الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَوَصْفُ الْحِجَابِ بِالْمَسْتُورِ مُبَالَغَةٌ فِي حَقِيقَةِ جِنْسِهِ، أَيْ حِجَابًا بَالِغًا الْغَايَةَ فِي حَجْبِ مَا يَحْجُبُهُ هُوَ حَتَّى كَأَنَّهُ مَسْتُورٌ بِسَاتِرٍ آخَرَ، فَذَلِكَ فِي قُوَّةِ أَنْ يُقَالَ: جَعَلْنَا حِجَابًا فَوْقَ حِجَابٍ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً [الْفرْقَان: 22] .
أَوْ أُرِيدَ أَنَّهُ حِجَابٌ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْحُجُبِ الْمَعْرُوفَةِ فَهُوَ حِجَابٌ لَا تَرَاهُ الْأَعْيُنُ وَلَكِنَّهَا تَرَى آثَارَ أَمْثَالِهِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي أَخْبَارٍ كَثِيرَةٍ أَنَّ نَفَرًا هَمُّوا الْإِضْرَار بالنبيء صلى الله عليه وسلم فَمَا مِنْهُمْ إِلَّا وَقَدْ حَدَثَ لَهُ مَا حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَمِّهِ وَكفى الله نبيئه شَرَّهُمْ، قَالَ تَعَالَى:
فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ [الْبَقَرَة: 137] وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ فِي أَخْبَارِ السِّيرَةِ.
وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ حِجاباً ومَسْتُوراً مِنَ الْبَدِيعِ الطِّبَاقُ.
[46]
[سُورَة الْإِسْرَاء (17) : آيَة 46]
وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (46)
وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً
عَطْفُ جَعَلَ عَلَى جَعَلَ.
وَالتَّصْرِيحُ بِإِعَادَةِ فِعْلِ الْجَعْلِ يُؤْذِنُ بِأَنَّ هَذَا جَعْلٌ آخَرُ فَيُرَجِّحُ أَنْ يَكُونَ جَعْلُ الْحِجَابِ الْمَسْتُورِ جَعْلَ الصِّرْفَةِ عَنِ الْإِضْرَارِ، وَيَكُونُ هَذَا جَعْلَ عَدَمِ التَّدَبُّرِ فِي الْقُرْآنِ خِلْقَةً فِي نُفُوسِهِمْ. وَالْقَوْلُ فِي نَظْمِ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَعَانِيهَا تَقَدَّمَ فِي نَظِيرِهَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ.
وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً لَمَّا كَانَ الْإِخْبَارُ عَنْهُمْ قَبْلَ هَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ لَا يَفْقَهُونَ مَعَاني الْقُرْآن تبع ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ يُعْرِضُونَ عَنْ فَهْمِ مَا فِيهِ خَيْرٌ لَهُمْ، فَإِذَا سَمِعُوا مَا يُبْطِلُ إِلَهِيَّةَ أَصْنَامِهِمْ فَهِمُوا ذَلِكَ فَوَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا، أَيْ زَادَهُمْ ذَلِكَ الْفَهْمُ ضَلَالًا كَمَا حَرَمَهُمْ عَدَمُ الْفَهْمِ هَدْيًا، فَحَالُهُمْ مُتَنَاقِضٌ. فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ مَا يَحِقُّ أَنْ يُسْمَعَ، وَيَسْمَعُونَ مَا يَهْوَوْنَ أَنْ يَسْمَعُوهُ لِيَزْدَادُوا بِهِ كُفْرًا.
وَمَعْنَى «ذَكَرْتَ رَبَّكَ وَحْدَهُ» ظَاهِرُهُ أَنَّكَ ذَكَرْتَهُ مُقْتَصِرًا عَلَى ذِكْرِهِ وَلَمْ تَذْكُرْ آلِهَتَهُمْ لِأَنَّ
وَحْدَهُ حَالٌ مِنْ رَبَّكَ الَّذِي هُوَ مَفْعُولُ ذَكَرْتَ. وَمَعْنَى الْحَالِ الدَّلَالَةُ عَلَى وُجُودِ الْوَصْفِ فِي الْخَارِجِ وَنَفْسِ الْأَمْرِ، أَيْ كَانَ ذِكْرُكَ لَهُ، وَهُوَ مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ وَحْدَهُ فِي وُجُودِ الذِّكْرِ، فَيَكُونُ تَوَلِّي الْمُشْرِكِينَ عَلَى أَدْبَارِهِمْ حِينَئِذٍ مِنْ أَجْلِ الْغَضَبِ مِنَ السُّكُوتِ عَنْ آلِهَتِهِمْ وَعَدَمِ الِاكْتِرَاثِ بِهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مَا سَكَتَ عَنْ ذِكْرِ آلِهَتِهِمْ إِلَّا لِعَدَمِ الِاعْتِرَافِ بِهَا. وَلَوْلَا هَذَا التَّقْدِيرُ لَمَا كَانَ لِتَوَلِّيهِمْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ سَبَبٌ، لِأَنَّ ذِكْرَ شَيْءٍ لَا يَدُلُّ عَلَى إِنْكَارِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُمْ قَدْ يَذْكُرُونَ الْعُزَّى أَوِ اللَّاتَ مَثَلًا وَلَا يَذْكُرُونَ غَيْرَهَا من الْأَصْنَام لَا يَظُنُّ أَنَّ الذَّاكِرَ لِلْعُزَّى مُنْكِرٌ مَنَاةَ، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ [الزمر: 45] .
وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمَعْنَى: إِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ بِتَوْحِيدِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِنُفُورِهِمْ وَتَوَلِّيهِمْ، لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا يُنْكِرُونَ انْفِرَادَ اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ، فَتَكُونُ دَلَالَةُ وَحْدَهُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى بِمَعُونَةِ الْمَقَامِ وَفِعْلِ ذَكَرْتَ.
وَلَعَلَّ الْحَالَ الْجَائِيَةَ مِنْ مَعْمُولِ أَفْعَالِ الْقَوْلِ وَالذِّكْرِ وَنَحْوِهِمَا تَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ وُجُودُهَا فِي الْخَارِجِ، وَأَنْ يَكُونَ فِي الْقَوْلِ وَاللِّسَانِ، فَيَكُونُ مَعْنَى «ذَكَرْتَ رَبَّكَ وَحْدَهُ» أَنَّهُ مُوَحَّدٌ فِي ذِكْرِكَ وَكَلَامِكَ، أَيْ ذَكَرْتَهُ مَوْصُوفًا بِالْوَحْدَانِيَّةِ.