْجُمْلَةِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ (إِذَا) حَرْفَ جَوَابٍ وَجَزَاءٍ لِكَلَامٍ سَابِقٍ. وَهِيَ الَّتِي نُونُهَا حَرْفٌ مِنَ الْكَلِمَةِ وَلَكِنْ كَثُرَتْ كِتَابَتُهَا بِأَلِفٍ فِي صُورَةِ الِاسْمِ
الْمُنَوَّنِ. وَالْأَصْلُ فِيهَا أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ بَعْدَهَا مَنْصُوبًا بِ (أَنْ) مُضْمَرَةٍ، فَإِذَا وَقَعَتْ بَعْدَ عَاطِفٍ جَازَ رَفْعُ الْمُضَارِعِ بَعْدَهَا وَنَصْبُهُ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ (إِذًا) ظرفا للزمان، وتنوينها عوض عَنْ جُمْلَةٍ مَحْذُوفَةٍ عَلَى قَوْلِ جَمَاعَةٍ مِنْ نُحَاةِ الْكُوفَةِ، وَهُوَ غَيْرُ بَعِيدٍ. أَلَا تَرَى أَنَّهَا إِذَا وَقَعَتْ بَعْدَ عَاطِفٍ لَمْ يَنْتَصِبْ بَعْدَهَا الْمُضَارِعُ إِلَّا نَادِرًا لِانْتِفَاءِ مَعْنَى التَّسَبُّبِ، وَلِأَنَّهَا حِينَئِذٍ لَا يَظْهَرُ فِيهَا مَعْنَى الْجَوَابِ وَالْجَزَاءِ.
وَالتَّقْدِيرُ: وَإِذًا أَخْرَجُوكَ أَوْ وَإِذًا خَرَجْتَ لَا يَلْبَثُونَ خَلْفَكَ إِلَّا قَلِيلًا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ خَلْفَكَ.
وخَلْفَكَ أُرِيدَ بِهِ بَعْدَكَ. وَأَصْلُ الْخَلْفِ الْوَرَاءُ فَاسْتُعْمِلَ مَجَازًا فِي الْبَعْدِيَّةِ، أَيْ لَا
يَلْبَثُونَ بَعْدَكَ.
وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ، وَخَلَفٌ خِلافَكَ وَهُوَ لُغَةٌ فِي خَلْفٍ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ [التَّوْبَة: 81] .
وَاللُّبْثُ: الِاسْتِقْرَارُ فِي الْمَكَانِ، أَيْ لَا يَسْتَقِرُّونَ فِي مَكَّةَ بَلْ يَخْرُجُونَ مِنْهَا فَلَا يَرْجِعُونَ. وَقَدْ خَرَجَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بَعْدَ ذَلِكَ مُهَاجِرًا وَكَانُوا السَّبَبَ فِي خُرُوجِهِ فَكَأَنَّهُمْ أَخْرَجُوهُ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [191] ، فَلَمْ يَلْبَثِ الَّذِينَ تَسَبَّبُوا فِي إِخْرَاجِهِ وَأَلَّبُوا عَلَيْهِ قَوْمَهُمْ بَعْدَهُ إِلَّا قَلِيلًا ثُمَّ خَرَجُوا إِلَى وَقْعَةٍ بَدْرٍ فَلَقُوا حَتْفَهُمْ هُنَالِكَ فَلَمْ يَرْجِعُوا وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْوَعِيدُ، وَأَبْقَى الله عامتهم ودهاءهم لِضَعْفِ كَيْدِهِمْ فَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَفِي الْآيَةِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الرَّسُولَ سَيَخْرُجُ مِنْ مَكَّةَ وَأَنَّ مُخْرِجِيهِ، أَيِ الْمُتَسَبِّبِينَ فِي خُرُوجِهِ، لَا يَلْبَثُونَ بَعْدَهُ بِمَكَّةَ إِلَّا قَلِيلًا.
وَالسُّنَّةُ: الْعَادَةُ وَالسِّيرَةُ الَّتِي يَلْتَزِمُهَا صَاحِبُهَا. وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي أَنَّهَا اسْمٌ جَامِدٌ أَوِ اسْمُ مَصْدَرٍ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ [آل عمرَان: 136] ، أَيْ عَادَةُ اللَّهِ فِي كُلِّ
رَسُولٍ أَخْرَجَهُ قَوْمُهُ أَنْ لَا يَبْقَوْا بَعْدَهُ، خَرَجَ هُودٌ مِنْ دِيَارِ عَادٍ إِلَى مَكَّةَ، وَخَرَجَ صَالِحٌ مِنْ دِيَارِ ثَمُودَ، وَخَرَجَ إِبْرَاهِيمُ وَلُوطٌ وَهَلَكَتْ أَقْوَامُهُمْ، فَإِضَافَةُ سُنَّةَ إِلَى مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ، أَيْ سُنَّتُنَا فِيهِمْ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا فَإِضَافَتُهُ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ هِيَ الْإِضَافَةُ الْحَقِيقِيَّةُ.
وَانْتَصَبَ سُنَّةَ من مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ. فَإِنْ كَانَتْ سُنَّةَ اسْمَ مَصْدَرٍ فَهُوَ بَدَلٌ مِنْ فِعْلِهِ. وَالتَّقْدِيرُ: سَنَنَّا ذَلِكَ لِمَنْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا، أَيْ لِأَجْلِهِمْ. فَلَمَّا عَدَلَ عَنِ الْفِعْلِ إِلَى الْمَصْدَرِ أُضِيفَ الْمَصْدَرُ إِلَى الْمُتَعَلِّقِ بِالْفِعْلِ إِضَافَةَ الْمَصْدَرِ إِلَى مَفْعُولِهِ عَلَى التَّوَسُّعِ وَإِنْ كَانَتْ سُنَّةَ اسْمًا جَامِدًا فَانْتِصَابُهُ عَلَى الْحَالِ لِتَأْوِيلِهِ بِمَعْنًى اشْتِقَاقِيٍّ.
وَجُمْلَةُ سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِبَيَانِ سَبَبِ كَوْنِ لُبْثِهِمْ بَعْدَهُ قَلِيلًا. وَإِنَّمَا سَنَّ اللَّهُ هَذِهِ السُّنَّةَ لِرُسُلِهِ لِأَنَّ تَآمُرَ الْأَقْوَامِ عَلَى إِخْرَاجِهِمْ يَسْتَدْعِي حِكْمَةَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنْ تَتَعَلَّقَ إِرَادَتُهُ بِأَمْرِهِ إِيَّاهُمْ بِالْهِجْرَةِ لِئَلَّا يَبْقَوْا مَرْمُوقِينَ بِعَيْنِ الْغَضَاضَةِ بَيْنَ قَوْمِهِمْ وَأَجْوَارِهِمْ بِشِبْهِ مَا كَانَ يُسَمَّى بِالْخَلْعِ عِنْدَ الْعَرَبِ.
وَجُمْلَةُ وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا اعْتِرَاضٌ لِتَكْمِلَةِ الْبَيَانِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ ذَلِكَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّنَا أَجْرَيْنَاهُ عَلَى الْأُمَمِ السَّالِفَةِ وَلِأَنَّ عَادَتَنَا لَا تَتَحَوَّلُ.
وَالتَّعْبِيرُ ب لَا تَجِدُ مُبَالَغَةٌ فِي الِانْتِفَاءِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [17] .
وَالتَّحْوِيلُ: تَغْيِيرُ الْحَالِ وَهُوَ التَّبْدِيلُ. وَمِنْ غَرِيبِ التَّفْسِيرِ أَنَّ الْمُرَادَ: أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا لِلنَّبِيءِ الْحَقْ بِأَرْضِ الشَّامِ فَإِنَّهَا أَرْضُ الْأَنْبِيَاءِ فَصَدَّقَ النَّبِيءُ قَوْلَهُمْ فَغَزَا غَزْوَةَ تَبُوكَ لَا يُرِيدُ إِلَّا الشَّامَ فَلَمَّا بَلَغَ تَبُوكَ أَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ