الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
(6)
(يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة) أي إذا أردتم القيام تعبيراً بالسبّب عن السبب كما في قوله (وإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله) لأن القيام متسبب عن الإرادة والإرادة سببه، والمراد بالقيام الاشتغال بها والتلبس بها من قيام أو غيره.
وقد اختلف أهل العلم في هذا الأمر عند إرادة القيام إلى الصلاة فقالت طائفة هو عام في كل قيام إليها سواء كان القائم متطهراً أو محدثاً فإنه ينبغي له إذا قام إلى الصلاة أن يتوضأ وهو مروي عن علي وعكرمة، وهذا القول يقتضي وجوب الوضوء عند كل صلاة وهو ظاهر الآية، وإليه ذهب داود الظاهري، قال ابن سيرين: كان الخلفاء يتوضؤن لكل صلاة.
وقال طائفة أخرى: إن هذا الأمر خاص بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو ضعيف، فإن الخطاب للمؤمنين والأمر لهم، وقالت طائفة: الأمر للندب طلباً للفضل، وقال آخرون إن الوضوء لكل صلاة كان فرضاً عليهم بهذه الآية ثم نسخ في فتح مكة.
وقال جماعة: هذا الأمر خاص بمن كان محدثاً، وقال آخرون: المراد إذا قمتم من النوم إلى الصلاة فيعم الخطاب كل قائم من نوم، وقد أخرج أحمد ومسلم وأهل السنن عن بريدة قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتوضأ عند كل صلاة فلما كان يوم الفتح توضأ ومسح على خفيه وصلى الصلوات بوضوء واحد، فقال له عمر: يا رسول الله إنك فعلت شيئاً لم تكن تفعله فقال: عمداً فعلته يا عمر، وهو مروي من طرق كثيرة بألفاظ متفقة في المعنى (1).
وأخرج البخاري وأحمد وأهل السنن عن عمرو بن عامر الأنصاري سمعت أنس بن مالك يقول: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتوضأ عند كل صلاة قال: قلت فأنتم كيف كنتم تصنعون؟ قال: كنا نصلي الصلوات بوضوء واحد ما لم نحدث.
فتقرر بما ذكر أن الوضوء لا يجب إلا على المحدث، وبه قال جمهور أهل العلم وهو الحق، وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق أربع صلوات بوضوء واحد، وفي الباب أحاديث، والتقدير إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم على غير طهر، وهذا أحد اختصارات القرآن وهو كثير جداً.
وفروض الوضوء في هذه الآية أربعة: الأول قوله: (فاغسلوا وجوهكم) الوجه في اللغة مأخوذ من المواجهة وهو عضو مشتمل على أعضاء وله طول وعرض، فحدُّه في الطول من مبتدأ سطح الجبهة إلى منتهى اللَّحيَين، وفي العرض من الأذن إلى الأذن، وقد ورد الدليل بتخليل اللحية، واختلف العلماء في غسل ما استرسل، والكلام في ذلك مبسوط في مواطنه.
(1) مسلم/277.
وقد اختلف أهل العلم أيضاً هل يعتبر في الغسل الدلك باليد أم يكفي إمرار الماء والخلاف في ذلك معروف، والمرجع اللغة العربية فإن ثبت فيها أن الدلك داخل في مسمى الغسل كان معتبراً وإلا فلا.
قال في شمس العلوم: غسل الشيء غسلاً إذا أجرى عليه الماء ودلكه انتهى.
وأما المضمضة والإستنشاق فإذا لم يكن لفظ الوجه يشمل باطن الفم والأنف فقد ثبت غسلهما بالسنة الصحيحة، والخلاف في الوجوب وعدمه معروف، وقد أوضح الشوكاني ما هو الحق في مؤلفاته.
وقد استدل الشافعي على وجوب النية عند غسل الوجه بهذه الآية وبقوله: إنما الأعمال بالنيات (1) لأن الوضوء مأمور به وكل مأمور به يجب أن يكون منويّاً، ويدل له قوله تعالى:(وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) والإخلاص عبارة عن النية الصالحة.
واستدل أبو حنيفة بها لعدم وجوب النية فيه لأن الله أوجب غسل الأربعة في هذه الآية ولم يجب النية فيها فإيجابها زيادة على النص وهي نسخ، ولا يجوز نسخ القرآن بخبر الواحد وبالقياس.
والجواب أن إيجابها بدلالة القرآن كما تقدم، والجواب عن الزيادة والنسخ قد ذكرناه في حصول المأمول فليرجع إليه.
والفرض الثاني قوله: (وأيديكم إلى المرافق) إلى للغاية وأما كون ما بعدها يدخل فيما قبلها فمحل خلاف، وقد ذهب سيبويه وجماعة إلى أن ما
(1) البخاري 11 مسلم/1907.
بعدها إن كان من نوع ما قبلها دخل وإلا فلا، ويعزى لأبي العباس، وقيل إنها بمعنى (مع) وذهب قوم إلى أنها تفيد الغاية مطلقاً، وأما الدخول وعدمه فأمر يدور مع الدليل.
وقيل إن ما بعدها لا يدخل فيما قبلها، قال سليمان الجمل وهو الأصح عند النحاة انتهى، وهذه الأقوال دلائلها في كتاب شرح التسهيل.
وقد ذهب الجمهور إلى أن المرافق تغسل واستدلوا بما أخرجه الدارقطني والبيهقي عن جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه (1)، وفيه القاسم وهو متروك وجده عبد الله بن محمد وهو ضعيف، والمرفق بالكسر هو من الإنسان أعلى الذراع وأسفل العضد.
والفرض الثالث (وامسحوا برؤوسكم) قيل الباء زائدة والمعنى امسحوا رؤوسكم وذلك يقتضي تعميم المسح لجميع الرأس، وقيل هي للتبعيض وذلك يقتضي أنه يجزئ مسح بعضه، واستدل القائلون بالتعميم بقوله تعالى في التيمم:(فامسحوا بوجوهكم) ولا يجزئ فيه مسح بعض الوجه اتفاقاً، وقيل إنها للإلصاق أي ألصقوا أيديكم برؤوسكم وهو مذهب سيبويه وبه قال الزمخشري لكن في شرح المهذب عن جماعة من أهل العربية أن الباء إذا دخلت على متعدد كما في الآية تكون للتبعيض، أو على غير متعدد كما في (وليطّوفوا بالبيت) تكون للإلصاق.
وعلى كل حال فقد ورد في السنة المطهرة ما يفيد أنه يكفي مسح بعض الرأس كما أوضحناه في مؤلفاتنا، فكان هذا دليل على المطلوب، غير محتمل كاحتمال الآية على فرض أنها محتملة.
(1) الدارقطني 1/ 83.
ولا شك أن من أمر غيره بأن يمسح رأسه كان ممتثلاً بفعل ما يصدق عليه مسمى المسح، وليس في لغة العرب ما يقتضي أنه لا بد في مثل هذا الفعل من مسح جميع الرأس، وهكذا سائر الأفعال المتعدية نحو اضرب زيد أو اطعنه أو ارجمه فإنه يوجد المعنى العربي بوقوع الضرب والطعن والرجم على عضو من أعضائه.
ولا يقول قائل من أهل اللغة أو من هو عالم بها: إنه لا يكون ضارباً إلا بإيقاع الضرب على كل جزء من أجزاء زيد، وكذلك الطعن والرجم وسائر الأفعال فاعرف هذا حتى يتبين لك ما هو الصواب من الأقوال في مسح الرأس.
فإن قلت يلزم مثل هذا في غسل الوجه واليدين والرجلين قلت ملتزم لولا البيان من السنة في الوجه والتحديد بالغاية في اليدين والرجلين بخلاف الرأس فإنه ورد في السنة مسح الكل ومسح البعض.
والفرض الرابع قوله (وأرجلكم) قرأ نافع وابن عامر والكسائي وحفص بنصب الأرجل وهي قراءة الحسن البصري والأعمش، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة بالجر، وقراءة النصب تدل على أنه يجب غسل الرجلين لأنها معطوفة على الوجه، وإلى هذا ذهب جمهور العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم والأئمة الأربعة وأصحابهم، وقراءة الجر تدل على أنه يجوز الاقتصار على مسح الرجلين لأنها معطوفة على الرأس، وإليه ذهب ابن جرير الطبري وبه تعلق وهو مروي عن ابن عباس.
قال ابن العربي: واتفقت الأمة على وجوب غسلهما وما علمت من رد ذلك إلا الطبري من فقهاء المسلمين، والرافضة من غيرهم، وقيل إنه منصوب في المعنى عطفاً على الأيدي المغسولة، وإنما خفض على الجوار، وهذا وإن كان
وارداً إلا أن التخريج عليه ضعيف لضعف الجوار من حيث الجملة.
وأيضاً فإن الخفض على الجوار إنما ورد في النعت لا في العطف، وقد ورد في التوكيد قليلاً في ضرورة الشعر، وقيل إنها إنما جرت للتنبيه على عدم الإسراف في استعمال الماء فيها لأنها مظنة لصب الماء كبيراً فعطفت على الممسوح والمراد غسلها، وإليه ذهب الزمخشري.
وقيل إنها مجرورة بحرف جر، دل عليه المعنى ويتعلق هذا الحرف بفعل محذوف تقديره وافعلوا بأرجلكم غسلاً، قال أبو البقاء وحذف حرف الجر وإبقاء الجر جائز، وقيل إنه معطوف على رؤوسكم لفظاً ومعنى ثم نسخ ذلك وجوب الغسل وهو حكم باق، وبه قال جماعة أو يحمل مسح الأرجل على بعض الأحوال وهو لبس الخف، ويعزى للشافعي.
قال القرطبي: قد روي عن ابن عباس أنه. قال: الوضوء غسلتان ومسحتان، قال: وكان عكرمة يمسح رجليه وقال: ليس في الرجلين غسل إنما نزل فيهما المسح، وقال عامر الشعبي: نزل جبريل بالمسح، قال: وقال قتادة: افترض الله غسلتين ومسحتين، قال: وذهب ابن جرير الطبري والحسن البصري إلى أن فرضهما التخيير بين الغسل والمسح وجعل القراءتين كالروايتين، وقواه النحاس، وقال داود الظاهري يجب الجمع بينهما.
أقول الحق أن الدليل القرآني قد دل على جواز الغسل والمسح لثبوت قراءة النصب والجر ثبوتاً لا ينكر، وقد تعسف القائلون بالغسل فحملوا الجر على الجوار وأنه ليس للعطف على مدخول الباء في مسح الرأس بل هو معطوف على الوجوه، فلما جاور المجرور إنجر، وتعسف القائلون بالمسح فحملوا قراءة النصب على العطف على محل الجار والمجرور في قوله:(برؤوسكم) كما أن قراءة الجر عطف على لفظ المجرور.
وكل ذلك ناشئ عن عدم الإنصاف عند عروض الاختلاف، ولو وجد أحد القائلين بأحد التأويلين اسماً مجروراً في رواية ومنصوباً في أخرى مما يتعلق به الاختلاف ووجد قبله منصوباً لفظاً ومجروراً لما شك أن النصب عطف على المنصوب، والجر عطف على المجرور.
وإذا تقرر لك هذا كان الدليل القرآني قاضياً بمشروعية كل واحد منهما على انفراده لا على مشروعية الجمع بينهما. وإن قال به قائل فهو من الضعف بمكان لأن الجمع بين الأمرين لم يثبت في شيء من الشريعة.
انظر الأعضاء المتقدمة على هذا العضو من أعضاء الوضوء فإن الله سبحانه شرع في الوجه الغسل فقط، وكذلك في اليدين، وشرع في الرأس المسح فقط، ولكن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد بين للأمة أن المفروض عليهم هو غسل الرجلين لا مسحهما فتواترت الأحاديث عن الصحابة في حكاية وضوئه صلى الله عليه وسلم وكلها مصرحة بالغسل ولم يأت في شيء منها المسح إلا في مسح الخفين.
فإن كانت الآية مجملة في الرجلين باعتبار احتمالها للغسل والمسح فالواجب الغسل بما وقع منه صلى الله عليه وسلم من البيان المستمر جميع عمره.
وإن كان ذلك لا يوجب الإجماع فقد ورد في السنة الأمر بالغسل وروداً ظاهراً وثبت بالأحاديث الصحيحة من فعله صلى الله عليه وسلم وقوله غسل الرجلين فقط وثبت عنه أنه قال: " ويل للأعقاب من النار وويل للعراقيب من النار "(1) أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة، وأحمد وابن ماجة من حديث عائشة، وابن ماجة أيضاً من حديث جابر، والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة من حديث ابن عمر، وأحمد والبخاري ومسلم أيضاً من حديث أبي هريرة.
(1) مسلم 242 والبخاري 132.
فأفاد وجوب غسل الرجلين وأنه لا يجزئ مسحهما لأن شأن المسح أن يصيب ما أصاب ويخطئ ما أخطا ولا سيما المواضع الخفية كالأعقاب والعراقيب، فلو كان مجزئاً لما قال ويل للأعقاب من النار، ولما وقع منه صلى الله عليه وسلم ذلك.
وقد ثبت عنه أنه قال بعد أن توضأ وغسل رجليه: " هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به "(1) أخرجه الطبراني من حديث معاوية بن قرة عن أبيه عن جده، والدارقطني من حديث ابن عمر وأبي هريرة وزيد بن ثابت وابن ماجة من حديث ابن عمرو وأُبَيّ بن كعب، وابن السكن من حديث أنس، وابن أبي حاتم من حديث عائشة، وفي جميع الطرق المذكورة مقال، لكنها يقوي بعضها بعضاً.
وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره أن رجلاً توضأ فترك على قدمه مثل موضع الظفر فأبصره النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: ارجع فأحسن وضوءك فخرج وتوضأ ثم صلى (2).
ومن ذلك أيضاً أحاديث الأعرابي الذي أمره النبي صلى الله عليه وسلم بإعادة الوضوء لما رأى عقبه جافاً يلوح، ومنها الأمر بتخليل الأصابع فإنه يستلزم الأمر بالغسل لأن المسح لا تخليل فيه.
وبهذا يتقرر أن الحق ما ذهب إليه الجمهور من وجوب الغسل وعدم إجزاء المسح، وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على غسل القدمين وأما المسح على الخفين فهو ثابت بالأحاديث المتواترة وهو بدل عن الغسل لا عن المسح.
(1) الدارقطني 1/ 80.
(2)
مسلم 343.
(إلى الكعبين) أي معهما كما بينت السنة، والكلام فيه كالكلام في قوله:(إلى المرافق) وقد قيل في وجه جمع المرافق وتثنية الكعاب أنه لما كان في كل رجل كعبان ولم يكن في كل يد إلا مرفق واحد ثنيت الكعاب تنبيهاً على أن لكل رجل كعبين بخلاف المرافق فإنها جمعت لأنه لما كان في كل يد مرفق واحد لم يتوهم وجود غيره، ذكر معنى هذا ابن عطية.
وقال الكواشي: ثنّى الكعبين، وجمع المرافق لنفي توهم أن كل واحدة من الرجلين كعبين، وإنما في كل واحدة كعب واحد له طرفان من جانبي الرجل، بخلاف المرفق فهي أبعد عن الوهم انتهى.
وفي هذه الآية دليل قاطع على وجوب غسل الكعبين، والمعنى أغسلوا أرجلكم مع الكعبين والكعبان هما العظمان الناتئان في كل رجل عند مفصل الساق والقدم، وإليه ذهب جمهور العلماء من أهل اللغة والفقه، وهذان العظمان من الساق.
وبقي من فرائض الوضوء النية والتسمية ولم يذكرا في هذه الآية بل وردت بهما السنة، وقيل إن في هذه الآية ما يدل على النية لأنه لما قال إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم كان تقدير الكلام فاغسلوا وجوهكم لها، وذلك هو النية المعتبرة، وقد أشرنا إليه فيما تقدم.
والفصل بين الأيدي والأرجل المغسولة بالرأس الممسوح يفيد، وجوب الترتيب في طهارة هذه الأعضاء وعليه الشافعي، ويؤخذ من السنة وجوب النية فيه كغيره من العبادات، وقد ورد في صفة الوضوء وفضله من الأحاديث الصحيحة الكثير الطيب لا نطول بذكرها هنا.
(وإن كنتم جنباً فاطهروا) أي فاغسلوا بالماء، وقد ذهب عمر بن
الخطاب وابن مسعود إلى أن الجنب لا يتيمم ألبتة بل يدع الصلاة حتى يجد الماء استدلالاً بهذه الآية، وذهب الجمهور إلى وجوب التيمم للجنابة مع عدم الماء، وهذه الآية هي للواجد على أن التطهر هو أعم من الحاصل بالماء أو بما هو عوض عنه مع عدمه وهو التراب.
وقد صح عن عمر وابن مسعود الرجوع إلى ما قاله الجمهور للأحاديث الصحيحة الواردة في تيمم الجنب مع عدم الماء. وقد تقدم تفسير الجنب في النساء، والمراد بالجنابة هي الحاصلة بدخول حشفة أو نزول مني، وهذا هو حقيقتها الشرعية، وانظر لِمَ لَمْ يجعلوها شاملة للحيض والنفاس مع أنه أفيد.
وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا اغتسل من الجنابة بدأ فغسل يديه ثم يفرغ بيمينه على شماله فيغسل فرجه ثم يتوضأ كما يتوضأ للصلاة ثم يدخل أصابعه في الماء يخلل بها أصول شعره ثم يصب على رأسه ثلاثة غرفات بيديه ثم يفيض على سائر جسده، أخرجه الشيخان (1).
(وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لمستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه).
(1) روى مسلم 1/ 209، وأبو داود 1/ 80، والنسائي 1/ 92، والترمذي 1/ 78، وابن ماجه 1/ 159 عن عقب: بن عامر قال: كانت علينا رعاية الإبل، فجاءت نوبتي فروحتها بعشي، فأدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً يحدث الناس، فأدركت من قوله:" ما من مسلم يتوضأ فيحسن وضوءه، ثم يقوم فيصلي ركعتين، مقبل عليهما بقلبه ووجهه إلا وجبت له الجنة " فقلت: ما أجود هذه! فإذا قائل بين يدي يقول: التي قبلها أجود، فنظرت فإذا عمر، قال: إن قد رأيتك جئت آنفاً، قال:" ما منكم من أحدٍ يتوضأ فيبلغ أو فيسبغ، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبد الله وروسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء " وزاد الترمذي بعد قوله " ورسوله "" اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين " وسندها حسن. وروى مالك 1/ 32، ومسلم 1/ 215، والترمذي 1/ 6 عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرجت من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء أو مع آخر قطر الماء.
قد تقدم تفسير هذا وأحكامه في سورة النساء مستوفى، ومن في قوله منه لابتداء الغاية وقيل للتبعيض، قيل ووجه تكرير هذا هو استيفاء الكلام في أنواع الطهارة، وفيه دليل على أنه يجب مسح الوجه واليدين بالصعيد وهو التراب.
(ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج) أي ما يريد بأمركم بالطهارة بالماء أو بالتراب التضييق عليكم في الدين ومنه قوله تعالى: (وما جعل عليكم في الدين من حرج) والجعل هنا بمعنى الإيجاد والخلق، ومن مزيدة فيه أو بمعنى التصيير.
ثم قال: (ولكن يريد ليطهركم) من الذنوب والخطايا لأن الوضوء تكفير لها وقيل من الحدث الأصغر والأكبر (وليتم نعمته عليكم) أي بالترخيص لكم والتيمم عند عدم الماء أو بما شرعه لكم من الشرائع التي عرضكم بها للثواب وما تحتاجون إليه من أمر دينكم، قال سعيد بن جبير: تمام النعمة دخول الجنة، لم يتم نعمته على عبد لم يدخل الجنة (لعلكم تشكرون) نعمته عليكم فتستحقون بالشكر ثواب الشاكرين.
وقد اشتملت هذه الآية على سبعة أمور كلها مثنى، طهارتان أصل وبدل والأصل اثنان مستوعب وغير مستوعب، وغير المستوعب باعتبار الفعل غسل ومسح، وباعتبار المحل محدود وغير محدود، وإن آلتيهما مائع جامد، وموجبهما حدث أصغر أو أكبر، وأن المبيح للعدول إلى البدل مرض أو سفر، وأن الموعود عليها تطهير الذنوب وإتمام النعمة قاله البيضاوي وذكره أبو السعود.
قال الخفاجي: الأصل الماء والبدل التراب والمستوعب الغسل وغيره الوضوء والمحدود بقوله: (إلى المرافق وإلى الكعبين) وغيره ما سواه وهذا ظاهر.
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)
(واذكروا نعمة الله عليكم) يعني ما أنعم به عليكم من النعم كلها وقيل هي الإسلام (وميثاقه الذي واثقكم به) الميثاق العهد قيل المراد به هنا ما أخذه على بني آدم كما قال: (وإذا أخذ ربك من بني آدم) الآية قال مجاهد وغيره ونحن وإن لم نذكره فقد أخبرنا الله به، وقيل هو خطاب لليهود والعهد ما أخذه عليهم في التوراة.
وذهب جمهور المفسرين من السلف فمن بعدهم إلى أنه العهد الذي أخذه النبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقب: عليهم وهو السمع والطاعة في المنشط والمكره، وأضافه تعالى إلى نفسه لأنه عن أمره وإذنه كمال قال: إنما يبايعون الله.
(إذ قلتم) للنبي صلى الله عليه وسلم حين بايعتموه (سمعنا وأطعنا) أي وقت قولكم هذا القول (واتقوا الله) فيما أخذه عليكم من الميثاق فلا تنقضوه (إن الله عليم بذات الصدور) وهي ما تخفيه الصدور لكونها مختصة بها لا يعلمها أحد ولهذا أطلق عليها ذات التي بمعنى الصاحب، وإذا كان سبحانه عالماً بها فكيف بما كان ظاهراً جلياً.
(يا أيها الذين آمنوا كونوا قوّامين) قد تقدم تفسيرها في النساء وصيغة المبالغة في قوامين تفيد أنهم مأمورون بأن يقوموا بها أتم قيام (لله) أي
لأجله تعظيماً لأمره وطمعاً في ثوابه (شهداء بالقسط) أي العدل.
(ولا يجرمّنكم شنآن قوم) أي لا يحملنكم بغض قوم أو يكسبنكم وهما متقاربان، وقيل الخطاب مختص بقريش لأنها نزلت فيهم وعليها يجري القاضي كالكشاف وغيرهما على أن الخطاب عام وهو الحق لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، قال عبد الله بن كثير نزلت في يهود خيبر ذهب إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يستعينهم في دية فهمّوا أن يقتلوه فذلك قوله:(ولا يجرمنكم شنآن قوم) الآية (1).
(على أن لا تعدلوا) أي على ترك العدل فيهم لعداوتهم وكتم الشهادة، وقد تقدم الكلام على ذلك مستوفى (اعدلوا) أمر بالعدل في كل أحد القريب والبعيد والصديق والعدو، وتصريح بوجوبه بعدما علم من النهي عن تركه التزاماً (هو) أي العدل المدلول عليه بقوله اعدلوا (أقرب للتقوى) التي أمرتم بها غير مرة أي أقرب لأن تتقوا الله أو لأن تتقوا النار (واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون).
(1) أخرجه ابن جرير 10/ 96 عن عبد الله بن كثير.
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
(وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات) أي وفوا بالعهود، والعموم أولى (لهم مغفرة وأجر عظيم) هذه الجملة في محل النصب على أنها المفعول الثاني لقوله:(وعد) على معنى وعدهم أن لهم مغفرة أو وعدهم مغفرة، فوقعت الجملة موقع المفرد فأغنت عنه، وذكر الجمل والزمخشري في الآية احتمالات أخر لا نطوّل بذكرها، وإذا وعدهم أنجز لهم الوعد فإنه تعالى لا يخلف والميعاد الأجر العظيم هو الجنة.
(والذين كفروا وكذّبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم) أي ملابسوها، والجملة مستأنفة أتى بها اسمية دالة على الثبوت والاستقرار، ولم يؤت بها في سياق الوعيد كما أتى بالجملة قبلها في سياق الوعد حسماً لرجائهم، وهذه الآية نص قاطع في أن الخلود في النار ليس إلا للكفار، لأن المصاحبة تقتضي الملازمة.
(يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ همَّ قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم) يعني بالقتل والبطش بكم، يقال بسط إليه يده إذا بطش به، وبسط إليه لسانه إذا شتمه، وذكر الهم للإيذان بوقوعها عند مزيد الحاجة إليها.
(فكفّ أيديهم عنكم) أي صرفهم عنكم وحال بينكم وبين ما أرادوه
بكم، أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر، والبيهقي في الدلائل عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل منزلاً فتفرق الناس في العضاه يستظلون تحتها فعلق النبي صلى الله عليه وسلم سلاحه بشجرة، فجاء أعرابي إلى سيفه فأخذه وسلة ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من يمنعك مني؟ قال: الله، قال الأعرابي مرتين أو ثلاثاً: من يمنعك مني، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: الله، فشام الأعرابي السيف فدعا النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فأخبرهم بصنيع الأعرابي وهو جالس إلى جنبه لم يعاقبه، قال معمر: وكان قتادة يذكر نحوه ويذكر أن قوماً من العرب أرادوا أن يفتكوا بالنبي صلى الله عليه وسلم فأرسلوا هذا الإعرابي (1).
وأخرج الحاكم وصححه عنه بنحوه، وذكر أن اسم الرجل غورث بن الحرث، وأنه لما قال النبي صلى الله عليه وسلم " الله " سقط السيف من يده فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم وقال من يمنعك مني، قال: كن خير آخذ، قال: فشهد أن لا إله إلا الله.
وأخرج أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس أن بني النضير همّوا أن يطرحوا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن معه، فجاء جبريل فأخبره بما هموا فقام ومن معه فنزلت إذ همّ قوم، وقصة الأعرابي وهو غورث ثابتة في الصحيح.
(واتقوا الله) فيما أمركم به ونهاكم عنه (وعلى الله) لا على غيره (فليتوكل المؤمنون) فإنه هو الذي ينقب عن أحوال القوم ويفتش عنها.
(1) رواه أبو نعيم في " دلائل النبوة ": 152 عن طريق ابن إسحاق قال: حدثني عمرو بن عبيد عن جابر أن رجلاً
…
وقد سقط من إسناده الحسن، فقد رواه ابن هشام في " السيرة " 2/ 205 عن ابن إسحاق وحدثني عمرو بن عبيد عن الحسن عن جابر بن عبد الله، ورواه عبد الرزاق في " تفسيره " ص: 6 من طريق معمر عن الزهري ذكره عن أبي سلمة عن جابر. وقصة هذا الأعرابي -هو غورث بن الحارث- ثابتة في " الصحيحين " بدون ذكر السبب، البخاري 7/ 330، ومسلم 1/ 576.