الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سُورَة الْكَهْف (18) : الْآيَات 64 إِلَى 70]
قالَ ذلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (64) فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (65) قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (66) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (68)
قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (69) قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (70)
قالَ ذلِكَ إِلَخْ.. جَوَابٌ عَنْ كَلَامِهِ، وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ كَمَا بَيَّنَاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ.
وَالْإِشَارَةُ بِ ذلِكَ إِلَى مَا تَضَمَّنَهُ خَبَرُ الْفَتَى مِنْ فَقْدِ الْحُوتِ. وَمَعْنَى كَوْنِهِ الْمُبْتَغَى أَنَّهُ وَسِيلَةُ الْمُبْتَغَى. وَإِنَّمَا الْمُبْتَغَى هُوَ لِقَاءُ الْعَبْدِ الصَّالِحِ فِي الْمَكَانِ الَّذِي يُفْقَدُ فِيهِ الْحُوتُ.
وَكُتِبَ نَبْغِ فِي الْمُصْحَفِ بِدُونِ يَاءٍ فِي آخِرِهِ، فَقِيلَ: أَرَادَ الْكَاتِبُونَ مُرَاعَاةَ حَالَةِ الْوَقْفِ، لِأَنَّ الْأَحْسَنَ فِي الْوَقْفِ عَلَى يَاءِ الْمَنْقُوصِ أَنْ يُوقَفَ بِحَذْفِهَا. وَقِيلَ: أَرَادُوا التَّنْبِيهَ عَلَى أَنَّهَا رُوِيَتْ مَحْذُوفَةً فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَالْعَرَبُ يَمِيلُونَ إِلَى التَّخْفِيفِ. فَقَرَأَ نَافِعٌ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو جَعْفَرٍ- بِحَذْفِ الْيَاءِ- فِي الْوَقْفِ وَإِثْبَاتِهَا فِي الْوَصْلِ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَابْنُ عَامِرٍ بِحَذْفِ الْيَاءِ فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَيَعْقُوبُ بِإِثْبَاتِهَا فِي الْحَالَيْنِ، وَالنُّونُ نُونُ الْمُتَكَلِّمِ الْمُشَارِكِ، أَيْ مَا أَبْغِيهِ أَنَا وَأَنْتَ، وَكِلَاهُمَا يَبْغِي مُلَاقَاةَ الْعَبْدِ الصَّالِحِ.
وَالِارْتِدَادُ: مُطَاوِعُ الرَّدِّ كَأَنَّ رَادًّا رَدَّهُمَا. وَإِنَّمَا رَدَّتْهُمَا إِرَادَتُهُمَا، أَيْ رَجَعَا عَلَى آثَارِ سَيْرِهِمَا، أَيْ رَجَعَا عَلَى طَرِيقِهِمَا الَّذِي أَتَيَا مِنْهُ.
وَالْقَصَصُ: مَصْدَرُ قَصَّ الْأَثَرَ، إِذَا تَوَخَّى مُتَابَعَتَهُ كَيْلَا يُخْطِئَا الطَّرِيقَ الْأَوَّلَ.
وَالْمُرَادُ بِالْعَبْدِ: الْخَضِرُ، وَوُصِفَ بِأَنَّهُ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ تَشْرِيفًا لَهُ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ [الْإِسْرَاء: 1] .
وَعَدَلَ عَنِ الْإِضَافَةِ إِلَى التَّنْكِيرِ وَالصِّفَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ مَا يَقْتَضِي تَعْرِيفَهُ، وَلِلْإِشَارَةِ إِلَى
أَنَّ هَذَا الْحَالَ الْغَرِيبَ الْعَظِيمَ الَّذِي ذُكِرَ مِنْ قِصَّتِهِ مَا هُوَ إِلَّا مِنْ أَحْوَالِ عِبَادٍ كَثِيرِينَ لِلَّهِ تَعَالَى. وَمَا مِنْهُمْ إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ.
وَإِيتَاءُ الرَّحْمَةِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: أَنَّهُ جَعَلَ مَرْحُومًا، وَذَلِكَ بِأَنْ رَفَقَ اللَّهُ بِهِ فِي أَحْوَالِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَعَلْنَاهُ سَبَبَ رَحْمَةٍ بِأَنْ صَرَّفَهُ تَصَرُّفًا يَجْلِبُ الرَّحْمَةَ الْعَامَّةَ.
وَالْعِلْمُ مِنْ لَدُنِ اللَّهِ: هُوَ الْإِعْلَامُ بِطَرِيقِ الْوَحْيِ.
وَ (عِنْدَ) وَ (لَدُنْ) كِلَاهُمَا حَقِيقَتُهُ اسْمُ مَكَانٍ قَرِيبٍ. وَيُسْتَعْمَلَانِ مَجَازًا فِي اخْتِصَاصِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ بِمَوْصُوفِهِمَا.
وَ (مِنِ) ابْتِدَائِيَّةٌ، أَيْ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً صَدَرَتْ مِنْ مَكَانِ الْقُرْبِ، أَيِ الشَّرَفِ وَهُوَ قُرْبُ تَشْرِيفٍ بِالِانْتِسَابِ إِلَى اللَّهِ، وَعِلْمًا صَدَرَ مِنْهُ أَيْضًا. وَذَلِكَ أَنَّ مَا أُوتِيهِ مِنَ الْوَلَايَةِ أَوِ النُّبُوءَةِ رَحْمَةٌ عَزِيزَةٌ، أَوْ مَا أُوتِيهِ مِنَ الْعِلْمِ عَزِيزٌ، فَكَأَنَّهُمَا مِمَّا يُدَّخَرُ عِنْدَ اللَّهِ فِي مَكَانِ الْقُرْبِ التَّشْرِيفِيِّ مِنَ اللَّهِ فَلَا يُعْطَى إِلَّا لِلْمُصْطَفَيْنَ.
وَالْمُخَالَفَةُ بَيْنَ مِنْ عِنْدِنا وَبَيْنَ مِنْ لَدُنَّا لِلتَّفَنُّنِ تَفَادِيًا مِنْ إِعَادَةِ الْكَلِمَةِ. وَجُمْلَة قالَ لَهُ مُوسى ابْتِدَاءُ مُحَاوَرَةٍ، فَهُوَ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقَعِ التَّعْبِيرُ بِ (قَالَ) مُجَرَّدَةً عَنِ الْعَاطِفِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: هَلْ أَتَّبِعُكَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْعَرْضِ بِقَرِينَةِ أَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ عَنْ عَمَلِ نَفْسِ الْمُسْتَفْهِمِ. وَالِاتِّبَاعُ: مَجَازٌ فِي الْمُصَاحَبَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ [النّجم: 28] .
وَ (عَلَى) مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنَى الِاشْتِرَاطِ لِأَنَّهُ اسْتِعْلَاءٌ مَجَازِيٌّ. جُعِلَ الِاتِّبَاعُ كَأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فَوْقَ التَّعْلِيمِ لِشِدَّةِ الْمُقَارَنَةِ بَيْنَهُمَا. فَصِيغَةُ: أَفْعَلُ كَذَا عَلَى كَذَا، مِنْ صِيَغِ الِالْتِزَامِ وَالتَّعَاقُدِ.
وَيُؤْخَذُ مِنَ الْآيَةِ جَوَازُ التَّعَاقُدِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ، كَمَا فِي حَدِيثِ تَزْوِيجِ الْمَرْأَةِ الَّتِي عَرَضَتْ نَفْسَهَا على النبيء صلى الله عليه وآله وسلم فَلَمْ يَقْبَلْهَا، فَزَوَّجَهَا مَنْ رَغِبَ فِيهَا عَلَى أَنْ يُعَلِّمَهَا مَا مَعَهُ مِنَ الْقُرْآنِ.
وَفِيهِ أَنَّهُ الْتِزَامٌ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ. وَقَدْ تَفَرَّعَ عَنْ حُكْمِ لُزُومِ الِالْتِزَامِ أَنَّ الْعُرْفَ فِيهِ يَقُومُ مَقَامَ الِاشْتِرَاطِ فَيَجِبُ عَلَى الْمُنْتَصِبِ لِلتَّعْلِيمِ أَنْ يُعَامِلَ الْمُتَعَلِّمِينَ بِمَا جَرَى عَلَيْهِ عُرْفُ أَقَالِيمِهِمْ.
وَذَكَرَ عِيَاضٌ فِي بَابِ صِفَةِ مَجْلِسِ مَالِكٍ لِلْعِلْمِ مِنْ كِتَابِ الْمَدَارِكِ: أَنَّ رَجُلًا خُرَاسَانِيًّا جَاءَ مِنْ خُرَاسَانَ إِلَى الْمَدِينَةِ لِلسَّمَاعِ مِنْ مَالِكٍ فَوَجَدَ النَّاسَ يَعْرِضُونَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَسْمَعُ وَلَا يَسْمَعُونَ قِرَاءَةً مِنْهُ عَلَيْهِمْ، فَسَأَلَهُ أَنْ يَقْرَأَ عَلَيْهِمْ فَأبى مَالك، فاستعدى الْخُرَاسَانِيُّ قَاضِيَ الْمَدِينَةِ. وَقَالَ: جِئْتُ مِنْ خُرَاسَانَ وَنَحْنُ لَا نَرَى الْعَرْضَ وَأَبَى مَالِكٌ أَنْ يَقْرَأَ عَلَيْنَا. فَحَكَمَ الْقَاضِي عَلَى مَالِكٍ: أَنْ يَقْرَأَ لَهُ، فَقِيلَ لِمَالِكٍ: أَأَصَابَ الْقَاضِي الْحَقَّ؟
قَالَ: نَعَمْ.
وَفِيهِ أَيْضًا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ حَقَّ الْمُعَلِّمِ عَلَى الْمُتَعَلِّمِ اتِّبَاعُهُ وَالِاقْتِدَاءُ بِهِ.
وَانْتَصَبَ رُشْداً عَلَى المفعولية ل تُعَلِّمَنِ أَيْ مَا بِهِ الرُّشْدُ، أَيِ الْخَيْرُ.
وَهَذَا الْعِلْمُ الَّذِي سَأَلَ مُوسَى تَعَلُّمَهُ هُوَ مِنَ الْعِلْمِ النَّافِعِ الَّذِي لَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّشْرِيعِ لِلْأُمَّةِ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ، فَإِنَّ مُوسَى مُسْتَغْنٍ فِي عِلْمِ التَّشْرِيعِ عَنِ الِازْدِيَادِ إِلَّا مِنْ وَحْيِ اللَّهِ إِلَيْهِ مُبَاشَرَةً، لِأَنَّهُ لِذَلِكَ أَرْسَلَهُ وَمَا عَدَا ذَلِكَ لَا تَقْتَضِي الرِّسَالَةُ عِلْمَهُ. وَقَدْ
قَالَ النبيء صلى الله عليه وآله وسلم فِي قِصَّةِ الَّذين وجدهم يؤبّرون النَّخْلَ «أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأُمُورِ دُنْيَاكُمْ»
. وَرَجَعَ يَوْمَ بَدْرٍ إِلَى قَوْلِ الْمُنْذِرِ بْنِ الْحَارِثِ فِي أَنَّ الْمَنْزِلَ الَّذِي نَزَلَهُ جَيْشُ الْمُسْلِمِينَ بِبَدْرٍ أَوَّلَ مَرَّةٍ لَيْسَ الْأَلْيَقَ بِالْحَرْبِ.
وَإِنَّمَا رَامَ مُوسَى أَنْ يَعْلَمَ شَيْئًا مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي خَصَّ اللَّهُ بِهِ الْخَضِرَ لِأَنَّ الِازْدِيَادَ مِنَ الْعُلُومِ النَّافِعَةِ هُوَ مِنَ الْخَيْرِ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى تَعْلِيمًا لِنَبِيِّهِ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه:
114] . وَهَذَا الْعِلْمُ الَّذِي أُوتِيهِ الْخَضِرُ هُوَ عِلْمُ سِيَاسَةٍ خَاصَّةٍ غَيْرِ عَامَّةٍ تَتَعَلَّقُ بِمُعَيَّنِينَ لِجَلْبِ مَصْلَحَةٍ أَوْ دَفْعِ مَفْسَدَةٍ بِحَسَبِ مَا تُهَيِّئُهُ الْحَوَادِثُ وَالْأَكْوَانُ لَا بِحَسَبِ مَا يُنَاسِبُ الْمَصْلَحَةَ الْعَامَّةَ. فَلَعَلَّ اللَّهَ يَسَّرَهُ لِنَفْعِ مُعَيَّنِينَ مِنْ عِنْدِهِ كَمَا جعل مُحَمَّدًا صلى الله عليه وآله وسلم رَحْمَةً عَامَّةً لِكَافَّةِ النَّاسِ، وَمِنْ هُنَا فَارَقَ سِيَاسَةَ التَّشْرِيعِ الْعَامَّةِ. وَنَظِيرُهُ معرفَة النبيء صلى الله عليه وآله وسلم أَحْوَالَ بَعْضِ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، وَتَحَقُّقُهُ أَنَّ أُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ لَا يُؤْمِنُونَ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَدْعُوهُمْ دَوْمًا إِلَى الْإِيمَانِ، وَتَحَقُّقُهُ أَنَّ أُولَئِكَ الْمُنَافِقِينَ غَيْرُ مُؤْمِنِينَ وَهُوَ يُعَامِلُهُمْ مُعَامَلَةَ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَانَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ يَعْرِفُهُمْ بِأَعْيَانِهِمْ بِإِخْبَار النبيء صلى الله عليه وآله وسلم إِيَّاهُ بِهِمْ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ رُشْداً- بِضَمِّ الرَّاءِ وَسُكُون الشين-. وقرأه أَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ- بِفَتْحِ الرَّاءِ وَفَتْحِ الشِّينِ- مِثْلَ اللَّفْظَيْنِ السَّابِقَيْنِ، وَهُمَا لُغَتَانِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَأَكَّدَ جُمْلَةَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً بِحَرْفِ (إِنَّ) وَبِحَرْفِ (لَنْ) تَحْقِيقًا
لِمَضْمُونِهَا مِنْ تَوَقُّعِ ضِيقِ ذَرْعِ مُوسَى عَنْ قَبُولِ مَا يُبْدِيهِ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ تَصْدُرُ مِنْهُ أَفْعَالٌ ظَاهِرُهَا الْمُنْكَرُ وَبَاطِنُهَا الْمَعْرُوفُ. وَلَمَّا كَانَ مُوسَى- عليه السلام مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ أقامهم الله لإجرء الْأَحْكَامِ عَلَى الظَّاهِرِ عَلِمَ أَنَّهُ سَيُنْكِرُ مَا يُشَاهِدُهُ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ لِاخْتِلَافِ الْمَشْرَبَيْنِ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يُقِرُّونَ الْمُنْكَرَ.
وَهَذَا تَحْذِيرٌ مِنْهُ لِمُوسَى وَتَنْبِيهٌ عَلَى مَا يَسْتَقْبِلُهُ مِنْهُ حَتَّى يُقْدِمَ عَلَى مُتَابَعَتِهِ إِنْ شَاءَ عَلَى بَصِيرَةٍ وَعَلَى غَيْرِ اغْتِرَارٍ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْإِخْبَارَ. فَمَنَاطُ التَّأْكِيدَاتِ فِي جُمْلَةِ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً إِنَّمَا هُوَ تَحْقِيقُ خُطُورَةِ أَعْمَالِهِ وَغَرَابَتِهَا فِي الْمُتَعَارَفِ بِحَيْثُ لَا تُتَحَمَّلُ، وَلَوْ كَانَ خَبَرًا عَلَى أَصْلِهِ لَمْ يَقْبَلْ فِيهِ الْمُرَاجَعَةَ وَلَمْ يُجِبْهُ مُوسَى بِقَوْلِهِ:
سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً.
وَفِي هَذَا أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ التَّعْلِيمِ أَنْ يُنَبِّهَ الْمُعَلِّمُ الْمُتَعَلِّمَ بِعَوَارِضِ مَوْضُوعَاتِ الْعُلُوم الملقنة لَا سِيمَا إِذَا كَانَتْ فِي مُعَالَجَتِهَا مَشَقَّةٌ.
وَزَادَهَا تَأْكِيدًا عُمُومُ الصَّبْرِ الْمَنْفِيِّ لِوُقُوعِهِ نَكِرَةً فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، وَأَنَّ الْمَنْفِيَّ اسْتِطَاعَتُهُ الصَّبْرُ الْمُفِيدُ أَنَّهُ لَوْ تَجَشَّمَ أَنْ يَصْبِرَ لَمْ يَسْتَطِعْ ذَلِكَ، فَأَفَادَ هَذَا التَّرْكِيبُ نَفْيَ حُصُولِ الصَّبْرِ مِنْهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ عَلَى آكَدِ وَجْهٍ.
وَزِيَادَةُ مَعِيَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ يَجِدُ مِنْ أَعْمَالِهِ مَا لَا يَجِدُ مِثْلَهُ مَعَ غَيْرِهِ فَانْتِفَاءُ الصَّبْرِ عَلَى أَعْمَالِهِ أَجْدَرُ.
وَجُمْلَةُ وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنِ اسْمِ (إِنَّ) أَوْ مِنْ ضَمِيرِ تَسْتَطِيعَ، فَالْوَاوُ وَاوُ الْحَالِ وَلَيْسَتْ وَاوَ الْعَطْفِ لِأَنَّ شَأْنَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنْ لَا تُعْطَفَ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا لِأَنَّ بَيْنَهُمَا كَمَالَ الِاتِّصَالِ إِذِ الثَّانِيَةُ كَالْعِلَّةِ لِلْأُولَى. وَإِنَّمَا أُوثِرَ مَجِيئُهَا فِي صُورَةِ الْجُمْلَةِ الْحَالِيَّةِ، دُونَ أَنْ تُفْصَلَ عَنِ الْجُمْلَةِ الْأُولَى فَتَقَعَ عِلَّةً مَعَ أَنَّ التَّعْلِيلَ هُوَ الْمُرَادُ، لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ مَضْمُونَهَا عِلَّةٌ مُلَازِمَةٌ لِمَضْمُونِ الَّتِي قَبْلَهَا إِذْ هِيَ حَالٌ مِنَ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ قَبْلَهَا.
وَ (كَيْفَ) لِلِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ فِي مَعْنَى النَّفْيِ، أَيْ وَأَنْتَ لَا تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تَحُطْ بِهِ خُبْرًا.
وَالْخُبْرُ- بِضَمِّ الْخَاءِ وَسُكُونِ الْبَاءِ-: الْعِلْمُ. وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ تَمْيِيزٌ لِنِسْبَةِ الْإِحَاطَةِ فِي قَوْلِهِ: مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ، أَيْ إِحَاطَةً مِنْ حَيْثُ الْعِلْمِ.
وَالْإِحَاطَةُ: مَجَازٌ فِي التَّمَكُّنِ، تَشْبِيهًا لِقُوَّةِ تَمَكُّنِ الِاتِّصَافِ بِتَمَكُّنِ الْجِسْمِ الْمُحِيطِ بِمَا أَحَاطَ بِهِ.
وَقَوْلُهُ: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً أَبْلَغُ فِي ثُبُوتِ الصَّبْرِ مِنْ نَحْوِ: سَأَصْبِرُ، لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ صَبْرٍ ظَاهِرٍ لِرَفِيقِهِ وَمَتْبُوعِهِ. وَظَاهِرٌ أَنَّ مُتَعَلِّقَ الصَّبْرِ هُنَا هُوَ الصَّبْرُ عَلَى مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُثِيرَ الْجَزَعَ أَوِ الضَّجَرَ مِنْ تَعَبٍ فِي
الْمُتَابَعَةِ، وَمِنْ مُشَاهَدَةِ مَا لَا يَتَحَمَّلُهُ إِدْرَاكُهُ، وَمِنْ تَرَقُّبِ بَيَانِ الْأَسْبَابِ وَالْعِلَلِ وَالْمَقَاصِدِ.
وَلَمَّا كَانَ هَذَا الصَّبْرُ الْكَامِلُ يَقْتَضِي طَاعَةَ الْآمِرِ فِيمَا يَأْمُرُهُ بِهِ عَطَفَ عَلَيْهِ مَا يُفِيدُ الطَّاعَةَ إِبْلَاغًا فِي الِاتِّسَامِ بِأَكْمَلِ أَحْوَالِ طَالِبِ الْعِلْمِ.
فَجُمْلَةُ وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ سَتَجِدُنِي، أَوْ هُوَ مِنْ عَطْفِ الْفِعْلِ عَلَى الِاسْمِ الْمُشْتَقِّ عَطْفًا على صابِراً فيؤوّل بِمَصْدَرٍ، أَيْ وَغَيْرَ عَاصٍ. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَهَمَّ مَا يَتَّسِمُ بِهِ طَالِبُ الْعِلْمِ هُوَ الصَّبْرُ وَالطَّاعَةُ لِلْمُعَلِّمِ.
وَفِي تَأْكِيدِهِ ذَلِكَ بِالتَّعْلِيقِ عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ- اسْتِعَانَةً بِهِ وَحِرْصًا عَلَى تَقَدُّمِ التَّيْسِيرِ تَأَدُّبًا مَعَ اللَّهِ- إِيذَانٌ بِأَنَّ الصَّبْرَ وَالطَّاعَةَ مِنَ الْمُتَعَلِّمِ الَّذِي لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْعِلْمِ أَعْسَرُ مِنْ صَبْرِ وَطَاعَةِ الْمُتَعَلِّمِ السَّاذِجِ، لِأَنَّ خُلُوَّ ذِهْنِهِ مِنَ الْعلم لَا يحرجه مِنْ مُشَاهَدَةِ الْغَرَائِبِ، إِذْ لَيْسَ فِي ذِهْنِهِ مِنَ الْمَعَارِفِ مَا يُعَارِضُ قَبُولَهَا، فَالْمُتَعَلِّمُ الَّذِي لَهُ نَصِيبٌ مِنَ الْعِلْمِ وَجَاءَ طَالِبًا الْكَمَالَ فِي عُلُومِهِ إِذَا بَدَا لَهُ مِنْ عُلُومِ أُسْتَاذِهِ مَا يُخَالِفُ مَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِهِ يُبَادِرُ إِلَى الِاعْتِرَاضِ وَالْمُنَازَعَةِ. وَذَلِكَ قَدْ يُثِيرُ النَّفْرَةَ بَينه وَبَين أستاذ، فَلِتَجَنُّبِ ذَلِكَ خَشِيَ الْخَضِرُ أَنْ يَلْقَى مِنْ مُوسَى هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ فَقَالَ لَهُ: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً، فَأَكَّدَ لَهُ مُوسَى أَنَّهُ يَصْبِرُ وَيُطِيعُ أَمْرَهُ إِذَا أَمَرَهُ. وَالْتِزَامُ مُوسَى ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى ثِقَتِهِ بِعِصْمَةِ مَتْبُوعِهِ لِأَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَهُ بِأَنَّهُ آتَاهُ علما.
وَالتَّاء فِي قَوْلِهِ: فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي تَفْرِيعٌ عَلَى وَعْدِ مُوسَى إِيَّاهُ بِأَنَّهُ يَجِدُهُ صَابِرًا، فَفَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ نَهْيَهُ عَنِ السُّؤَالِ عَنْ شَيْءٍ مِمَّا يُشَاهِدُهُ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ حَتَّى يُبَيِّنَهُ لَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ.
وَأَكَّدَ النَّهْيَ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ تَحْقِيقًا لِحُصُولِ أَكْمَلِ أَحْوَالِ الْمُتَعَلِّمِ مَعَ الْمُعَلِّمِ، لِأَنَّ السُّؤَالَ قَدْ يُصَادِفُ وَقْتَ اشْتِغَالِ الْمَسْئُولِ بِإِكْمَالِ عَمَلِهِ فَتَضِيقُ لَهُ نَفْسُهُ،