الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا
(56)
وقوله (إن الذين كفروا) تقرير لهذا وبيان لكيفية عذابهم وعذاب جميع من كفر (بآياتنا) الظاهر عدم تخصيصه ببعض الآيات دون بعض (سوف) كلمة تذكر للتهديد، قاله سيبويه وتنوب عنها السين (نصليهم) أي ندخلهم (ناراً) يحترقون فيها.
(كلما نضجت) أي احترقت (جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها) أي أعطيناهم مكان كل جلد محترق جلداً آخر غير محترق، فإن ذلك أبلغ في العذاب للشخص لأن إحساسه لعمل النار في الجلد الذي لم يحترق أبلغ من إحساسه لعملها في الجلد المحترق.
وقيل المراد بالجلود السرابيل التي ذكرها الله في قوله (سرابيلهم من قطران) ولا موجب لترك المعنى الحقيقي ههنا، وإن جاز إطلاق الجلود على السرابيل مجازاً، وقيل المعنى أعدنا الجلد الأول جديداً، ويأبى ذلك معنى التبديل، قال ابن عمر: يبدلون جلوداً بيضاء أمثال القراطيس.
وقال معاذ: تبدل في ساعة مائة مرة فقال عمر هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرجه الطبراني بسند ضعيف، والبغوي بغير سند. وقال كعب عشرين ومائة مرة وعن ابن مسعود أن غلظ جلد الكافر إثنان وأربعون ذراعاً وقال الحسن، تأكلهم النار في كل يوم سبعين ألف مرة.
(ليذوقوا العذاب) أي ليحصل لهم الذوق الكامل لذلك التبديل ويقاسوا شدته، وقيل معناه ليدوم لهم العذاب ولا ينقطع (إن الله كان عزيزاً) في انتقامه ممن ينتقم من خلقه لا يغلبه شيء ولا يمنع عليه أحد (حكيماً) في تدبيره وقضائه وأنه لا يفعل إلا ما هو الصواب.
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلاً (57) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)
ثم أتبع وصف حال الكفار بوصف حال المؤمنين فقال
(والذين آمنوا وعملوا الصالحات) وهو لف ونشر مشوّش على حد قوله (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) وعلى عادته تعالى من ذكر الوعيد مع الوعد وعكسه (سندخلهم) أي يوم القيامة (جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً) قد تقدم تفسير الجنات وجري الأنهار من تحتها، وذلك الخلود بغير نهاية ولا انقطاع وليس المراد طول المكث.
(لهم فيها أزواج مطهّرة) من الأدناس التي تكون في نساء الدنيا ومن كل قذر وسوء الخلق (وندخلهم ظلاً ظليلاً) الظل الظليل الذي لا يدخله ما يدخل ظل الدنيا من الحر والسموم ونحو ذلك، وقيل هو مجموع ظل الأشجار والقصور. وقيل الظل الظليل هو الدائم الذي لا يزول، واشتقاق الصفة من لفظ الموصوف للمبالغة كما يقال ليل أليل، قال الربيع بن أنس: هو ظل العرش الذي لا يزول، وقيل هو ظل الجنة والأول أولى.
(إنّ الله يأمركم أن تؤدّوا الأمانات إلى أهلها) هذه الآية من أمهات الآيات المشتملة على كثير من أحكام الشرع، لأن الظاهر أن الخطاب يشمل جميع الناس قاطبة في جميع الأمانات، وقد روى عن علي وزيد بن أسلم وشهر ابن حوشب أنها خطاب لولاة المسلمين والأول أظهر، ووُرودها على سبب كما سيأتي لا ينافي ما فيها من العموم فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما تقرر في الأصول.
قال الواحدي: أجمع المفسرون عليه، انتهى، ويدخل الولاة في هذا الخطاب دخولاً أولياً فيجب عليهم تأدية ما لديهم من الأمانات ورد الظلامات، وتحري العدل في أحكامهم، ويدخل غيرهم من الناس في الخطاب فيجب عليهم رد ما لديهم من الأمانات والتحري في الشهادات والأخبار.
وممن قال بعموم هذا الخطاب البراء بن عازب وابن مسعود وابن عباس وأُبيُّ ابن كعب، واختاره جمهور المفسرين ومنهم ابن جرير، وأجمعوا على أن الأمانات مردودة إلى أربابها الأبرار منهم والفجار كما قال ابن المنذر.
والأمانات جمع أمانة وهي مصدر بمعنى المفعول.
ْوقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة وقبض مفتاح الكعبة من عثمان بن طلحة فنزل جبريل عليه السلام بردّ المفتاح فدعا النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن طلحة فرده إليه وقرأ هذه الآية (1).
وعن ابن جريج أن هذه الآية نزلت في عثمان بن طلحة لما قبض منه صلى الله عليه وآله وسلم مفتاح الكعبة فدعاه ودفعه إليه. وقال هاك خالدة تالدة أي مستمرة إلى آخر الزمان قديمة متأصلة، وقد روى هذا المعنى بطرق كثيرة.
وأخرج أبو داود والترمذي والحاكم والبيهقي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " أدّ الأمانة لمن ائتمنك ولا تخن من خانك (2) "، وقد ثبت في الصحيح أن من خان إذا اؤتمن ففيه خصلة من خصال النفاق (3).
(1) قال السيوطي في " الدر المنثور " 2/ 174: أخرجه ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح، عن ابن عباس مطولاً. قلت: والكلبي وأبو صالح ضعيفان لا يحتج بهما.
(2)
قال ابن كثير في تفسير الآية: يخبر تعالى أنه يأمر بأداء الأمانات إلى أهلها، وفي حديث الحسن عن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك " رواه الإمام أحمد وأهل السنن.
(3)
صحيح الجامع الصغير 16.
(وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) هو فصل الحكومة على ما في كتاب الله سبحانه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لا الحكم بالرأي المجرد، فإن ذلك ليس من الحق في شيء إلا إذا لم يوجد دليل تلك الحكومة في كتاب الله ولا في سنة رسوله فلا بأس باجتهاد الرأي من الحاكم الذي يعلم بحكم الله ورسوله، وبما هو أقرب إلى الحق عند عدم وجود النص.
وأما الحاكم الذي لا يدري بحكم الله ورسوله ولا بما هو أقرب إليهما فهو لا يدري ما هو العدل لأنه لا يعقل الحجة إذا جاءته، فضلاً عن أن يحكم بها بين عباد الله.
عن علي قال: حق على الإمام أن يحكم بما أنزل وأن يؤدي الأمانة فإذا فعل ذلك فحق على الناس أن يسمعوا له وأن يطيعوا وأن يجيبوا إذا دعوا وأصل العدل هو المساواة في الأشياء، فكل ما خرج عن الظلم والاعتداء سمّي عدلاً.
قيل: ينبغي العدل بين الخصمين في خمسة أشياء في الدخول عليه والجلوس بين يديه والإقبال عليهما والاستماع منهما والحكم بالحق فيما لهما وعليهما فيجب على الحاكم أن يأخذ الحق ممن وجب عليه لمن وجب له، ويكون مقصوده بحكمه إيصال الحق إلى مستحقّه، وأن لا يمتزج ذلك بغرض آخر، وقد ورد في فضل العادلين من الولاة أحاديث.
(إنّ الله نعمّا يعظكم به) أي نعم الشيء الذي يعظكم به وهو أداء، الأمانات والحكم بالعدل على وفق السنة والكتاب دون الرأي البحت والعقل الصرف تقليداً للأحبار والرهبان من غير حجة نيّرة وبرهان واضح (إن الله كان سميعاً بصيراً) فإذا حكمتم فهو يسمع حكمكم، وإذا أديتم الأمانة فهو يبصر فعلكم.