الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً
(47)
(يا أيها الذين أوتوا الكتاب) الخطاب لليهود، ولم يقل هنا أوتوا نصيباً من الكتاب لأن المقصود فيما سبق بيان خطئهم في التحريف، وهو إنما وقع في بعض التوراة والمقصود هنا بيان خطئهم في عدم إيمانهم بالقرآن وهو مصدّق لجميع التوراة فناسب التعبير هنا بإيتائهم الكتاب (آمنوا بما نزلنا) يعني القرآن (مصدقاً لما معكم) يعني التوراة ومعنى تصديقه إياها نزوله حسبما نعت لهم فيها أو كونه موافقاً لها في القصص والمواعيد والدعوة إلى التوحيد والعدل بين الناس والنهي عن المعاصي والفواحش.
وأما ما يتراءى من مخالفته لها في جزئيات الأحكام بسبب تفاوت الأمم والأعصار فليس بمخالفة في الحقيقة، بل هو عين الموافقة من حيث أن كلا منهما حق بالإضافة إلى عصره، متضمن للحكمة التي عليها يدور فلك التشريع حتى لو تأخر نزول المتقدم لنزل على وفق المتأخر، ولو تقدم نزول المتأخر لوافق المتقدم، ولذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم:" لو كان موسى حياً لما وسعه إلا اتباعي ".
ثم قرن بهذا الأمر الوعيد الشديد الوارد على أبلغ وجه وأكده فقال (من قبل أن نطمس وجوهاً) أصل الطمس استئصال أثر الشيء بالمحو وإزالة الأعلام، ومنه (فإذا النجوم طمست) يقال طمس الأثر أي محاه كله ومنه (ربنا اطمس على أموالهم) أي أهلكها، ويقال مطموس البصر ومنه (ولو نشاء لطمسنا على أعينهم) أي أعميناهم.
واختلف العلماء في المعنى المراد بهذه الآية هل هو حقيقة فيجعل الوجه كالقفا فيذهب بالأنف والفم والحاجب والعين وهو محو تخطيط صور الوجوه، قال ابن عباس يجعلها كخف البعير، وقيل نعميها فيكون المراد بالوجه العين، أو ذلك عبارة عن الضلالة في قلوبهم وسلبهم التوفيق، فذهب إلى الأول طائفة، وإلى الآخر آخرون، وفي تنكير الوجوه المفيد للتكثير تهويل للخطب، وفي إبهامها لطف بالمخاطبين وحسن استدعاء لهم إلى الإيمان.
وعلى الأول فالمراد بقوله (فنردّها على أدبارها) نجعلها أقفاء أي نذهب بآثار الوجه وتخطيطه حتى يصير على هيئة القفا. وقيل أنه بعد الطمس يردها إلى مواضع القفا والقفا إلى مواضعها، وهذا هو ألصق بالمعنى الذي يفيده قوله (فنردها على أدبارها).
فإن قيل كيف جاز أن يهددهم بطمس الوجوه إن لم يؤمنوا ولم يفعل ذلك بهم، فقيل: إنه لما آمن هؤلاء ومن اتبعهم رفع الوعيد عن الباقين، وقال المبرد الوعيد باق منتظر، وقال لا بد من طمس في اليهود ومسخ قبل يوم القيامة، وقيل هو مختص بيوم القيامة، وقيل المراد طمس القلب والبصيرة وقيل المراد محو آثارهم من المدينة وردهم إلى أذرعات وأريحاء من أرض الشام من حيث جاؤوا، والأول أولى.
والضمير في (أو نلعنهم) عائد إلى أصحاب الوجوه (كما لعنّا أصحاب السبت) وكان لعن أصحاب السبت مسخهم قردة وخنازير، وقيل المراد نفس اللعنة، وهم ملعونون بكل لسان، والمراد وقوع أحد الأمرين إما الطمس أو اللعن، وقد وقع اللعن، ولكنه يقوي الأول تشبيه هذا اللعن بلعن أهل السبت (وكان أمر الله مفعولاً) أي كائناً موجوداً لا محالة إن لم يؤمنوا أو يراد بالأمر المأمور، والمعنى أنه متى أراده كان كقوله (إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون).
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49)
(إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) هذا الحكم يشمل جميع طوائف الكفار من أهل الكتاب وغيرهم، ولا يختص بكفار أهل الحرب، لأن اليهود قالوا عزير ابن الله، وقالت النصارى المسيح ابن الله، وقالوا ثالث ثلاثة.
ولا خلاف بين المسلمين أن المشرك إذا مات على شركه لم يكن من أهل المغفرة التي تفضل الله بها على غير أهل الشرك حسبما تقتضيه مشيئته، وأما غير أهل الشرك من عصاة المسلمين فداخلون تحت المشيئة يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء.
قال ابن جرير قد أبانت هذه الآية أن كل صاحب كبيرة في مشيئة الله عز وجل إن شاء عذّبه وإن شاء عفا عنه ما لم تكن كبيرته شركاً بالله عز وجل، وظاهره أن المغفرة منه سبحانه تكون لمن اقتضته مشيئته تفضلاً منه ورحمة وإن لم يقع من ذلك المذنب توبة، وقيد ذلك المعتزلة بالتوبة.
وقد تقدم قوله تعالى (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيآتكم) وهي تدل على أن الله سبحانه يغفر سيئآت من اجتنب الكبائر فيكون مجتنب الكبائر ممن قد شاء الله غفران سيئآته.
عن ابن عمر بسند صحيح قال: كنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر حتى سمعنا من نبينا صلى الله عليه وسلم (إن الله لا يغفر) الآية وقال: إني ادّخرت دعوتي
وشفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي، فأمسكنا عن كثير مما كان في أنفسنا.
وعن ابن عباس قال في هذه الآية: إن الله حرم المغفرة على من مات وهو كافر، وأرجأ أهل التوحيد إلى مشيئته فلم يؤيسهم عن المغفرة وأخرج الترمذي وحسنه عن علي قال: ما في القرآن أحب إلي من هذه الآية (إن الله لا يغفر أن يشرك به) الآية.
وعن جابر قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال يا رسول الله ما الوجبتان قال: من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة، ومن مات يشرك به دخل النار، أخرجه مسلم (1).
(ومن يشرك بالله) يعني يجعل معه شريكاً غيره، إظهار في موضع الإضمار لإدخال الرّوع (فقد افترى) أي اختلق وفعل، لأن الافتراء كما يطلق على القول حقيقة يطلق على الفعل مجازاً كما صححه التفتازاني (إثماً عظيماً) يعني ذنباً كبيراً غير مغفور إن مات عليه.
(1) روي عن أبي ذر قوله صلى الله عليه وسلم: ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة
…
(ألم تر إلى الذين يزكّون أنفسهم) أي يمدحونها، تعجيب من حالهم، وقد اتفق المفسرون على أن المراد اليهود، واختلفوا في معنى الذي زكّوا به أنفسهم فقال الحسن وقتادة: هو قولهم (نحن أبناء الله وأحباؤه) وقولهم (لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى).
وقال الضحاك: هو قولهم لا ذنوب لنا ونحن كالأطفال، وقيل قولهم إن آباءهم يشفعون لهم، وقيل: ثناء بعضهم على بعض، ومعنى التزكية التطهير والتنزيه فلا يبعد صدقها على جميع هذه التفاسير وعلى غيرها، واللفظ يتناول كلّ من زكّى نفسه بحق أو بباطل من اليهود وغيرهم، وكل من ذكر نفسه
بصلاح أو وصفها بزكاء العمل أو بزيادة الطاعة والتقوى أو بزيادة الزلفى عند الله.
ويدخل في هذا التلقب بالألقاب المتضمنة للتزكية كمحيي الدين وعز الدين وسلطان العارفين ونحوها، فهذه الأشياء لا يعلمها إلا الله تعالى فلهذا قال (بل الله يزكّي من يشاء) أي بل ذلك إليه سبحانه، فهو العالم بمن يستحق التزكية من عباده ومن لا يستحقها، فليدع العباد تزكية أنفسهم ويفوضوا أمر ذلك إلى الله سبحانه، فإنّ تزكيتهم لأنفسهم مجرد دعاوى فاسدة تحمل عليها محبة النفس وطلب العلو والترفع والتفاخر، ومثل هذه الآية قوله تعالى (فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى).
(ولا يظلمون) هؤلاء المزكون أنفسهم من أعمالهم (فتيلاً) هو الخيط الذي في نواة الثمر، وقيل القشرة التي حول النواة وقيل هو ما يخرج بين أصبعيك أو كفيك من الوسخ إذا فتلتهما فهو فتيل بمعنى مفتول، والمراد هنا الكناية عن الشيء الحقير، ومثله ولا يظلمون نقيراً، وهو النكتة التي في ظهر النواة.
والمعنى أن هؤلاء الذين يزكون أنفسهم يعاقبون على تزكيتهم لأنفسهم بقدر هذا الذنب، ولا يظلمون بالزيادة على ما يستحقون، ويجوز أن يعود الضمير إلى (من يشاء) أي لا يظلم هؤلاء الذين يزكيهم الله فتيلاً مما يستحقونه من الثواب.
وقد ضربت العرب المثل في القلّة بأربعة أشياء اجتمعت في النواة وهي الفتيل والنقير وهو النقرة التي في ظهر النواة، والقطمير وهو القشر الرقيق فوقها، وهذه الثلاثة واردة في الكتاب العزيز، والثفروق وهو ما بين النواة والقمع الذي يكون في رأس الثمرة كالعلاقة بينهما.
انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52)
ثم عجّب النبي صلى الله عليه وسلم من تزكيتهم لأنفسهم فقال
(انظر كيف يفترون على الله الكذب) في قولهم ذلك، والافتراء الاختلاق ومنه افترى فلان على فلان أي رماه بما ليس فيه، وفريت الشيء قطعته، والافتراء والكذب متقاربان معنى أو معناهما واحد.
وفي قوله (وكفى به إثماً مبيناً) من تعظيم الذنب وتهويله ما لا يخفى أي كفى بالافتراء وحده وبالأولى إذا انضم إلى التزكية، والتنكير في إثماً للتشديد.
(ألم تر) تعجيب من حالهم بعد التعجيب الأول (إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب) هم اليهود (يؤمنون بالجبت والطاغوت) اختلف المفسرون في معنى الجبت والطاغوت فقال ابن عباس وابن جبير وأبو العالية الجبت الساحر بلسان الحبشة والطاغوت الكاهن، وروي عن عمر بن الخطاب أن الجبت السحر والطاغوت الشيطان.
وروي عن ابن مسعود أن الجبت والطاغوت هنا كعب بن الأشرف، وقال قتادة الجبت الشيطان والطاغوت الكاهن، وروي عن مالك أن الطاغوت ما عبد من دون الله، والجبت الشيطان، وقيل هما كل معبود من دون الله أو مطاع في معصية الله، وقيل هما صنمان كانا لقريش وهما اللذان سجد اليهود لهما لمرضاة قريش.
وأصل الجبت الجبس وهو الذي لا خير فيه فأبدلت التاء من السين قاله قطرب، وقيل إبليس والطاغوت أولياؤه، وعن قطن ابن قبيصة عن أبيه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: العيافة والطيرة والطرق من الجبت أخرجه أبو داود (1)، وقال الطرق الزجر والعيافة الخط.
وقيل العيافه هي زجر الطير، والطرق هو ضرب الحجارة والحمى على طريق الكهانة، والطيرة هو أن يتطير بالشيء فيرى الشؤم فيه والشر منه، وقيل هو من التطيّر وهو زجر الطير، والخط هو ضرب الرمل لاستخراج الضمير.
(ويقولون) أي اليهود (للذين كفروا) كأبي سفيان وأصحابه، واللام للتبليغ أو للعلة كنظائرها (هؤلاء) أي أنتم (أهدى من الذين آمنوا) بمحمد (سبيلاً) أي أقوم دينا وأرشد طريقاً.
(1) وروى ابن جرير 8/ 466 عن ابن عباس، قال: لما قدم كعب بن الأشرف مكة، قالت له قريش: أنت خير أهل المدينة وسيدهم؟ قال: نعم. قالوا: ألا ترى إلى هذا الصنبور المنبتر من قومه، يزعم أنه خير منا، ونحن أهل الحجيج، وأهل السًدانة، وأهل السقاية؟ قال: أنتم خير منه. قال: فأنزلت: (إن شانئك هو الأبتر)[الكوثر: 3] وأنزلت (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت) إلى قوله: (فلن تجد له نصيراً) وإسناده صحيح. وزاد السيوطي نسبته في " الدر " 2/ 171 لأحمد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
وقولهم: " ألا ترى إلى هذا الصنبور الأبتر " في " النهاية " الصنبور: سعفات تنبت في جذع النخلة، لا في الأرض، ثم قالوا: للرجل الفرد الضعيف الذليل الذي لا أهل له ولا عقب ولا ناصر " صنبور ".
(أولئك) القائلون (الذين لعنهم الله) أي طردهم وأبعدهم من رحمته (ومن يلعن الله فلن تجد له نصيراً) يدفع عنه ما نزل به من عذاب الله وسخطه، وفي الآية وعد للمؤمنين بأنهم المنصورون عليهم فإن المؤمنين بضد هؤلاء فهم الذين قرّبهم الله ومن يقربه الله فلن تجد له خاذلاً.
أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55)
(أم لهم نصيب من الملك فإذاً لا يؤتون الناس نقيراً) أم منقطعة والاستفهام للإنكار يعني ليس لهم نصيب من الملك، والفاء للسببية الجزائية لشرط محذوف أي إن جعل لهم نصيب فإذن لا يعطون نقيراً منه لشدة بخلهم وقوة حسدهم.
وهذا ذم لهم بالبخل بعد أن ذمهم بالجهل، لعدم جريهم على مقتضى العلم، وسيأتي ذمهم بالحسد، والأول قوة عملية والثاني علمية، والأول مقدم كما بينه الفخر، وقيل المعنى بل لهم نصيب من الملك على أن معنى أم الإضراب عن الأول والاستئناف للثاني، وقيل التقدير أهم أولى بالنبوة ممن أرسلته أم لهم نصيب، الآية.
والنقير النقطة والنقرة في ظهر النواة، وقيل ما نقر الرجل بأصبعه كما ينقر الأرض، والنقير أيضاً خشبة تنقر وينبذ فيها.
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النقير كما ثبت في الصحيحين وغيرهما، والنقير الأصل يقال فلان كريم النقير أي كريم الأصل، والمراد هنا المعنى الأول والمقصود به المبالغة في الحقارة كالقطمير والفتيل، والنقير يضرب به المثل في الشيء الحقير التافه الذي لا قيمة له، وفي القلة والحقارة.
وإذن هنا ملغاة غير عاملة لدخول فاء العطف عليها، ولو نصب لجاز قال سيبويه: إذن في عوامل الأفعال بمنزلة أظن في عوامل الأسماء التي تلغى إذا
لم يكن الكلام معتمداً عليها، فإن كانت في أول الكلام وكان الذي بعدها مستقبلاً نصبت.
(أم) منقطعة مفيدة للانتقال عن توبيخهم بأمر إلى توبيخهم بآخر أي بل (يحسدون الناس) يعني اليهود يحسدون النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقط فهو عام أريد به الخاص وأطلق عليه لفظ الناس لأنه جمع كل الخصال الحميدة التي تفرقت في الناس على حد قول القائل: أنت الناس كل الناس أيها الرجل.
وليس على الله بمستنكر
…
أن يجمع العالم في واحد
أو يحسدونه هو وأصحابه وأصل الحسد تمنى زوال النعمة عمن هو مستحق لها، وربما يكون ذلك مع سعي في زوالها وهو أقبح مما قبلها لأن البخل منع لما في أيديهم، والحسد منع لما عقد الله واعتراض عليه، والاستفهام للإنكار أي لا ينبغي ذلك.
(على ما آتاهم الله من فضله) من النبوة والنصر وقهر الأعداء، وقيل حسدوه على ما أحل الله له من النساء، وكانت له يومئذ تسع نسوة والأول أولى.
(فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة) هذا إلزام لليهود بما يعترفون به ولا ينكرونه وهو مسلّم عندهم أي ليس ما آتينا محمداً وأصحابه من فضلنا بأبدع حتى تحسدهم اليهود على ذلك فهم يعلمون بما آتينا آل إبراهيم وهم أسلاف محمد صلى الله عليه وسلم وأبناء أعمامه.
وفيه حسم لمادة حسدهم واستبعادهم المبنيّين على توهم عدم استحقاق الحسود ما أوتيه من الفضل ببيان استحقاقه له بطريق الوراثة كابراً عن كابر،
وإجراء الكلام على سنن الكبرياء بطريق الالتفات لإظهار كمال العناية بالأمر، وقد تقدّم تفسير الكتاب والحكمة يعني التوراة والنبوة وقد حصل في آل إبراهيم جماعة كثيرة جمعوا بين الملك والنبوة مثل داود وسليمان.
(وآتيناهم ملكاً عظيماً) فلم يشغلهم ذلك عن أمر النبوة، ومن فسر الفضل بكثرة النساء قال: الملك العظيم في حق داود وسليمان بكثرة النساء، فإنه كان لداود مائة امرأة ولسليمان ألف امرأة ثلثمائة حرة وسبعمائة سرية، ولم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ إلا تسع نسوة، وقيل هو ملك سليمان واختاره ابن جرير وهو الأولى (1).
(1) قال ابن جرير 8/ 479: وأولى التأويلين في ذلك بالصواب قول قتادة وابن جريج الذي ذكرناه قبل، أن معنى " الفصل " في هذا الموضع: النبوة التي فضل الله بها محمداً، وشرف بها العرب، إذ آتاها رجلاً منهم دون غيرهم، لما ذكرنا من أن دلالة ظاهر هذه الآية تدل على أنها تقريظ للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، رحمة الله عليهم، على ما قد بينا قبل، وليس النكاح وتزويج النساء -وإن كان من فضل الله جل ثناؤه الذي آتاه عباده- بتقريظ لهم ومدح.
(فمنهم) أي من اليهود (من آمن به) أي النبي صلى الله عليه وسلم كعبد الله بن سلام وأصحابه، وقيل الضمير في به راجع إلى ما ذكر من حديث آل إبراهيم، وقيل الضمير راجع إلى إبراهيم، والمعنى فمن آل إبراهيم من آمن بإبراهيم (ومنهم من صدّ) أعرض (عنه) ولم يؤمن. وقيل الضمير يرجع إلى الكتاب، والأول أولى (وكفى بجهنم سعيراً) أي ناراً مسعّرة لمن لا يؤمن. وهو إشارة لقياس طويت فيه الكبرى أي هؤلاء صدوا عنه ومن صد عنه كفى بجهنم سعيراً لهم، ينتج هؤلاء كفى بجهنم سعيراً لهم.