الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الَّتِي يَهْدِي إِلَى سُلُوكِهَا أَقْوَمَ مِنَ الطَّرَائِقِ الْأُخْرَى وَإِنْ كَانَتِ الْغَايَةُ الْمَقْصُودُ الْوُصُولُ إِلَيْهَا وَاحِدَةً.
وَهَذَا وَصْفٌ إِجْمَالِيٌّ لِمَعْنَى هِدَايَتِهِ إِلَى الَّتِي هِيَ أَقْوَمُ لَوْ أُرِيدَ تَفْصِيلُهُ لَاقْتَضَى أَسْفَارًا، وَحَسْبُكَ مِثَالًا لِذَلِكَ أَسَالِيبُ الْقُرْآنِ فِي سَدِّ مَسَالِكِ الشِّرْكِ بِحَيْثُ سَلِمَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي جَمِيعِ أَطْوَارِهَا مِنَ التَّخْلِيطِ بَيْنَ التَّقْدِيسِ الْبَشَرِيِّ وَبَيْنَ التَّمْجِيدِ الْإِلَهِيِّ، فَلَمْ تَنْزِلْ إِلَى حَضِيضِ الشِّرْكِ بِحَالٍ، فَمَحَلُّ التَّفْضِيلِ هُوَ وَسَائِلُ الْوُصُولِ إِلَى الْغَايَةِ مِنَ الْحَقِّ وَالصِّدْقِ، وَلَيْسَ مَحَلُّ التَّفْضِيلِ تِلْكَ الْغَايَةَ حَتَّى يُقَالَ: إِنَّ الْحَقَّ لَا يَتَفَاوَتُ.
وَالْأَجْرُ الْكَبِيرُ فُسِّرَ بِالْجَنَّةِ، وَالْعَذَابُ الْأَلِيمُ بِجَهَنَّمَ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى عُمُومِ الْأَجْرِ وَالْعَذَابِ، فَيَشْمَلَ أَجْرَ الدُّنْيَا وَعَذَابَهَا، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ سَعَادَةِ عَيْشِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَشَقَائِهِ، فَجَعَلَ اخْتِلَافَ الْحَالَيْنِ فِيهِمَا مَوْعِظَةً لِحَالَيِ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ.
وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَطْفٌ عَلَى أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْبِشَارَةِ، إِذِ الْمُرَادُ بِالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ وَهُمْ أَعْدَاءُ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَا جَرَمَ أَنَّ عَذَابَ الْعَدُوِّ بِشَارَةٌ لِمَنْ عَادَاهُ.
وَالِاقْتِصَارُ عَلَى هَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ هُوَ مُقْتَضَى الْمَقَامِ لِمُنَاسَبَةِ تَكْذِيبِ الْمُشْرِكِينَ بِالْإِسْرَاءِ فَلَا غَرَضَ فِي الْإِعْلَامِ بِحَالِ أهل الْكتاب.
[11]
[سُورَة الْإِسْرَاء (17) : آيَة 11]
وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (11)
مَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَةِ هُنَا غَامِضٌ، وَانْتِزَاعُ الْمَعْنَى مِنْ نَظْمِهَا وَأَلْفَاظِهَا أَيْضًا، وَلَمْ يَأْتِ فِيهَا الْمُفَسِّرُونَ بِمَا ينثلج لَهُ الصَّدْرُ. وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ
الْآيَةَ الَّتِي قَبْلَهَا لَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَى بِشَارَةٍ وَإِنْذَارٍ وَكَانَ الْمُنْذَرُونَ إِذَا سَمِعُوا الْوَعِيدَ وَالْإِنْذَارَ يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ وَيَقُولُونَ: مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [يس: 48] عَطَفَ هَذَا الْكَلَامَ عَلَى مَا سَبَقَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ لِذَلِكَ الْوَعْدِ أَجَلًا مُسَمًّى. فَالْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ الْإِنْسَانُ الَّذِي لَا يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ كَمَا هُوَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا وأَ وَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً [مَرْيَم: 66- 67] وَإِطْلَاقُ الْإِنْسَانِ عَلَى الْكَافِرِ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآن.
وَفعل يدعوا مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى يَطْلُبُ وَيَبْتَغِي، كَقَوْلِ لَبِيدٍ:
أَدْعُو بِهِنَّ لِعَاقِرٍ أَوْ مُطْفِلٍ
…
بُذِلَتْ لِجِيرَانِ الْجَمِيعِ لِحَامُهَا
وَقَوْلُهُ: دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ مَصْدَرٌ يُفِيدُ تَشْبِيهًا، أَيْ يَسْتَعْجِلُ الشَّرَّ كَاسْتِعْجَالِهِ الْخَيْر، يَعْنِي يستبطىء حُلُولَ الْوَعيد كَمَا يستبطىء أحد تَأَخّر خير وُعِدَ بِهِ.
وَقَوْلُهُ: وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا تَذْيِيلٌ، فَالْإِنْسَانُ هَنَا مُرَادٌ بِهِ الْجِنْسُ لِأَنَّهُ الْمُنَاسِبُ لِلتَّذْيِيلِ، أَيْ وَمَا هَؤُلَاءِ الْكَافِرُونَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ إِلَّا مِنْ نَوْعِ الْإِنْسَانِ، وَفِي نَوْعِ الْإِنْسَانِ الِاسْتِعْجَالُ فَإِنَّ (كَانَ) تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اسْمَهَا مُتَّصِفٌ بِخَبَرِهَا اتِّصَافًا مُتَمَكِّنًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا [الْكَهْف: 54] .
وَالْمَقْصُودُ مِنْ قَوْلِهِ: وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا الْكِنَايَةُ عَنْ عَدَمِ تَبَصُّرِهِ وَأَنَّ اللَّهَ أَعْلَمُ بِمُقْتَضَى الْحِكْمَةِ فِي تَوْقِيتِ الْأَشْيَاءِ وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ [يُونُس: 11] ، وَلَكِنَّهُ دَرَّجَ لَهُمْ وَصُولَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ لُطْفًا بِهِمْ فِي الْحَالَيْنِ.
وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِالشَّرِّ وبِالْخَيْرِ لِتَأْكِيدِ لُصُوقِ الْعَامِلِ بِمَعْمُولِهِ كَالَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ [الْمَائِدَة: 6] أَوْ لِتَضْمِينِ مَادَّةِ الدُّعَاءِ مَعْنَى الِاسْتِعْجَالِ، فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِها [الشورى: 18] .