المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

(لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ - فتح البيان في مقاصد القرآن - جـ ٣

[صديق حسن خان]

الفصل: (لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ

(لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ‌

(166)

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالاً بَعِيدًا (167))

(لكن الله يشهد بما أنزل إليك) هذا الاستدراك من محذوف مقدر كأنهم قالوا ما نشهد لك يا محمد بهذا أي الوحي والنبوة فنزل (لكن الله يشهد) وشهادة الله إنما عرفت بسبب أنه أنزل هذا القرآن البالغ في الفصاحة والبلاغة إلى حيث عجز الأولون والآخرون عن المعارضة والإتيان بمثله فكان ذلك معجزاً، وإظهار المعجزة شهادة بكون المدعي صادقاً لا جرم قال الله تعالى ذلك.

(أنزله بعلمه) جملة حالية أي متلبساً بعلمه الذي لا يعلمه غيره من كونك أهل لما أصطفاك الله له من النبوة وأنزله عليك من القرآن واستعدادك لاقتباس الأنوار القدسية، وفيه نفي قول المعتزلة في إنكار الصفات فإنه أثبت لنفسه العلم، وقيل العلم هنا بمعنى المعلوم أي بمعلومه مما يحتاج إليه الناس في معاشهم ومعادهم.

(والملائكة يشهدون) بأن الله أنزله عليك ويشهدون بتصديقك، وإنما عرفت شهادة الملائكة لأن الله تعالى إذا شهد بشيء شهدت الملائكة به (وكفى بالله شهيداً) على صحة نبوتك حيث نصب لها معجزات باهرة وحججاً ظاهرة مغنية عن الاستشهاد بغيرها وإن لم يشهد معه أحد.

وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم عن شهادة أهل الكتاب له، وشهادة الله سبحانه هي ما نصبه من المعجزات الدالة على صحة النبوة فإن وجود هذه المعجزات شهادة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بصدق ما أخبر به

ص: 304

من هذا أو غيره، عن ابن عباس قال: دخل جماعة من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال لهم: إنّي والله أعلم أنكم تعلمون أني رسول الله، قالوا: ما نعلم ذلك فأنزل الله هذه الآية (1).

(1) سيرة ابن هشام 2/ 211 وابن جرير 9/ 49 عن ابن عباس قال: دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من يهود، فقال لهم:" إني لأعلم والله أنكم لتعلمون أني رسول الله " فقالوا: ما نعلم ذلك، فأنزل الله عز وجل:. (لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيداً) وزاد السيوطي نسبته في " الدر " 2/ 248 إلى ابن المنذر، والبيهقي في " الدلائل ". قلت: وفي سنده محمد مولى زيد بن ثابت وهو مجهول كما تقدم.

تفسير ابن كثير 1/ 589.

ص: 305

(إن الذين كفروا) بالله وبكل ما يجب الإيمان به أو بهذا الأمر الخاص، وهو ما في هذا المقام (وصدّوا) الناس (عن سبيل الله) وهو دين الإسلام بإنكارهم نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبقولهم ما نجد صفته في كتابنا وإنما النبوة في ولد هارون وداود، وبقولهم إن شرع موسى لا ينسخ.

(قد ضلّوا ضلالاً بعيداً) عن الحق والصواب بما فعلوا لأنهم مع كفرهم منعوا غيرهم عن الحق، فجمعوا بين الضلال والإضلال ولأن المضل يكون أغرق في الضلال وأبعد من الانقطاع منه.

ص: 305

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170)

ص: 306

(إن الذين كفروا) بجحدهم (وظلموا) غيرهم بصدهم عن السبيل أو ظلموا محمداً: كتمانهم نبوته أو ظلموا أنفسهم بكفرهم، ويجوز الحمل على جميع هذه المعاني (ولم يكن الله ليغفر لهم) إذا استمروا على كفرهم وماتوا كافرين (ولا ليهديهم طريقاً) من الطرق

ص: 306

(إلا طريق جهنم) لكونهم اقترفوا ما يوجب لهم ذلك بسوء اختيارهم وفرط شقائهم وجحدوا الواضح وعاندوا البيّن أي يدخلهم جهنم، والاستثناء متصل لأنه من جنس الأول والأول عام لأنه نكرة في سياق النفي وإن أريد به طريق خاص أي عمل صالح، فالاستثناء منقطع قاله الكرخي.

(خالدين فيها) وهي حال مقدرة (أبداً) منصوب على الظرفية توكيد خالدين وهو لدفع احتمال أن الخلود هنا يراد به المكث الطويل (وكان ذلك) أي تخليدهم في جهنم أو ترك المغفرة لهم والهداية مع الخلود في جهنم (على الله يسيراً) لأنه سبحانه لا يصعب عليه شيء من مراداته إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون.

ص: 306

(يا أيها الناس) خطاب عام يدخل فيه جميع الكفار من اليهود والنصارى وعبدة الأصنام وغيرهم، وقيل هو خطاب لمشركي مكة والعبرة بمفهوم اللفظ وهو عام (قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم) أي محمد صلى الله عليه وسلم بدين الإسلام الذي ارتضاه الله لعباده، أو بالقرآن الذي هو الحق من عند

ص: 306

ربكم وهو تكرير للشهادة وتقرير لحقيَّة المشهود به، وتمهيد لما بعده من الأمر بالإيمان.

(فآمنوا) قال سيبويه والخليل أي اقصدوا أو آتوا (خيراً لكم) وقال الفراء: فآمنوا إيماناً خيراً لكم، وقال أبو عبيدة والكسائي: فآمنوا يكن الإيمان خيراً لكم، وأقوى هذه الأقوال الثالث ثم الأول ثم الثاني على ضعف فيه.

(وإن تكفروا) أي وإن تستمروا على كفركم وتجحدوا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وتُكذّبوا بما جاءكم به من الحق (فإن لله ما في السموات والأرض) من مخلوقاته وأنتم من جملتهم، ومن كان خالقاً لكم ولها فهو قادر على مجازاتكم بقبيح أفعالكم.

ففي هذه الجملة وعيد لهم مع إيضاح وجه البرهان وإماطة الستر عن الدليل بما يوجب عليهم القبول والإذعان، لأنهم يعترفون بأن الله خالقهم (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولنّ الله) وهو يعم ما اشتملتا عليه وما تركبتا منه (وكان الله عليماً) بمن يؤمن ومن يكفر (حكيماً) لا يسوي بينهما في الجزاء.

ص: 307

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً (171)

ص: 308

(يا أهل الكتاب) قيل نزلت في النصارى وقيل فيهم وفي اليهود (لا تغلوا في دينكم) الغلوّ هو التجاوز في الحد، ومنه غلا السعر يغلو غلاء وغلا الرجل في الأمر غلواً، وغلا بالجارية لحمها وعظمها إذا أسرعت الشباب فتجاوزت لداتها، والمراد بالآية النهي لهم عن الإفراط تارة والتفريط أخرى.

فمن الإفراط غلوّ النصارى في عيسى حتى جعلوه رباً، ومن التفريط غلو اليهود فيه عليه السلام حتى جعلوه لغير رشدة، وما أحسن قول الشاعر:

ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد

كلا طرفي قصد الأمور ذميم

(ولا تقولوا على الله إلا الحق) وهو ما وصف به نفسه ووصفته به رسله، ولا تقولوا الباطل كقول اليهود عزيز ابن الله وقول النصارى المسيح ابن الله، وهذا الاسثناء مفرغ (إنما المسيح عيسى ابن مريم) الجملة تعليل للنهي، وقد تقدم الكلام على المسيح في آل عمران والمعنى ليس له نسب غير هذا، وأنه (رسول الله) فمن زعم غير هذا فقد أشرك وكفر.

(وكلمته) أي كونه بقوله كن فكان بشراً من غير أب، وقيل كلمته بشارة الله مريم ورسالته إليها على لسان جبريل بقوله (إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه) وقيل الكلمة هاهنا بمعنى الآية ومنه (وصدّقت

ص: 308

بكلمات ربها) وقوله ما نفدت كلمات الله (ألقاها إلى مريم) أي أوصلها إليها (وروح) أي ذو روح (منه) وسمي روحاً لأنه حصل من الريح الحاصل من نفخ جبريل، أي أرسل جبريل فنفخ في جيب درع مريم فحملت بإذن الله، وهذه الإضافة للتفضيل والتشريف وإن كان جميع الأرواح من خلقه تعالى.

وقيل قد يسمى من تظهر منه الأشياء العجيبة روحاً ويضاف إلى الله فيقال هذا روح من الله أي من خلقه كما يقال في النعمة أنها من الله.

وقيل روح منه أي من خلقه كما قال تعالى (وسخّر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه) أي من خلقه، وقيل رحمة منه، وقيل برهان منه، وكان عيسى برهاناً وحجة على قومه.

والمعنى روح كائنة منه وجعلت الروح منه سبحانه وإن كانت بنفخ جبريل لكونه تعالى الآمر لجبريل بالنفخ، والمعنى ليس هو كما زعمتم ابن الله وإلهاً معه أو ثالث ثلاثة لأن ذا الروح مركّب، والإله منزه عن التركيب وعن نسبة المركّب إليه.

وعن أبي موسى أن النجاشي قال لجعفر: ما يقول صاحبك في ابن مريم؟ قال: يقول فيه قول الله، هو روح الله وكلمته أخرجه من البتول العذراء لم يقربها بشر، فتناول عوداً من الأرض فرفعه فقال يا معشر القسيسين والرهبان ما يزيد هؤلاء على ما تقولون في ابن مريم ما يزن هذه.

وعن ابن مسعود بأطول من هذا. وأخرج البخاري عن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله (1).

(1) صحيح الجامع 7240.

ص: 309

وعن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبده ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان له من العمل أخرجه الشيخان (1).

(فآمنوا بالله ورسله) أي بأنه سبحانه إله واحد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد؛ وبأن رسله صادقون مبلّغون عن الله ما أمرهم بتبليغه، ولا تكذبوهم ولا تغلوا فيهم فتجعلوا بعضهم آلهة (ولا تقولوا ثلاثة) قال الزجاج أي لا تقولوا آلهتنا ثلاثة.

وقال الفراء وأبو عبيد أي لا تقولوا هم ثلاثة كقوله سيقولون ثلاثة، وقال أبو علي الفارسي: لا تقولوا هو ثالث ثلاثة فحذف المبتدأ والمضاف، والنصارى مع تفرّق مذاهبهم متفقون على التثليث، ويعنون بالثلاثة الثلاثة الأقانيم فيجعلونه سبحانه جوهراً واحداً وله ثلاثة أقانيم ويعنون بالأقانيم أقنوم الوجود وأقنوم الحياة وأقنوم العلم، وإنما يعبرون عن الأقنانيم بالأب والابن وروح القدس، فيعنون بالأب الوجود وبالروح الحياة وبالابن المسيح، وقيل المراد بالآلهة الثلاثة الله سبحانه وتعالى ومريم والمسيح.

وقد اختبط النصارى في هذا اختباطاً طويلاً، ووقفنا في الأناجيل الأربعة التي يطلق عليها اسم الإنجيل عندهم على اختلاف كثير في عيسى، فتارة يوصف بأنه ابن الإنسان وتارة يوصف بأنه ابن الله وتارة يوصف بأنه ابن الرب، وهذا تناقض ظاهر وتلاعب بالدين.

والحق ما أخبرنا الله به في القرآن، وما خالفه في التوراة والإنجيل أو الزبور فهو من تحريف المحرفين وتلاعب المتلاعبين.

(1) صحيح الجامع 6196.

ص: 310

ومن أعجب ما رأيناه أن الأناجيل الأربعة كل واحد منها منسوب إلى واحد من أصحاب عيسى عليه السلام، وحاصل ما فيها جميعاً أن كل واحد من هؤلاء الأربعة ذكر سيرة عيسى من عند أن بعثه الله إلى أن رفعه الله، وذكر ما جرى له من المعجزات والمراجعات لليهود ونحوهم، فاختلفت ألفاظهم، واتفقت معانيها، وقد يزيد بعضهم على بعض بحسب ما يقتضيه الحفظ والضبط، وذكر ما قاله عيسى وقيل له، وليس فيها من كلام الله سبحانه شيء ولا أنزل على عيسى من عنده كتاباً، بل كان عيسى عليه السلام يحتج عليهم بما في التوراة ويذكر أنه لم يأت بما يخالفها.

وهكذا الزبور فإنه من أوله إلى آخره من كلام داود عليه السلام.

وكلام الله أصدق وكتابه أحقّ، وقد أخبرنا أن الإنجيل كتابه أنزله على عبده ورسوله عيسى ابن مريم وأن الزبور كتابه آتاه داود: وأنزله عليه.

(انتهوا خيراً لكم) أي انتهوا عن التثليث ولا تقولوا الآلهة ثلاثة وانتصاب خيراً هنا فيه الوجوه الثلاثة التي تقدمت في قوله فآمنوا خيراً لكم.

(إنّما الله إله واحد) لا شريك له ولا صاحبة ولا ولد (سبحانه) أي أسبحه تسبيحاً عن (أن يكون له ولد) لأن الولد جزء من الأب، وهو متعال عن التجزئة وصفات الحدوث ولكن جعلوا له من عباده جزءاً إن الإنسان لكفور.

(له ما في السموات وما في الأرض) ملكاً وخلقاً وعبيداً، وما جعلتموه له شريكاً أو ولداً هو من جملة ذلك والمملوك المخلوق لا يكون شريكاً ولا ولداً (وكفى بالله وكيلاً) مستقلاً بتدبير خلقه يكل الخلق أمورهم إليه، لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً فلا حاجة إلى ولد يعينه، وقيل شهيداً على ذلك.

ص: 311

لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173)

ص: 312

(لن يستنكف) أي لا يتكبر ولا يأنف (المسيح) الذي زعمتم إنه إله عن (أن يكون عبداً لله) أصل يستنكف نكف، وباقي الحروف زائدة، يقال نكفت من الشيء واستنكفت منه وأنكفته أن نزّهته عما يستنكف منه.

قال الزجاج: استنكف أي أنف مأخوذ من نكفت الدمع إذا نحيته بإصبعك عن خديك، وقيل هو من النّكف وهو العيب يقال ما عليه في هذا الأمر نكف ولا وكف أي عيب، ومعنى الأول لن يأنف عن العبودية ولن يتنزه عنها، ومعنى الثاني لن يعيب العبودية ولن ينقطع عنها.

(ولا الملائكة المقربون) أي ولن يستنكف حملة العرش وأفاضل الملائكة مثل جبريل وغيره عن أن يكونوا عباداً لله، وهذا من أحسن الاستطراد، ذكر للردّ على من زعم أنها آلهة أو بنات الله كما رد بما قبله على النصارى الزاعمين ذلك المقصود خطابهم.

وقد استدل بهذا القائلون بتفضيل الملائكة على الأنبياء، وقرر صاحب الكشاف وجه الدلالة بما لا يسن ولا يغني من جوع، وادعى أن الذوق قاض بذلك، ونعم الذوق العربي إذا خالطه محبة المذهب، وشابه شوائب الجمود كان هكذا.

ص: 312

وكلّ من يفهم لغة العرب يعلم أنّ من قال: لا يأنف من هذه المقالة إمام ولا مأموم أو لا كبير ولا صغير أو لا جليل ولا حقير لم يدل هذا على أن المعطوف أعظم شأناً من المعطوف عليه، وعلى كل حال فما أبرد الاشتغال بهذه المسئلة وما أقل فائدتها وما أبعدها عن أن تكون مركزاً من المراكز الدينية وجسراً من الجسور الشرعية.

(ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر) أي يأنف تكبراً ويعد نفسه كبيراً على العبادة (فسيحشرهم إليه جميعاً) المستنكف وغيره فيجازي كلاًّ بعمله، لا يملكون لأنفسهم شيئاً، وترك ذكر غير المستنكف هنا لدلالة أول الكلام عليه ولكون الحشر لكلا الطائفتين.

ص: 313

(فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفّيهم أجورهم) أي ثواب أعمالهم من غير أن يفوتهم منها شيء (ويزيدهم من فضله) ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، أي على وجه التفصيل وإحاطة العلم بها، وإلا فسائر نعيم الجنان يخطر على قلوبنا ونسمعه من السنة لكن على وجه الإجمال.

وأخرج ابن المنذر وغيره بسند ضعيف عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أجورهم يدخلهم الجنة ويزيدهم من فضله الشفاعة فيمن وجبت له النار ممن صنع إليهم المعروف في الدنيا، وقد ساقه ابن كثير في تفسيره ثم قال هذا إسناد لا يثبت وإذا روي عن ابن مسعود موقوفاً فهو جيد (1).

(وأمّا الذين استنكفوا واستكبروا) عن عبادته (فيعذّبهم) بسبب استنكافهم واستكبارهم (عذاباً أليماً) هو عذاب النار (ولا يجدون لهم من دون الله وليّاً) يواليهم (ولا نصيراً) ينصرهم.

(1) ابن كثير 1/ 592.

ص: 313

يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175)

ص: 314

(يا أيّها الناس) خطاب للكافة (قد جاءكم برهان من ربكم) بما أنزله عليكم من كتبه وبمن أرسله إليكم من رسله، وما نصبه لهم من المعجزات.

والبرهان ما يبرهن به على المطلوب، قال قتادة: البرهان البينة؛ وقال مجاهد: الحجة وقيل محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتقدير كائن من ربكم أو من براهين ربكم، وقيل من لإبتداء الغاية.

(وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً) وهو القرآن وسماه نوراً لأنه يهتدى به من ظلمة الضلال.

ص: 314

(فأما) أي فمنكم من آمن ومنكم من كفر فأما (الذين آمنوا بالله) أي صدّقوا بوحدانيته وبما أرسل من رسول وأنزل من كتاب، وترك الشق الآخر إشارة إلى إهمالهم لأنهم في حيّز الطرح (واعتصموا به) أي بالله أو بالقرآن وقيل بالنور المذكور (فسيدخلهم في رحمة منه) يرحمهم بها، قال ابن عباس: الرحمة الجنة سمّيت باسم محلّها.

(وفضل) يتفضل به عليهم بعد إدخالهم الجنة كالنظر إلى وجهه الكريم وغيره من مواهب الجنة (ويهديهم إليه) أي إلى امتثال ما أمر به واجتناب ما نهى عنه الله سبحانه وتعالى باعتبار مصيرهم إلى جزائه وتفضله، قال أبو علي الفارسي: الهاء في إليه راجعة إلى ما تقدم من اسم الله، وقيل إلى القرآن وقيل إلى الفضل وقيل إلى الرحمة والفضل لأنهما بمعنى الثواب، وأخر هذا مع أنه سابق في الوجود الخارجي على ما قبله تعجيلاً للمسرة والفرح على حد: سعد في دارك.

(صراطاً) أي طريقاً يسلكونه إليه (مستقيماً) لا عوج فيه وهو التمسك بدين الإسلام وترك غيره من الأديان.

ص: 314