المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ - فتح البيان في مقاصد القرآن - جـ ٣

[صديق حسن خان]

الفصل: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ

وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً ‌

(83)

(وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به) يقال أذاع الشيء وأذاع به إذا أفشاه وأظهره، وهؤلاء جماعة من ضعفة المسلمين كانوا إذا سمعوا شيئاً من أمر المسلمين فيه أمن نحو ظفر المسلمين وقتل عدوهم، أو فيه خوف نحو هزيمة المسلمين وقتلهم أفشوه وهم يظنون أنه لا شيء عليهم في ذلك، وقيل هم المنافقون كانوا يستخبرون عن حالهم ثم يشيعونه قبل أن يحدث به رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(ولو ردّوه إلى الرسول) حتى يكون هو الذي يتحدث به ويظهره (وإلى أولي الأمر منهم) وهم أهل العلم والبصيرة والعقول الراجحة الذين يرجعون إليهم في أمورهم أو هم الولاة عليهم (لعلمه الذين يستنبطونه منهم) أي يستخرجونه بتدبّرهم وصحة عقولهم.

والمعنى أنهم لو تركوا إذاعة الأخبار حتى يكون النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يذيعها، أو يكون أولو الأمر منهم هم الذين يتولون ذلك لأنهم يعلمون بما ينبغي أن يفشى ويكتم، والاستنباط مأخوذ من استنبطت الماء إذا استخرجته والنبط الماء المستنبط أول ما يخرج من ماء البئر عند حفرها، وقيل أن هؤلاء الضعفة كانوا يسمعون إرجافات المنافقين على المسلمين فيذيعونها فتحصل بذلك المفسدة.

وفي الآية إشارة إلى جواز القياس، وأن من العلم ما يدرك بالنص وهو الكتاب والسنة ومنه ما يدرك بالاستنباط وهو القياس عليهما.

ص: 187

(ولولا فضل الله) أي ما تفضل الله به (عليكم ورحمته) من إرسال رسوله وإنزال كتابه (لا تبعتم الشيطان) فيما يأمركم به فبقيتم على كفركم (إلا قليلاً) منكم أو إلا اتباعاً قليلاً، وقيل أذاعوا به إلا قليلاً منهم فإنه لم يذع ولم يفش، قاله الكسائي والأخفش والفراء وأبو عبيدة وأبو حاتم وابن جرير، وقيل المعنى لعلمه الذين يستنبطونه إلا قليلاً منهم، قاله الزجاج وبه قال الحسن وقتادة واختاره ابن قتيبة والأول أولى (1).

(1) قوله تعالى: (وإذا جاءهم أمرٌ من الأمن أو الخوف) في سبب نزولها قولان.

أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما اعتزل نساءه، دخل عمر المسجد، فسمع الناس يقولون: طلق رسولُ الله صلى الله عليه وسلم نساءه، فدخل على النبي عليه السلام فسأله أطلقت نساءك؟ قال:" لا " فخرج فنادى: ألا إن رسول الله لم يطلق نساءه. فنزلت هذه الآية. فكان هو الذي استنبط الأمر. انفرد بإخراجه مسلم، من حديث ابن عباس، عن عمر.

مسلم 1/ 1105 وهو حديث طويل فيه فوائد عظيمة، وتوجيهات قيمة، فارجع إليه.

والثاني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث سرية من السرايا فغلبت أو غلبت، تحدثوا بذلك، وأفشوه، ولم يصبروا حتى يكون النبي هو المتحدث به. فنزلت هذه الآية. رواه أبو صالح، عن ابن عباس.

وقد نص كلامه في " جامع البيان " 8/ 568، 571: وإذا جاءهم خبر عن سرية للمسلمين غازية بأنهم قد أمنوا من عدوهم بغلبتهم إياهم (أو الخوف) يقول: أو تخوفهم من عدوهم بإصابة عدوهم منهم، (أذاعوا به) يقول: أفشوه وبثوه في الناس قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل ما أتى سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم

ولو ردوا الأمر الذي نالهم من عدوهم والمسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى أولي أمرهم، يعني: وإلى أمرائهم وسكتوا فلم يذيعوا ما جاءهم من الخبر حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو ذوو أمرهم هم الذين يتولون الخبر عن ذلك، بعد أن تثبت عندهم صحته، أو بطوله، فيصححوه إن كان صحيحاً، أو يبطلوه إن كان باطلاً، لعلم حقيقة ذلك الخبر الذي جاءهم به، الذين يبحثون عنه.

ص: 188

فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً (84) مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85)

ص: 189

(فقاتل في سبيل الله لا تكلّف إلا نفسك) الفاء في قوله فقاتل قيل هي متعلقة بقوله (ومن يقاتل في سبيل الله) إلى آخره أي من أجل هذا فقاتل، وقيل متعلقة بقوله (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله فقاتل) وقيل تقديره إذا كان الأمر ما ذكر من عدم طاعة المنافقين فقاتل، أو إذا أفردوك أو تركوك فقاتل.

قال الزجاج: أمر الله رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بالجهاد وإن قاتل وحده لأنه قد ضمن له النصر، قال ابن عطية: هذا ظاهر اللفظ إلا أنه لم يجىء في خبر قط أن القتال فرض عليه دون الأمة، والمعنى والله أعلم أنه خطاب له في اللفظ، وفي المعنى له ولأمّته أي أنت يا محمد وكل واحد من أمتك يقال له فقاتل في سبيل الله لا تكلف غير نفسك ولا تلزم فعل غيرك وهو استئناف مقرر لما قبله، لأن اختصاص تكليفه بفعل نفسه من موجبات مباشرته للقتال وحده.

وقرىء لا تكلف بالجزم على النهي وقرىء بالنون.

وفي الآية دليل على أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان أشجع الناس وأعلمهم بأمور القتال، إذ لو لم يكن كذلك لما أمره بذلك، ولقد اقتدى به أبو بكر الصديق رضي الله عنه في قتال أهل الردة على الخروج ولو وحده.

ص: 189

(وحرّض المؤمنين) أي وحضهم على القتال والجهاد يقال حرضت فلاناً على كذا إذا أمرته به وحارض فلان على الأمر وأكب عليه وواظب عليه بمعنى واحد، والمعنى ليس عليك في شأنهم إلا التحريض والترغيب في الثواب فحسب لا التعنيف بهم.

(عسى الله أن يكف) فيه إطماع للمؤمنين بكفّ (بأس الذين كفروا) عنهم، والإطماع من الله عز وجل واجب فهو وعد منه سبحانه ووعده كائن لا محالة (والله أشدّ) أي أعظم (بأساً) أي صولة وسلطاناً وشدة وقوة (وأشد تنكيلاً) عقوبة وعذاباً يقال نكلت بالرجل تنكيلاً من النكال وهو العذاب والمنكّل الشيء الذي ينكل بالإنسان.

ص: 190

(من يشفع شفاعة حسنة) أصل الشفاعة والشفعة ونحوهما من الشفع وهو الزوج ومنه الشفيع لأنه يصير مع صاحب الحاجة شفعا، ومنه ناقة شفوع إذا جمعت بين محلبين في حلبة واحدة، وناقة شفيع إذا اجتمع لها حمل وولد يتبعها، والشفع ضمّ واحد إلى واحد، والشفعة ضم ملك الشريك إلى ملكك فالشفاعة ضمّ غيرك إلى جاهك ووسيلتك، فهي على التحقيق إظهار لمنزلة الشفيع عند المشفع وإيصال منفعة إلى المشفوع له، والشفاعة الحسنة هي في البرّ والطاعة فمن شفع في الخير لينفع (1).

(يكن له نصيب) حظ (منها) أي من أجرها، وقد بيّن النصيب في حديث من دعا لأخيه بظهر الغيب استجيب له، وقال له الملك آمين ولك بمثل " هذا "(1) فهذا بيان لمقدار النصيب الموعود به قاله أبو السعود، وعن أبي موسى قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالساً فجاء رجل يسأل

(1) القرطبي 5/ 296.

ص: 190

فأقبل علينا بوجهه وقال: اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان رسوله ما شاء أخرجه الشيخان.

(ومن يشفع شفاعة سيئة) الظاهر أن إطلاق الشفاعة هنا من قبيل المشاكلة لأن حقيقتها اللغوية تقتضي أنها لا تكون إلا في الخير، قال الخازن: هي النميمة والغيبة ونقل الحديث لإيقاع العداوة بين الناس، وقيل المراد دعاء اليهود على المسلمين وقيل معناه من يشفع كفره بقتال المؤمنين.

(يكن له كفل منها) أي من وزرها والكفل الوزر، واشتقاقه من الكساء الذي يجعله الراكب على سنام البعير لئلا يسقط، يقال اكتفلت البعير إذا أدرت على سنامه كساء وركبت عليه لأنه لم يستعمل الظهر كله بل استعمل نصيباً منه، ويستعمل في النصيب من الخير والشر، ومن استعماله في الخير قوله تعالى (يؤتكم كفلين من رحمته).

(وكان الله على كل شيء مقيتاً) أي مقتدراً قاله الكسائي، وقال الفراء: المقيت الذي يعطي كل إنسان قوته، يقال قته أقوته قوتاً وأقته أقيته إقاتة فأنا قائت ومقيت، وحكى الكسائي: أقات يقيت وقال أبو عبيدة: المقيت الحافظ، قال النحاس: وقول أبي عبيدة أولى لأنه مشتق من القوت والقوت معناه مقدار ما يحفظ الإنسان، وقال ابن فارس في المجمل: المقيت المقتدر والحافظ والشاهد، وقال مجاهد: مقيتاً أي شهيداً حسيباً حفيظاً، وقال سعيد ابن جبير وابن زيد قادراً قديراً وعن الضحاك المقيت الرزاق (1).

(1) والشافع يؤجر فيما يجوز وإن لم يُشفع؛ لأنه تعالى قال: (من يشفع) ولم يقل يشفع. وفي صحيح مسلم " أشفعوا تؤجروا وليقض الله على لسان نبيه ما أحب ".

وجاء في الحديث: " كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت " و " يقيت " ذكره الثعلبي: وحكى ابن فارس في المجمل: المقيت المقتدر، والمقيت الحافظ والشاهد، وما عنده قيت ليلة وقوت ليلة. والله أعلم.

ص: 191

وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)

ص: 192

(وإذا حييتم بتحية) ترغيب في فرد شائع من أفراد الشفاعة الحسنة بعد الترغيب فيها على الإطلاق، فإن تحية السلام شفاعة من الله للمسلم عليه، وأصل التحية تفعلة من حييت، والأصل تحيية مثل ترضية وأصلها الدعاء بالحياة والتحية السلام.

وهذا المعنى هو المراد هنا ومثله قوله تعالى (وإذا جاؤوك حيّوك بما لم يحييّك به الله) وإلى هذا ذهب جماعة من المفسرين، وروى عن مالك أن المراد بالتحية هنا تشميت العاطس، وقال أصحاب أبي حنيفة التحية هنا الهدية لقوله (أو ردوها) ولا يمكن رد السلام بعينه وهذا فاسد لا ينبغي الإلتفات إليه.

والمراد بقوله (فحيّوا بأحسن منها) أي بأن يزيد في الجواب على ما قاله المبتدىء بالتحية، فإذا قال المبتدىء السلام عليكم قال المجيب وعليكم السلام ورحمة الله، وإذا زاد المبتدىء لفظاً زاد المجيب على جملة ما جاء به المبتدىء لفظاً أو ألفاظاً نحو: وبركاته وتحياته ومرضاته.

قال القرطبي: أجمع العلماء على أن الابتداء بالسلام سنة مرغّب فيها ورده فريضة لقوله (فحيّوا بأحسن منها) وإنما اختار الشرع لفظ السلام على لفظ حيّاك الله لأنه أتم وأحسن وأكمل ولأن السلام من أسمائه تعالى.

(أو ردّوها) أي ردوا عليه كما سلم عليكم واقتصروا على مثل اللفظ الذي جاء به المبتديء فظاهر الآية أنه لو رد عليه بأقل مما سلم عليه به أنه لا

ص: 192

يكفي، وظاهر كلام الفقهاء أنه يكفي، وحملوا الآية على أنه الأكمل.

واختلفوا إذا رد واحد من جماعة هل يجزىء أوْلاً؟ فذهب مالك والشافعي إلى الإجزاء وذهب الكوفيون إلى أنه لا يجزىء عن غيره، ويرد عليهم حديث علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يجزىء عن الجماعة إذا مروا أن يسلم أحدهم ويجزىء عن الجلوس أن يرد أحدهم (1) أخرجه أبو داود وفي إسناده سعيد بن خالد الخزاعي المدني وليس به بأس، وقد ضعفه بعضهم، وقد حسّن الحديث ابن عبد البر.

وقد ورد في السنة المطهرة في تعيين من يبتديء بالسلام ومن يستحقّ التحية ومن لا يستحقها وفي فضل السلام والحث عليه وكيفية السلام وما له من الأحكام ما يغني عن البسط ههنا.

(إن الله كان على كل شيء حسيباً) يحاسبكم على كل شيء وقيل معناه مجازياً وقيل كافياً من قولهم أحسبني كذا أي كفاني ومثله حسبك.

(1) وفي صحيحي البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خلق الله عز وجل آدم على صورته طوله ستون ذراعاً فلما خلقه قال اذهب فسلم على أولئك النفر وهم نفر من الملائكة جلوس فاستمع ما يحييونك فإنها تحيتك وتحيّة ذريتك -قال: فذهب فقال السلام عليكم فقالوا السلام عليك ورحمة الله- قال: فكل من يدخل الجنة على صورة آدم وطوله ستون ذراعاً فلم يزل الخلق ينقص بعده حتى الآن ".

ص: 193

(الله لا إله إلا هو ليجمعنّكم) بالحشر (إلى) حساب (يوم القيامة) أي يوم القيام من القبور، وقيل إلى بمعنى في واختاره القاضي كالكشاف وقيل إنها زائدة (لا ريب فيه) أي في يوم القيامة أو في الجمع أي جمعاً لا ريب فيه، وهذه الآية نزلت في منكري البعث (ومن أصدق من الله حديثاً) إنكار لأن يكون أحد أصدق منه سبحانه، والصاد الأصل وقد تبدل زاياً لقرب مخرجها منها، ولهذا قرأ حمزة والكسائي ومن أزدق بالزاي.

ص: 193

فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89)

ص: 194

(فما لكم) الاستفهام للإنكار والمعنى أي شيء كائن لكم (في المنافقين) أي في أمرهم وشأنهم، قال القرطبي: والمراد بهم هنا عبد الله بن أبيّ وأصحابه الذين خذلوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد ورجعوا بعسكرهم بعد أن خرجوا كما تقدم في آل عمران، حال كونكم (فئتين) في ذلك وحاصله الإنكار على المخاطبين أن يكون لهم شيء يوجب اختلافهم في شأن المنافقين.

وسبب نزول الآية به يتضح المعنى فقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى أحد فرجع ناس خرجوا معه، فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين، فرقة تقول نقتلهم وفرقة تقول لا فأنزل الله (فما لكم في المنافقين) الآية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها طيبة وأنها تنفي الخبث كما تنفي النار خبث الفضة (1)، هذا أصح ما روى في سبب نزول الآية وقد رويت أسباب غير ذلك.

(والله أركسهم) حكى الفراء والنضر بن شميل والكسائي أركسهم وركسهم أي ردهم إلى الكفر ونكسهم، فالركس والنكس قلب الشيء على رأسه أو رد أوله إلى آخره والمنكوس المركوس (بما كسبوا) الباء للسببية أي أركسهم بسبب كسبهم وهو لحوقهم بدار الكفر.

(1) زاد المسير 2/ 153.

ص: 194

والاستفهام في قوله (أتريدون) للتقريع والتوبيخ (أن تهدوا من أضل الله) وهذا خطاب للفئة التي دافعت عن المنافقين، وفيه دليل على أن من أضله الله لا ينجح فيه هداية البشر (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء)(ومن يضلل الله) عن الهدى (فلن تجد له سبيلاً) أي طريقاً إلى الهداية.

ص: 195

(ودّوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء) هذا كلام مستأنف يتضمن بيان حال هؤلاء المنافقين، وإيضاح أنهم يودون أن يكفر المؤمنون كما كفروا، ويتمنون ذلك عناداً وغلواً في الكفر وتمادياً في الضلال، وقيل ودوا كفركم ككفرهم وودوا مساواتكم لهم (فلا تتخذوا منهم أولياء) أي إذا كان حالهم ما ذكر من ودادة كفركم فلا تتخذوهم أولياء وجمع الأولياء لمراعاة جمعية المخاطبين، فالمراد النهي عن أن يُتخذ منهم وليّ ولو واحداً.

(حتى يهاجروا في سبيل الله) هجرة صحيحة تحقق إيمانهم، والمراد بالهجرة هنا الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتال في سبيله مخلصين صابرين محتسبين، قال عكرمة: هي هجرة أخرى (1).

(فان تولّوا) عن الهجرة للقتال في سبيل الله (فخذوهم) إذا قدرتم عليهم (واقتلوهم حيث وجدتموهم) في الحل والحرم، فإن حكمهم حكم سائر المشركين قتلاً وأسراً (ولا تتخذوا منهم ولياً) توالونه (ولا نصيراً) تستنصرون به.

(1)" المسند " 5/ 184، والبخاري: 8/ 193 ومسلم 4/ 2142. قال الحافظ في " الفتح " وهذا هو الصحيح في سبب نزولها. وفي " الفتح ": وقوله: " رجع ناس ممن خرج معه " يعني عبد الله بن أبي وأصحابه، وقد ورد ذلك صريحاً في رواية موسى بن عقبة في " المغازي "، وأن عبد الله بن أبي كان وافق رأيه رأي النبي صلى الله عليه وسلم على الإقامة بالمدينة، فلما أشار غيره بالخروج، وأجابهم النبي صلى الله عليه وسلم فخرج، قال عبد الله بن أبي: أطاعهم وعصاني، علام نقتل أنفسنا؟ فرجع بثلث الناس.

ص: 195