الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَالْوَجْهُ أَشَدُّ الْأَعْضَاءِ تَأَلُّمًا مِنْ حَرِّ النَّارِ قَالَ تَعَالَى: تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ [الْمُؤْمِنُونَ: 104] .
وَجُمْلَةُ بِئْسَ الشَّرابُ مُسْتَأْنَفَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ أَيْضًا لِتَشْنِيعِ ذَلِكَ الْمَاءِ مَشْرُوبًا كَمَا شُنِّعَ مُغْتَسَلًا. وَفِي عَكْسِهِ الْمَاءُ الْمَمْدُوحُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ [ص:
42] .
وَالْمَخْصُوصُ بِذَمِّ بِئْسَ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ. وَالتَّقْدِيرُ: بِئْسَ الشَّرَابُ ذَلِكَ الْمَاءُ.
وَجُمْلَةُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ يَشْوِي الْوُجُوهَ، فَهِيَ مُسْتَأْنَفَةٌ أَيْضًا لِإِنْشَاءِ ذَمِّ تِلْكَ النَّارِ بِمَا فِيهَا.
والمرتفق: مَحل الارتفاق، وَهُوَ اسْمُ مَكَانٍ مُشْتَقٌّ مِنِ اسْمٍ جَامِدٍ إِذِ اشْتُقَّ مِنَ الْمِرْفَقِ وَهُوَ مَجْمَعُ الْعَضُدِ وَالذِّرَاعِ. سُمِّيَ مِرْفَقًا لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يُحَصِّلُ بِهِ الرِّفْقَ إِذَا أَصَابَهُ إعياء فيتكىء عَلَيْهِ. فَلَمَّا سُمِّيَ بِهِ الْعُضْوُ تُنُوسِيَ اشْتِقَاقُهُ وَصَارَ كَالْجَامِدِ، ثُمَّ اشْتُقَّ مِنْهُ الْمُرْتَفَقُ. فَالْمُرْتَفَقُ هُوَ الْمُتَّكَأُ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ يُوسُفَ.
وَشَأْنُ الْمُرْتَفَقِ أَنْ يَكُونَ مَكَانَ اسْتِرَاحَةٍ، فَإِطْلَاقُ ذَلِكَ عَلَى النَّارِ تَهَكُّمٌ، كَمَا أُطْلِقَ عَلَى مَا يُزَادُ بِهِ عَذَابُهُمْ لَفْظُ الْإِغَاثَةِ، وكما أطلق لى مَكَانِهِمُ السُّرَادِقُ.
وَفِعْلُ (سَاءَ) يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ (بِئْسَ) فَيَعْمَلُ عَمَلَ (بِئْسَ)، فَقَوْلُهُ: مُرْتَفَقاً تَمْيِيزٌ.
وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: بِئْسَ الشَّرابُ.
[30]
[سُورَة الْكَهْف (18) : آيَة 30]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (30)
جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا مُرَاعًى فِيهِ حَالُ السَّامِعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهُمْ حِينَ يَسْمَعُونَ مَا أُعِدَّ لِلْمُشْرِكِينَ تَتَشَوَّفُ نُفُوسُهُمْ إِلَى مَعْرِفَةِ مَا أُعِدَّ لِلَّذِينَ
آمَنُوا وَنَبَذُوا الشِّرْكَ فَأُعْلِمُوا أَنَّ عَمَلَهُمْ مَرْعِيٌّ عِنْدَ رَبِّهِمْ. وَجَرْيًا عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي تَعْقِيبِ الْوَعِيدِ بِالْوَعْدِ
وَالتَّرْهِيبِ بِالتَّرْغِيبِ.
وَافْتِتَاحُ الْجُمْلَةِ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ (إِنَّ) لِتَحْقِيقِ مَضْمُونِهَا. وَإِعَادَةُ حَرْفِ (إِنَّ) فِي الْجُمْلَةِ الْمُخْبَرِ بِهَا عَنِ الْمُبْتَدَأِ الْوَاقِعِ فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى لِمَزِيدِ الْعِنَايَةِ وَالتَّحْقِيقِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَجِّ [17] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ [الْجُمُعَة: 8] وَمِثْلُهُ قَوْلُ جَرِيرٍ:
إِنَّ الْخَلِيفَةَ إِنَّ اللَّهَ سَرْبَلَهُ
…
سِرْبَالَ مُلْكٍ بِهِ تُزْجَى الْخَوَاتِيمُ
وَمَوْقِعُ (إِنَّ) الثَّانِيَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَبْلَغُ مِنْهُ فِي بَيْتِ جَرِيرٍ لِأَنَّ الْجُمْلَةَ الَّتِي وَقَعَتْ فِيهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَهَا اسْتِقْلَالٌ بِمَضْمُونِهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ مُفِيدَةٌ حُكْمًا يَعُمُّ مَا وَقَعَتْ خَبَرًا عَنْهُ وَغَيْرَهُ مِنْ كُلِّ مَنْ يُمَاثِلُ الْخَبَرَ عَنْهُمْ فِي عَمَلِهِمْ، فَذَلِكَ الْعُمُومُ فِي ذَاتِهِ حُكْمٌ جَدِيرٌ بِالتَّأْكِيدِ لِتَحْقِيقِ حُصُوله لأربابه بِخِلَاف بَيْتِ جَرِيرٍ.
وَأَمَّا آيَةُ سُورَةِ الْحَجِّ فَقَدِ اقْتَضَى طُولُ الْفَصْلِ حَرْفَ التَّأْكِيدِ حِرْصًا عَلَى إِفَادَةِ التَّأْكِيدِ.
وَالْإِضَاعَةُ: جَعْلُ الشَّيْءِ ضَائِعًا. وَحَقِيقَةُ الضَّيْعَةِ: تَلَفُ الشَّيْءِ مِنْ مَظِنَّةِ وَجُودِهِ.
وَتُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى انْعِدَامِ الِانْتِفَاعِ بِشَيْءٍ مَوْجُودٍ فَكَأَنَّهُ قَدْ ضَاعَ وَتَلِفَ، قَالَ تَعَالَى: أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [195]، وَقَالَ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ فِي الْبَقَرَةِ [143] . وَيُطْلَقُ عَلَى مَنْعِ التَّمْكِينِ مِنْ شَيْءٍ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ تَشْبِيهًا لِلْمَمْنُوعِ بِالضَّائِعِ فِي الْيَأْسِ مِنَ التَّمَكُّنِ مِنْهُ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، أَيْ إِنَّا لَا نَحْرِمُ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا أَجْرَ عَمَلِهِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [التَّوْبَة: 120] .