الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا
(115)
(ومن يشاقق الرسول) المشاقة المعاداة والمخالفة (من بعد ما تبيّن) أي وضح وظهر (له الهدى) بأن يعلم صحة الرسالة بالبراهين الدالة على ذلك ثم يفعل المشاقة (ويتبع غير سبيل المؤمنين) أي غير طريقهم وهو ما هم عليه من دين الإسلام والتمسك بأحكامه في الاعتقاد والعمل والقول (نوّله ما تولّى) أي نجعله والياً لما تولاه واختاره من الضلال بأن نخلي بينه وبينه في الدنيا ونتركه وما اختاره لنفسه.
(ونصله) أي نلزمه وندخله في الآخرة، وأصله من الصلّى وهو لزوم النار وقت الاستدفاء (جهنم وساءت مصيراً) مرجعاً هي، وقد استدل جماعة من أهل العلم بهذه الآية على حجية الإجماع لقوله (ويتبع غير سبيل المؤمين).
ولا حجة في ذلك عندي لأن المراد بغير سبيل المؤمنين هنا هو الخروج من دين الإسلام إلى غيره كما يفيده اللفظ ويشهد به السبب، فلا يصدق على عالم من علماء هذه الملة الإسلامية اجتهد في بعض مسائل الدين فأداه اجتهاده إلى مخالفة من بعصره من المجتهدين، فإنه إنما رام السلوك في سبيل المؤمنين وهو الدين القويم والملة الحنيفية، ولم يتبع غير سبيلهم.
وقد أخرج الترمذي والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " لا يجمع الله هذه الأمة على الضلالة أبداً، ويد الله على الجماعة فمن شذَّ شذ في النار "، (1) وأخرجه الترمذي والبيهقي أيضاً عن ابن عباس مرفوعاً.
(1) الترمذي كتاب الفتن/7.
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً بَعِيدًا (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117)
(إن الله لا يغفر أن يشرك به) هذا نص صريح بأن الشرك غير مغفور إذا مات صاحبه عليه لقوله (قل للذين كفروا) الآية (ويغفر ما دون ذلك) أي ما دون الشرك (لمن يشاء) من أهل التوحيد وهذه المشيئة فيمن لم يتب من ذنوبه من الموحدين فإن شاء غفر له وإن شاء عذبه.
(ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالاً بعيداً) أي ذهب عن طريق الهدى وحرم الخير كله إذا مات على شركه، لأن الشرك أعظم أنواع الضلال وأبعدها من الصواب والاستقامة، كما أنه افتراء وإثم عظيم ولذلك جعل الجزاء في هذه الشرطية (فقد ضل) وفيما سبق (فقد افترى إثماً عظيماً) حسبما يقتضيه سياق النظم الكريم وسياقه.
وفي السمين ختمت الآية المتقدمة بقوله فقد افترى وهذه بقوله فقد ضل لأن الأولى في شأن أهل الكتاب وهم عندهم علم بصحة نبوته وأن شريعته ناسخة لجميع الشرائع، ومع ذلك فقد كابروا في ذلك وافتروا على الله، وهذه في شأن قوم مشركين. ليس لهم كتاب ولا عندهم علم، فناسب وصفهم بالضلال.
وأيضاً قد تقدم هنا ذكر الهدى وهو ضد الضلال اهـ.
وقد تقدم تفسير هذه الآية وتكريرها بلفظها في موضعين من هذه السورة للتأكيد وقيل كررت هنا لأجل قصة بني أبيرق، وقيل: إنها نزلت هنا بسبب غير قصة بني أبيرق وهو ما رواه الثعلبي والقرطبي في تفسيريهما عن الضحاك أن
شيخاً من الأعراب جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني شيخ منهمك في الذنوب والخطايا إلا أني لم أشرك بالله شيئاً مذ عرفته وآمنت به، ولم اتخذ من دونه ولياً ولم أوقع المعاصي جرأة على الله ولا مكابرة له وإني لنادم وتائب ومستغفر فما حالي عند الله فأنزل الله تعالى هذه الآية أخرجه الترمذي، عن علي أنه قال ما في القرآن آية أحب إلي من هذه الآية قال الترمذي حسن غريب.
(إن يدعون من دونه إلا إناثاً) تعليل لما قبلها أي ما يدعون من دون الله إلا أصناماً لها أسماء مؤنثة كاللات والعزى ومناة قاله أبي بن كعب، وقيل المراد بالإناث الأموات التي لا روح لها كالخشبة والحجر، قاله ابن عباس، قال الزجاج: الموات كلها يخبر عنها كما يخبر عن المؤنث تقول هذه الحجر تعجبني، وهذه الدرهم تنفعني وقد يطلق الأنثى على الجمادات.
وقيل المراد بالإناث الملائكة لقولهم الملائكة بنات الله قال الضحاك: اتخذوهن أرباباً وصوروهن صور الجواري فحلوا وقلدوا وقالوا هؤلاء يشبهن بنات الله الذي نعبده يعنون الملائكة، وقرىء إلا وثناً بضم الواو والثاء جمع وثن، رويت هذه عن عائشة، وقرأ ابن عباس: إلا أثناً جمع وثن أيضاً وقرأ الحسن إلا أنثاً جمع أنيث كغدير وغدر، وحكى الطبري أنه جمع أناث كثمار وثمر.
وعلى جميع هذه القراآت فهذا الكلام خارج مخرج التوبيخ للمشركين والإزراء عليهم، والتضعيف لعقولهم لكونهم عبدوا من دون الله نوعاً ضعيفاً، وقال الحسن: كان لكل حي من أحياء العرب صنم يعبدونها يسمونها أنثى بني فلان فأنزل الله هذه الآية.
(وإن) ما (يدعون) من دون الله (إلا شيطاناً مريداً) وهو إبليس لعنه الله، لأنهم إذا أطاعوه فيما سوّل لهم فقد عبدوه، وتقدم اشتقاق لفظ الشيطان والمريد المتمرد العاتي من مرد إذا عتا، قال الأزهري: المريد الخارج عن الطاعة وقد مرد الرجل مروداً إذا عتا وخرج عن الطاعة فهو مارد ومريد ومتمرد.
وقال ابن عرفة: هو الذي ظهر شره يقال شجرة مرداء إذا تساقط ورقها وظهرت عيدانها، ومنه قيل للرجل أمرد أي ظاهر مكان الشعر من عارضيه، وقال ابن عباس: لكل صنم شيطان يدخل في جوفه ويتراءى للسدنة والكهنة ويكلمهم والأول أولى.
لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119)
(لعنه الله) قيل مستأنفة وقيل دعاء عليه، أصل اللعن الطرد والإبعاد، وقد تقدم تفسيره وهو في العرف إبعاد مقترن بسخط (وقال لأتخذن من عبادك نصيباً مفروضاً) معطوف على قوله لعنه الله والجملتان صفة لشيطان أي شيطاناً مريداً جامعاً بين لعنة الله له وبين هذا القول الشنيع، أو حال على إضمار قد أي وقد قال، أو استئناف، ولأتخذن جواب قسم محذوف، والنصيب المفروض هو المقطوع المقدر أي لأجعلن قطعة مقدرة من عباد الله تحت غوايتي وفي جانب إضلالي حتى أخرجهم من عبادة الله إلى الكفر به.
عن مقاتل بن حيان قال هذا إبليس يقول من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة، وعن الربيع بن أنس مثله.
قلت: وهذا صحيح معنى ويعضد، قوله تعالى لآدم يوم القيامة أخرج من ذريتك بعث النار فيقول يا رب وما بعث النار؟ فيقول الله تعالى أخرج من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين فعند ذلك تشيب الأطفال من شدة الهول، أخرجه مسلم.
فنصيب الشيطان هو بعث النار، والمعنى لأتخذن منهم حظاً مقدراً معلوماً فكل ما أطيع فيه إبليس فهو نصيبه ومفروضه، وأصل الفرض القطع، وهذا النصيب هم الذين يتبعون خطواته ويقبلون وساوسه.
(ولأضلّنّهم) اللام جواب قسم محذوف، والإضلال الصرف عن طريق الهداية إلى طريق الغواية والمراد به التزيين والوسوسة وإلا فليس إليه من الإضلال شيء، قال بعضهم لو كان الإضلال إلى إبليس لأضلّ جميع الخلق وهكذا اللام في قوله (ولأمنينهم) والمراد بالأماني التي يمنيهم بها الشيطان هي الأماني الباطلة الناشئة عن تسويله ووسوسته قال ابن عباس يريد تسويف التوبة وتأخيره.
قال الكلبي: أمنيهم أنه لا جنة ولا نار ولا بعث، وقيل إدراك الجنة مع المعاصي وقيل أُزيّن لهم ركوب الأهواء والأهوال الداعية إلى العصيان وقيل طول البقاء في الدنيا ونعيمها ليؤثروها على الآخرة، ولا مانع من حمل اللفظ على الجميع.
(ولآمرنَّهم فليبتكنّ آذان الأنعام) أي ولآمرنهم بتبتيك آذانها أي تقطيعها فليبتكنها بموجب أمري والبتك القطع ومنه سيف باتك يقال بتكة وبتكة مخففاً ومشدداً، وقد فعل الكفار ذلك امتثالاً لأمر الشيطان واتباعاً لرسمه فشقوا آذان البحائر والسوائب (1) كما ذلك معروف، قال قتادة: التبتيك في البحيرة والسائبة يبتكون آذانها لطواغيتهم (ولآمرنّهم فليغيرنَّ خلق الله) بموجب أمري لهم.
واختلف العلماء في هذا التغيير ما هو فقالت طائفة: هو الخصي وفقء العين وقطع الأذن، وقال آخرون: إن المراد هو أن الله سبحانه خلق الشمس والقمر والأحجار والنار ونحوها من المخلوقات لما خلقها له فغيرها الكفار بأن جعلوها آلهة معبودة وبه قال الزجاج، وقيل المراد تغيير الفطرة التي فطر الله
(1) البحيرة هي الناقة تشق أذنها وتخلى للطواغيت إذا ولدت خمسة أبطن آخرها ذكر والسائبة هي الناقة تسيب للأصنام لنحو برء من مرض أو نجاة في حرب.
الناس عليها وقيل نفي الأنساب واستلحاقها أو بتغير الشيب بالسواد أو بالتحريم والتحليل أو بالتخنث أو بتغيير دين الإسلام، ولا مانع من حمل الآية على جميع هذه الأمور حملاً شمولياً أو بدلياً.
وقد رخص طائفة من العلماء في خصي البهائم إذا قصد بذلك زيادة الانتفاع به لسمن أو غيره، وكره ذلك آخرون وأما خصي بني آدم فحرام، وقد كره قوم شراء الخصي، قال القرطبي: لم يختلفوا أن خصي بني آدم لا يحل ولا يجوز وأنه مثلة، وتغيير لخلق الله، وكذلك قطع سائر أعضائهم في غير حد ولا قود قاله أبو عمرو بن عبد البر.
أخرج ابن أبي شيبة والبيهقي عن ابن عمر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن خصي البهائم والخيل، وأخرج ابن المنذر والبيهقي عن ابن عباس قال نهى صلى الله عليه وسلم عن صبر الروح وإخصاء البهائم.
وعن ابن عباس فليغيرنّ خلق الله قال دين الله، وعن الضحاك وسعيد ابن جبير مثله، وعن الحسن قال الوشم ووصل الشعر، وهذه الجمل الخمسة المحكية عن اللعين مما نطق به لسانه مقالاً أو حالاً، وما فيها من اللامات الخمس للقسم كما تقدم.
(ومن يتخذ الشيطان وليّاً من دون الله) باتباعه وامتثال ما يأمر به وإيثار ما يدعو إليه من دون اتباع لا أمر الله به ولا امتثال له، وقيل الولي من الموالاة وهو الناصر (فقد خسر) بتضييع رأس ماله الفطري (خسراناً مبيناً) أي واضحاً ظاهراً لأن طاعة الشيطان توصله إلى نار جهنم المؤبدة عليه وهي غاية الخسران.
يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً (122)
(يعدهم) المواعيد الباطلة كطول العمر (ويمنّيهم) الأماني العاطلة في الدنيا، عطف خاص للاهتمام، (وما يعدهم الشيطان) أي بما يوقعه في خواطرهم من الوساوس الفارغة (إلا غروراً) يغرهم به ويظهر لهم فيه النفع وهو ضرر محض، قال ابن عرفه: الغرور ما رأيت له ظاهراً تحبه وله باطن مكروه وهذه الجملة اعتراضية.
(أولئك) إشارة إلى أولياء الشيطان بمراعاة معنى (من) وهذا مبتدأ وقوله (مأواهم) مبتدأ ثان وقوله (جهنم) خبر للثاني والجملة خبر للأول (ولا يجدون عنها محيصاً) أي معدلاً من حاص يحييص، وقيل منجًى ومخلصاً ومحيداً ومهرباً وقيل الحيص هو الروغان بنفور والمحيص اسم مكان أو مصدر.
(الذين آمنوا وعملوا الصالحات) بيان لوعد الله المؤمنين عقب بيان وعد الشيطان للكافرين (سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار) أي من تحت المساكن والغرف (خالدين فيها أبداً) بلا انتهاء ولا غاية، والأبد عبارة عن مدة الزمان الممتد الذي لا انقطاع له.
(وعد الله حقاً) قال في الكشاف مصدران الأول مؤكد لنفسه والثاني مؤكد لغيره، ووجهه أن الأول مؤكد لمضمون الجملة الاسمية ومضمونها وعد، والثاني مؤكد لغيره أي حق ذلك حقاً (ومن أصدق من الله قيلاً) هذه الجملة مؤكده لما قبلها، والقيل مصدر قال كالقول والقال والاستفهام بمعنى النفي أي لا أحد أصدق قولاً من الله عز وجل، وقيل إن قيلاً اسم لا مصدر، وإنه منتصب على التمييز قاله ابن السكيت.
لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)
(ليس) دخول الجنة أو الفضل أو القرب من الله أو الأمر منوطاً (بأمانيّكم ولا أمانيّ أهل الكتاب) بل بالعمل الصالح والإيمان كما يدل على ذلك سبب نزول الآية، وقيل الضمير يعود إلى ما وعد الله وهو بعيد، ومن أماني أهل الكتاب قولهم لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى، وقولهم (نحن أبناء الله وأحباؤه) وقولهم (لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة).
وعن مسروق قال: تفاخر النصارى وأهل الإسلام فقال هؤلاء نحن أفضل منكم، وقال هؤلاء نحن أفضل منكم، فنزلت، وقد ورد معنى هذه الرواية من طرق كثيرة مختصرة ومطولة، والأماني جمع أمنية أفعولة من التمنية، والتمني تقدير الشيء في النفس وتصويره فيها والأمنية هي الصورة الحاصلة في النفس، وقيل الخطاب للمسلمين ولليهود والنصارى وقيل لمشركي مكة في قولهم لا نبعث ولا نحاسب.
(من يعمل سوءاً يجز به) قال الحسن: هذا في حق الكفار، ولا وجه له، وقال ابن عباس: هي عامة في كل من عمل سوءاً.
وفي هذه الجملة ما ترجف له القلوب من الوعيد الشديد وقد كان لها في صدور المسلمين عند نزولها موقع عظيم كما ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث أبي هريرة قال لما نزلت (من يعمل سوءاً يجز به) بلغت من المسلمين مبلغاً شديداً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قاربوا وسددوا ففي كل ما يصاب به المسلم
كفارة حتى النكبة ينكبها والشوكة يشاكها (1).
أخرج عبد بن حميد والترمذي وابن المنذر عن أبي بكر الصديق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له لما نزلت هذه الآية: أما أنت وأصحابك يا أبا بكر فتجزون بذلك في الدنيا حتى تلقوا الله ليس لكم ذنوب، وأما الآخرون فيجمع لهم ذلك حتى يجزوا به يوم القيامة (2).
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة وأبي سعيد أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا سقم ولا حزن حتى الهمّ يهمّه إلا كفّر الله به من سيآته (3) وقد ورد في هذا المعنى أحاديث كثيرة (ولا يجد له من دون الله) أي غيره (ولياً) يحفظه (ولا نصيراً) يمنعه منه.
(1) مسلم 2574.
(2)
ضعيف الجامع 1335.
(3)
مسلم 2573 والبخاري 2235.
(ومن يعمل مِنَ) من للتبعيض أي بعض (الصالحات) وهي الفرائض قاله ابن عباس، وقال الطبري من زائدة عند قوم وهو ضعيف لأن المكلف لا يطيق عمل كل الصالحات، حال كونه (من ذكر أو أنثى وهو مؤمن) أي حال كونه مؤمناً، والحال الأولى لبيان من يعمل، والحال الأخرى لإفادة اشتراط الإيمان في كل عمل صالح، وفيه إشارة إلى أن الأعمال ليست من الإيمان.
(فأولئك) إشارة إلى العامل المتصف بالإيمان، قرىء (يدخلون الجنة) على البناء للمجهول وللمعلوم والجمع باعتبار معنى (من) كما أن الإفراد فيما سبق باعتبار لفظها (ولا يظلمون نقيراً) أي قدر النقير وهو النقرة في ظهر النواة ومنها تنبت النخلة، وهذا على سبيل المبالغة في نفي الظلم ووعد بتوفية جزاء أعمالهم من غير نقصان، كيف والمجازي أرحم الراحمين.
وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً (125) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126)
(ومن) أي لا أحد فهو استفهام إنكاري (أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن) أي أخلص نفسه له حال كونه محسناً أي عاملاً للحسنات، وقيل معنى أسلم فوض أمره إلى الله، وقال ابن عباس: هو محسن يريد هو موحد لله عز وجل لا يشرك به شيئاً، وإنما خص الوجه بالذكر لأنه أشرف الأعضاء فإذا انقاد لله فقد انقاد له جميع الأعضاء لأنها تابعة له.
(واتبع ملة إبراهيم حنيفاً) أي اتبع دين إبراهيم حال كون المتبع مائلاً عن الأديان الباطلة إلى دين الحق وهو الإسلام، وخص إبراهيم للاتفاق على مدحه حتى من اليهود والنصارى (واتخذ الله إبراهيم خليلاً) أي جعله صفوة له وخصه بكراماته، وفيه إظهار في مقام الإضمار لتفخيم شأنه، والتنصيص على أنه متفق على مدحه.
وفائدة هذه الجملة تأكيد وجوب اتباع ملته لأن من بلغ من الزلفى عند الله أن اتخذه خليلاً كان جديراً بأن يتبع ملته، قال ثعلب إنما سمي الخليل خليلاً لأن محبته تتخلل القلب فلا تدع فيه خللاً إلا ملأته، وخليل فعيل بمعنى فاعل كالعليم بمعنى العالم، وقيل هو بمعنى المفعول كالحبيب بمعنى المحبوب، وقد كان إبراهيم عليه السلام محبوباً لله ومحباً له، وقيل الخليل من الاختصاص، فالله سبحانه اختص إبراهيم برسالته في ذلك الوقت واختاره لها، واختار هذا النحاس.
قال الزجاج: معنى الخليل الذي ليس في محبته خلل، أخرج الحاكم
وصححه عن جندب أنه سمِع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول قبل أن يتوفى: " إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً (1) " وأخرج الحاكم أيضاً وصححه عن ابن عباس قال: أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم والكلام لموسى والرؤية لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم (2)، وفي تعريف الخلة والسبب الذي من أجله اتخذ الله إبراهيم خليلاً أقوال ذكرها أهل التفسير (3).
(1) المستدرك 2/ 550.
(2)
المستدرك 2/ 469.
(3)
روى عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال: " يا جبريل لم أتخذ الله إبراهيم خليلاً؟ قال: " لإطعامه الطعام " - رواه السيوطي في الدر 20/ 230 ونسبه للبيهقي في شعب الإيمان.
وفي رواية أن الناس أصابتهم سنة فأقبلوا إلى باب إبراهيم عليه السلام يطلبون الطعام، وكانت له ميرة
من صديق له بمصر في كل سنة.
فبعث غلمانه بالإبل إلى صديقه فلم يعطهم شيئاً، فقالوا: لو احتملنا من هذه البطحاء ليرى الناس أنا قد جئنا بميرة فملؤوا الغرائر رملاً، ثم أتوا إبراهيم عليه السلام فاعلموه، فاهتم إبراهيم لأجل الخلق، فنام وجاءت سارة وهي لا تعلم ما كان ففتحت الغرائر فإذا دقيق حواري فأمرت الخبازين فخبزوا، وأطعموا الناس، فاستيقظ إبراهيم فقال من أين هذا الطعام فقالت: من عند خليلك المصري فقال: لا بل من عند خليلي الله عز وجل فيومئذ أتخذ الله خليلاً انتهى. قال ابن كثير وفي صحيحه هذا ووقوعه نظر وغايته أن يكون خبراً إسرائيلياً لا يصدق ولا يكذب.
(ولله ما في السموات وما في الأرض) ملكاً وخلقاً وعبيداً، فيه إشارة إلى أنه سبحانه اتخذ إبراهيم خليلاً لطاعته لا لحاجته ولا للتكثر به والاعتضاد بمخاللته، وإنما قال (ما) ولم يقل (من) لأنه ذهب به مذهب الجنس والذي يعقل إذا ذكر وأريد به الجنس ذكر بلفظ (ما) قيل مستأنفة لتقرير وجوب طاعة الله وقيل لبيان أن الخلة لا تخرج إبراهيم عن رتبة العبودية.
(وكان الله بكل شيء محيطاً) هذه الجملة مقررة لمعنى الجملة التي قبلها أي أحاط بكل شيء علماً وقدرة لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.