الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ
(41)
(يا أيها الرسول) هذا خطاب تشريف وتكريم وتعظيم، وقد خاطبه الله عز وجل بيا أيها النبي في مواضع من كتابه، وبيا أيها الرسول في موضعين هذا أحدهما والآخر قوله تعالى (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك).
(لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر) أي لا تهتم ولا تبال بهم فإني ناصرك عليهم وكافيك شرهم، والحزن خلاف السرور، وحزن الرجل بالكسر فهو حزن وحزين وأحزنه غيره، قال اليزيدي حزنه لغة قريش وأحزنه لغة تميم وقد قرىء بهما.
وفي الآية النهي له صلى الله عليه وآله وسلم عن التأثر لمسارعة الكفرة في كفرهم تأثراً بليغاً على أبلغ وجه وآكده، فإن النهي عن أسباب الشيء ومباديه نهيٌ عنه بالطريق البرهاني وقطع له من أصله، لأن الله سبحانه قد وعده في غير موطن بالنصر عليهم، والمسارعة إلى الشيء الوقوع فيه بسرعة، والمراد هنا وقوعهم في الكفر بسرعة عند وجود فرصة، وآثر لفظ (في) على لفظ إلى للدلالة على استقرارهم فيه، والمسارعون هم اليهود، قاله ابن عباس.
(من الذين قالوا) من بيانية والجملة مبيّنة للمسارعين في الكفر، وهؤلاء الذين قالوا (آمنا بأفواههم) بألسنتهم (ولم تؤمن قلوبهم) هم
المنافقون، قاله ابن عباس، والمعنى أن المسارعين في الكفر طائفة من المنافقين (ومن الذين هادوا) أي وطائفة من اليهود قال الزجاج الكلام تم عند قوله هذا ثم ابتدأ الكلام بقوله:
(سمَاعون للكذب) وهذا راجع إلى الفريقين أو إلى المسارعين، واللام في قوله للكذب للتقوية أو لتضمين السماع معنى القول، وقيل معناه من الذين هادوا قوم قائلون الكذب من رؤسائهم المحرفين للتوراة (سماعون) أي لكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لأجل الكذب عليه (لقوم آخرين) وجهوهم عيوناً وجواسيس لهم لأجل أن يبلّغوهم ما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الفراء: ويجوز سماعين كما قال ملعونين أينما ثقفوا، والحاصل أن هؤلاء القوم من اليهود لهم صفتان سماع الكذب من أحبارهم ونقله إلى عوامهم، وسماع الحق منك ونقله إلى أحبارهم ليحرفوه.
(لم يأتوك) صفة لقوم أي لم يحضروا مجلسك وهم طائفة من اليهود كانوا لا يحضرون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبراً وتمرداً وقيل هم جماعة من المنافقين كانوا يتجنبون مجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(ويحرّفون الكلم) الذي في التوراة كآية الرجم أي يزيلونه ويميلونه أو يتأولونه على غير تأويله والمحرفون هم اليهود، قال القسطلاني في إرشاد الساري: وقد صرح كثير بأن اليهود والنصارى بدلوا ألفاظاً كثيرة من التوراة والإنجيل وأتوا بغيرها من قبل أنفسهم، وحرفوا أيضاً كثيراً من المعاني بتأويلها على غير الوجه.
ومنهم من قال أنهم بدلوهما كليهما، ومن ثَمَّ (1) قيل بامتهانهما، وفيه نظر
(1) ثم بفتح الثاء أي هنا.
إذ الآيات والأخبار كثيرة في أنه بقي منهما أشياء كثيرة لم تبدل، منها آية الذين يتبعون الرسول النبي الأمي، وقصة رجم اليهوديين،، وقيل التبديل وقع في اليسير منهما، وقيل وقع في المعاني لا في الألفاظ، وفيه نظر فقد وجد في الكتابين ما لا يجوز أن يكون بهذه الألفاظ من عند الله أصلاً، وقد نقل بعضهم الإجماع على أنه لا يجوز الاشتغال بالتوراة والإنجيل ولا كتابتهما ولا نظرهما.
وعند أحمد والبزار واللفظ له من حديث جابر قال: نسخ عمر كتاباً من التوراة بالعربية فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يقرأ ووجه النبي صلى الله عليه وسلم يتغير فقال له رجل من الأنصار: ويحك يا ابن الخطاب ألا ترى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا، وإنكم إما أن تكذبوا بحق أو تصدقوا بباطل، والله لو كان موسى بين أظهركم ما حل له إلا اتباعي " (1)، وروي في ذلك أحاديث أخر كلها ضعيف لكن مجموعها يقتضي أن لها أصلاً.
قال الحافظ ابن حجر في الفتح، ومنه لخصت ما ذكرته: والذي يظهر أن كراهة ذلك للتنزيه لا للتحريم.
والأولى في هذه المسألة التفرقة بين من لم يتمكن ويصر من الراسخين في الإيمان فلا يجوز له النظر في شيء من ذلك بخلاف الراسخ فيه ولا سيما عند الاحتياج إلى الرد على المخالف، ويدل له نقل الأئمة قديماً وحديثاً من التوراة وإلزامهم التصديق بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم بما يستخرجونه من كتابهم.
(1) أحمد بن حنبل 2/ 228.
وأما الاستدلال للتحريم بما ورد من غضبه صلى الله عليه وسلم فمردود بأنه قد يغضب من فعل المكروه ومن فعل ما هو خلاف الأولى إذا صدر ممن لا يليق به ذلك كغضبه من تطويل معاذ الصلاة بالقراءة انتهى.
أقول وقد تقدم الكلام على هذه المسئلة في سورة النساء بأطول من ذلك، وقد قال جماعة من أهل المعرفة بالتحقيق بأن التحريف الواقع في التوراة معنوي لا لفظي وإليه ذهب حَبْر الأمة وترجمان القرآن ابن عباس، والشيخ ولي الله المحدث الدهلوي في الفوز الكبير وغيرهما والله سبحانه أعلم.
(من بعد) كونه موضوعاً في (مواضعه) أو من بعد وضعه في مواضعه التي وضعه الله فيها من حيث لفظه أو من حيث معناه.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عبد الله بن عمر أن اليهود جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن رجلاً منهم وامرأة زنيا فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تجدون في التوراة قالوا نفضحهم ويجلدون، قال عبد الله بن سلام: كذبتم إن فيها آية فأتوا بالتوراة فنشروها فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها فقال عبد الله بن سلام: ارفع يدك فرفع فإذا آية الرجم، قالوا: صدق، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما (1).
وقال الحسن في الآية: إنهم يغيرون ما يسمعون من النبي صلى الله عليه وسلم بالكذب عليه، والأول أولى، وقال ابن جرير الطبري يحرفون حكم الكلم فحذف ذكر الحكم لمعرفة السامعين به وفيه بعد.
(يقولون إن أوتيتم هذا) الإشارة إلى الكلام المحرف أي قال يهود فدك ليهود المدينة إن أوتيتم من جهة محمد بهذا الكلام الذي حرفناه أي الجلد (فخذوه) وأعملوا به (وإن لم تؤتوه) بل جاءكم بغيره وأفتاكم بخلافه (فاحذروا) من قبوله والعمل به.
(1) البخاري الباب 26 من كتاب المناقب والباب 37 من كتاب الحدود.
(ومن يرد الله فتنته) أي ضلالته (فلن تملك له من الله شيئاً) أي فلا تستطيع دفع ذلك عنه ولا تقدر على نفعه وهدايته، وهذه الجملة مستأنفة مقّررة لما قبلها وظاهرها العموم، ويدخل فيها هؤلاء الذين سياق الكلام معهم دخولاً أولياً.
(أولئك) الإشارة إلى ما تقدم ذكرهم من الذين قالوا آمنا بأفواههم ومن الذين هادوا وما في اسم الإشارة من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في الفساد.
(الذين لم يرد الله أن يطهّر قلوبهم) أي لم يرد تطهيرها من أرجاس الكفر والنفاق وخبث الضلالة كما طهر قلوب المؤمنين، والجملة استئناف مبين لكون إرادته تعالى لفتنتهم منوطة بسوء اختيارهم وقبح صنيعهم الموجب لها لا واقعة منه تعالى ابتداء.
وفي هذه الآية دلالة على أن الله تعالى لم يرد إسلام الكافر وأنه لم يطهر قلبه من الشكل والشرك ولو فعل ذلك لآمن، وهذه الآية من أشد الآيات على القدرية.
(لهم في الدنيا خزي) بظهور نفاق المنافقين وبضرب الجزية على الكافرين وظهور تحريفهم وكتمهم لما أنزل الله في التوراة (ولهم في الآخرة عذاب عظيم) يعني الخلود في النار.
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)
(سمّاعون للكذب) كرره تأكيداً لقبحه وليكون كالمقدمة لما بعده وهو (أكّالون للسحت) وهو بضم السين وسكون الحاء المال الحرام وأصله الهلاك والشدة، من سحته إذا أهلكه، ومنه:
(فيسحتكم بعذاب) ويقال للحالق اسحت أي أستأصل وسمي الحرام سحتاً لأنه يسحت الطاعات أي يذهبها ويسأصلها، وقال الفراء أصله كلب الجوع، وقيل هو الرشوة والأول أولى، والرشوة تدخل في الحرام دخولاً أولياً.
وقد فسره جماعة بنوع من أنواع الحرام خاص كالهدية لمن يقضى له حاجة أو حلوان الكاهن والتعميم أولى بالصواب. قال ابن عباس أخذوا الرشوة في الحكم وقضوا بالكذب، وعن ابن مسعود قال السحت الرشوة في الدين، وقال سفيان في الحكم وعن ابن عباس قال: رشوة الحكام حرام، وهي السحت الذي ذكر الله تعالى في كتابه.
وعن علي أنه سُئِلَ عن السحت فقال: الرشى، فقيل له في الحكم قال: ذلك الكفر، وعن عمر قال: بابان من السحت يأكلهما الناس الرشى في الحكم ومهر الزانية، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحريم الرشوة ما هو معروف، وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" لعن الله الراشي والمرتشي في الحكم "(1)، أخرجه الترمذي وأخرجه أبو داود عن ابن عمرو بن العاص.
(فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم) فيه تخيير لرسول الله صلى الله عليه وسلم بين الحكم بينهم والإعراض عنهم، وقد استدل به على أن حكام المسلمين مخيرون بين الأمرين، وقد أجمع العلماء على أنه محب على حكام المسلمين أن
(1) صحيح الجامع الصغير 4969.
يحكموا بين المسلم والذمي إذا ترافعا إليهم.
واختلفوا في أهل الذمة إذا ترافعوا فيما بينهم فذهب قوم إلى التخيير، وبه قال الحسن والشعبي والنخعي والزهري، وبه قال أحمد، وذهب آخرون إلى الوجوب، وقالوا إن هذه الآية منسوخة بقوله:(وأن أحكم بينهم بما أنزل الله) وبه قال ابن عباس وعطاء ومجاهد وعكرمة والزهري وعمر بن عبد العزيز والسدي وهو الصحيح من قولي الشافعي، وحكاه القرطبي عن أكثر العلماء وليس في هذه السورة منسوخ إلا هذا وقوله:(ولا آمّين البيت) على ما سبق.
(و) معنى (إن تعرض عنهم) إن اخترت الإعراض عن الحكم بينهم (فلن يضروك شيئاً) أي إذا عادوك لإعراضك عنهم فإن الله يعصمك من الناس، ولا سبيل لهم عليك لأنه سبحانه حافظك وناصرك عليهم (وإن حكمت) أي اخترت الحكم بينهم (فاحكم بينهم بالقسط) أي بالعدل الذي أمرك الله به وأنزله عليك (إن الله يحب المقسطين) العادلين فيما ولوا وحكموا فيه.
وعند عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا " أخرجه (1) مسلم.
(1) مسلم 1827.
(وكيف يحكّمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله) فيه تعجيب للنبي صلى الله عليه وسلم من تحكيمهم إياه مع كونهم لا يؤمنون به ولا بما جاء به مع أن ما يحكّمونه فيه موجود عندهم في التوراة كالرجم ونحوه، وإنما يأتون إليه صلى الله عليه وآله وسلم ويحكمونه طمعاً منهم في أن يوافق تحريفهم وما صنعوه بالتوراة من التغيير.
(ثم يتولون من بعد ذلك) أي من بعد تحكيمهم لك وحكمك الموافق لما في كتابهم (وما أولئك بالمؤمنين) بك أو بكتابهم كما يدعون ويزعمون لإعراضهم عنه أولاً، وعما يوافقه ثانياً، وهذه الجملة مقررة لمضمون ما قبلها.