الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ
(48)
(وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدّقاً لما بين يديه من الكتاب) خطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم، والكتاب القرآن والتعريف للعهد والتعريف في الكتاب الثاني للجنس أي أنزلنا إليك يا محمد القرآن حال كونه متلبساً بالحق، وحال كونه مصدقا لما بين يديه من كتب الله المنزّلة لكونه مشتملاً على الدعوة إلى الله والأمر بالخير والنهي عن الشر، كما اشتملت عليه.
وأما ما يتراءى من مخالفته في بعض جزئيات الأحكام المتغيرة بسبب تغير الأعصار، فليس بمخالفة في الحقيقة، بل هي موافقة لها من حيث أن كلاًّ من تلك الأحكام حق بالإضافة إلى عصره، متضمن للحكمة التي يدور عليها أمر الشريعة، وليس في المتقدم دلالة على أبدية أحكامه المنسوخة حتى يخالفه الناسخ المتأخر، وإنما يدل على مشروعيتها مطلقاً من غير تعرض لبقائها وزوالها بل نقول هو ناطق بزوالها لما أن النطق بصحة ما ينسخها نطق بنسخها وزوالها.
(ومهيمناً علي) الضمير عائد إلى الكتاب الذي صدقه القرآن وهيمن عليه، والمهيمن الرقيب، وقيل الغالب المرتفع، وقيل الشاهد، وقيل الحافظ، وقيل المؤتمن.
قال المبرد: أصله مؤيمن أبدل من الهمزة هاء كما قيل في أرقت الماء هرقت وبه قال الزجاج وأبو علي الفارسي،، قال الجوهري: هو من آمن غيره
من الخوف. وأصله أأمن فهو مأأمن، يقال هيمن على الشيء يهيمن إذا كان له حافظاً فهو له مهيمن، كذا عن أبي عبيد.
وقرأ مجاهد وابن محيصن مهيمناً بفتح الميم أي هيمن عليه الله سبحانه، والمعنى على قراءة الجمهور أن القرآن صار شاهداً بصحة الكتب المنزلة ومقرراً لا فيها مما لم ينسخ، وناسخاً لا خالفه منها، ورقيباً عليها وحافظاً لا فيها من أصول الشرائع، وغالباً لها لكونه المرجع في الحكم منها والمنسوخ، ومؤتمناً عليها لكونه مشتملاً على ما هو معمول به منها وما هو متروك.
(فاحكم بينهم) أي بين أهل الكتاب عند تحاكمهم إليك، وتقديم بينهم للاعتناء ببيان تعميم الحكم لهم (بما أنزل الله) أي بما أنزله إليك في القرآن لاشتماله على جميع ما شرعه الله لعباده في جميع الكتب السابقة عليه، والالتفات بإظهار الاسم الجليل لتربية الهابة والإشعار بعلة الحكم.
(ولا تتبع أهواءهم) أي أهواء أهل الملل السابقة، وقال ابن عباس: لا تأخذ بأهوائهم في جلد المحصن (عما جاءك من الحق) أي لا تعدل أو لا تنحرف عما جاءك من الحق متبعاً لأهوائهم أو لا تتبع أهواءهم عادلاً أو منحرفاً عن الحق.
وفيه النهي له صلى الله عليه وآله وسلم عن أن يتبع أهوية أهل الكتاب ويعدل عن الحق الذي أنزله الله عليه، فإن كل ملة من الملل تهوى أن يكون الأمر على ما هم عليه وما أدركوا عليه سلفهم وإن كان باطلاً منسوخاً أو محرفاً عن الحكم الذي أنزله الله على الأنبياء كما وقع في الرجم وغيره مما حرفوه من كتب الله، والخطاب وإن كان للنبي صلى الله عليه وسلم لكن المراد به غيره لأنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يتبع أهواءهم.
(لكل جعلنا منكم) الخطاب للأمم الثلاثة أمة موسى وأمة عيسى وأمة محمد صلى الله عليهم أجمعين، أو للناس كافة لكن للموجودين خاصة بل للماضين أيضاً بطريق التغليب على وجه التلوين والالتفات.
(شرعة ومنهاجاً) الشرعة والشريعة في الأصل الطريقة الظاهرة التي يتوصل بها إلى الماء ثم استعملت فيما شرعه الله لعباده من الدين، والمنهاج الطريقة الواضحة البينة، وقال محمد بن يزيد المبرد الشريعة ابتداء الطريق والمنهاج الطريق المستمر.
ومعنى الآية أنه جعل التوراة لأهلها، والإنجيل لأهله، والقرآن لأهله، وهذا قبل نسخ الشرائع السابقة بالقرآن، وأما بعده فلا شرعة ولا منهاج إلا ما جاء به صلى الله عليه وسلم قال ابن عباس في الآية: سنة وسبيلاً، وقال قتادة سبيلاً وسنة، وقد وردت آيات دالة على عدم التباين في طريقة الأنبياء وعلى حصول التباين بينهم، والجمع بينها أن الأولى في أصول الدين، والثانية في فروعه وما يتعلق بظاهر العبادات والله أعلم.
(ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة) بشريعة واحدة وكتاب واحد ورسول واحد في جميع الأعصار من غير نسخ وتحويل (ولكن ليبلوكم) أي ولكن لم يشأ ذلك الاتحاد بل شاء الابتلاء لكم باختلاف الشرائع فيكون ليبلوكم متعلقاً بمحذوف دل عليه سياق الكلام.
(فيما آتاكم) أي فيما أنزله عليكم من الشرائع المختلفة باختلاف الأوقات والرسل هل تعملون بذلك وتذعنون له أو تتركوه وتخالفون ما اقتضته مشيئة الله وحكمته، وتميلون إلى الهوى، وتشترون الضلالة بالهدى وفيه دليل على اختلاف الشرائع هو لهذه العلة، أعني الابتلاء والامتحان لا لكون مصالح العباد مختلفة باختلاف الأوقات والأشخاص.
(فاستبقوا الخيرات) أي إذا كانت المشيئة قد قضت باختلاف الشرائع فاستبقوا إلى فعل ما أمركم بفعله وترك ما أمركم بتركه أي فابتدروها انتهازاً للفرصة وحيازة لفضل السبق والتقدم، والاستباق المسارعة.
(إلى الله) لا إلى غيره (مرجعكم جميعاً) وهذه الجملة كالعلّة لما قبلها.
(فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون) من أمر الدين والدنيا فيفصل بين المحق والمبطل والطائع والعاصي بالثواب والعقاب.
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)
(وأن احكم بينهم بما أنزل الله) عطف على الكتاب أي أنزلنا عليك الكتاب والحكم بما فيه، وقد استدل بهذا على نسخ التخيير المتقدم في قوله: أو أعرض عنهم وقد تقدم تفسيره.
(ولا تتّبع أهواءهم) أي فيما أمروك به، وليس في هذه الآية تكرار لما تقدم وإنما أنزلت في حكمين مختلفين، أما الآية الأولى فنزلت في شأن رجم المحصن، وأن اليهود طلبوا منه أن يجلده، وهذه الآية نزلت في شأن الدماء والديات حين تحاكموا إليه في أمر قتيل كان بينهم.
(واحذرهم أن يفتنوك) أي يضلوك ويصرفوك بسبب أهوائهم التي يريدون منك أن تعمل عليها وتؤثرها (عن بعض ما أنزل الله إليك) ولو كان أقل قليل بتصوير الباطل بصورة الحق (فإن تولوا) أي إن أعرضوا عن قبول حكمك بما أنزل الله عليك وأرادوا غيره.
(فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم) بالعقوبة في الدنيا (ببعض ذنوبهم) وهو ذنب التولي عنك والإعراض عما جئت به، وإنما عبر بذلك إيذاناً بأن لهم ذنوباً كثيرة، هذا مع كمال عظمة واحد من جملتها، وفي هذا الإبهام تعظيم للتولي (وإن كثيراً من الناس لفاسقون) متمردون عن قبول الحق خارجون عن الإنصاف.
(أفحكم الجاهلية يبغون) الاستفهام للإنكار والتوبيخ، والمعنى أيعرضون عن حكمك بما أنزل الله عليك ويتولون عنه، ويبتغون حكم الجاهلية التي هي متابعة الهوى الموجبة للميل والمداهنة في الأحكام، وأما أهل الجاهلية وحكمهم فهو ما كانوا عليه من المفاضلة بين القتلى من بني النضير وقريظة، قال ابن عباس: هو ما كانوا عليه من الضلال والجور في الأحكام وتحريفهم إياها عما أمر الله به.
والاستفهام في (ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون) للإنكار أيضاً أي لا يكون أحد حكمه أحسن من حكم الله أو مساوٍ له عند أهل اليقين لا عند أهل الجهل والاهواء، وان كان ظاهر السبك غير متعرض لنفي المساواة وإنكارها.
(يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء) الظاهر أنه خطاب عام يعم حكمه كافة المؤمنين حقيقة، وقيل المراد بهم المنافقون، ووصفهم بالإيمان باعتبار ما كانوا يظهرونه، وقد كانوا يوالون اليهود والنصارى فنهوا عن ذلك، والأولى أن يكون خطاباً لكل من يتصف بالإيمان أعم من أن يكون ظاهراً وباطناً أو ظاهراً فقط، فيدخل المسلم والمنافق.
ويؤيد هذا قوله: (فترى الذين في قلوبهم مرض) والاعتبار بعموم اللفظ قال ابن عباس أسلم عبد الله بن أبي بن سلول ثم قال: إن بيني وبين قريظة حلفاً وإني أخاف الدوائر فارتد كافراً، وقال عبادة بن الصامت: أبرأ إلى الله من حلف قريظة والنضير وأتولى الله ورسوله فنزلت، وبهذا يتضح المراد، والمراد من النهي عن اتخاذهم أولياء أن يعاملوا معاملة الأولياء في المصادقة والمعاشرة والمناصرة.
(بعضهم أولياء بعض) المعنى أن بعض اليهود أولياء للبعض الآخر منهم وبعض النصارى أولياء للبعض الآخر منهم، وليس المراد بالبعض إحدى طائفتي اليهود والنصارى، والبعض الآخر الطائفة الأخرى، للقطع بأنهم في غاية من والعداوة والشقاق، وقالت اليهود ليست النصارى على شيء، وقالت
النصارى ليست اليهود على شيء.
وقيل المراد أن كل واحدة من الطائفتين توالي الأخرى وتعاضدها وتناصرها على عداوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعداوة ما جاء به وإن كانوا في ذات بينهم متعادين متضادين.
ووجه تعليل النهي بهذه الجملة أنها تقتضي أن هذه الموالاة هي شأن هؤلاء الكفار لا شأنكم فلا تفعلوا ما هو من فعلهم فتكونوا مثلهم، ولهذا عقب هذه الجملة التعليلية بما هو كالنتيجة لها فقال:
(ومن يتولهم منكم) أي ومن يتولى اليهود والنصارى دون المؤمنين (فإنه منهم) أي فإنه من جملتهم وفي عدادهم لأنه لا يوالي أحد أحداً إلا وهو عنه راض، فإذا رضي عنه رضي دينه فصار من أهل ملته، وهو وعيد شديد، فإن المعصية الموجبة للكفر هي التي قد بلغت إلى غاية ليس وراءها غاية.
قال أبو السعود: وفيه زجر شديد للمؤمنين عن إظهار صورة الموالاة لهم وإن لم تكن موالاة في الحقيقة انتهى، وهذا تعليم من الله تعالى وتشديد عظيم في مجانبة اليهود والنصارى وكل من خالف دين الإسلام وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
(إن الله لا يهدي القوم الظالين) تعليل للجملة التي قبلها أي أن وقوعهم في الكفر هو بسبب عدم هدايته سبحانه لمن ظلم نفسه بما يوجب الكفر كمن يوالي الكافرين، قال حذيفة: ليتق أحدكم أن يكون يهودياً أو نصرانياً وهو لا يشعر وتلا هذه الآية.
وعن أبي موسى قال: قلت لعمر بن الخطاب: إن لي كاتباً نصرانياً فقال: مالك وله قاتلك الله، ألا اتخذت حنيفاً يعني مسلماً، أما سمعت قول الله وتلا هذه الآية، قلت: له دينه ولي كتابته، فقال: لا أكرمهم إذ أهانهم الله، ولا أعزهم إذ أذلهم الله، ولا أدنيهم إذ أبعدهم الله، قلت: إنه لا يتم أمر البصرة إلا به فقال: مات النصراني والسلام، يعني هب أنه مات فما تصنع بعده فما تعمله بعد موته فاعمله الآن، واستغن عنه بغيره من المسلمين.
فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53)
(فترى الذين في قلوبهم مرض) الفاء للسببية والخطاب إما للرسول صلى الله عليه وآله وسلم أو لكل من يصلح له، أي ما ارتكبوه من الموالاة ووقعوا فيه من الكفر هو بسبب ما في قلوبهم من مرض النفاق والشك في الدين والرؤية إما قلبية أو بصرية.
وقرئ فيرى بالتحتية، واختلف في فاعله ما هو فقيل هو الله عز وجل وقيل هو كل من يصلح منه الرؤية وقيل هو الموصول أي فيرى القوم الذين (يسارعون فيهم) أي في مودة اليهود والنصارى وموالاتهم ومناصحتهم، لأنهم كانوا أهل ثروة ويسار يخالطونهم ويغشونهم لأجل ذلك نزلت في ابن أُبَيّ المنافق وأصحابه، وجعل المسارعة في موالاتهم مسارعة فيهم للمبالغة في بيان رغبتهم في ذلك حتى كأنهم مستقرون فيهم داخلون في عدادهم.
(يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة) جملة مشتملة على تعليل المسارعة في الموالاة أي أن هذه الخشية هي الحاملة لهم على المسارعة، والدائرة ما يدور من مكابرة الدهر ودوائره كالدولة التي تزول، أي يقول المنافقون إنما نخالط اليهود لأنا نخشى أن يدور علينا الدهر بمكروه وهو الهزيمة في الحرب والقحط والجدب والحوادث المخوفة.
قال ابن عباس: نخشى أن لا يتم أمر محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيدور علينا الأمر كما كان قبل محمد، يعني نخشى أن يظفر بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم فتكون الدولة لهم وتبطل دولته فيصيبنا منهم مكروه، وفرّق الراغب بين الدائرة والدولة بأن الدائرة هي الخط المحيط ثم عبر بها عن
الحادثة، وإنما يقال الداءّة في المكروه، والدولة في المحبوب.
(فعسى الله أن يأتي بالفتح) رد عليهم ودفع لما وقع لهم من الخشية، وعسى في كلام الله سبحانه وعد صادق لا يتخلف، والفتح ظهور النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الكافرين، ومنه ما وقع من قتل مقاتلة بني قريظة وسبى ذراريهم وإجلاء بني النضير، وقيل هو فتح بلاد المشركين على المسلمين وقيل فتح مكة.
(أو أمر من عنده) هو كل ما تندفع به صولة اليهود ومن معهم وتنكسر به شوكتهم وقيل هو إظهار أمر المنافقين وإخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما أسروا في أنفسهم، وأمره بقتلهم، وقيل هو الجزية التي جعلها الله عليهم وقيل الخصب والسعة للمسلمين.
(فيصبحوا) أي المنافقون (على ما أسرّوا في أنفسهم) من النفاق الحامل لهم على الموالاة (نادمين) على ذلك لبطلان الأسباب التي تخيلوها وانكشاف خلافها.
(ويقول الذين آمنوا) كلام مبتدأ مسوق لبيان ما وقع من هذه الطائفة، أي يقول الذين آمنوا مخاطبين لليهود ومشيرين إلى المنافقين وقت إظهار الله تعالى نفاقهم (أهؤلاء) الهمزة للاستفهام التعجبي (الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم) بالمناصرة والمعاضدة في القتال أو يقول بعض المؤمنين لبعض مشيرين إلى المنافقين، وهذه الجملة مفسرة للقول، وجهد الإيمان أغلظها.
(حبطت أعمالهم) أي بطلت، وهو من تمام قول المؤمنين، واستظهره أبو حيان وبه قال الزمخشري أو جملة مستأنفة والقائل هو الله سبحانه والأعمال هي التي عملوها في الموالاة أو كل عمل يعملونه، وعليه جمهور المفسرين (فأصبحوا خاسرين) في الدنيا بافتضاحهم، وفي الآخرة بإحباط ثواب أعمالهم وحصلوا بالعذاب الدائم المقيم.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55)
(يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه) هذا شروع في بيان أحكام المرتدين بعد بيان أن موالاة الكافرين من المسلم كفر، وذلك نوع من أنواع الردة، ذكر صاحب الكشاف أن إحدى عشرة فرقة من العرب ارتدت ثلاث في زمن رسوله الله صلى الله عليه وسلم وهم بنو مدلج ورئيسهم ذو الحمار، وبنو حنيفة وهم قوم مسيلمة الكذاب، وبنو أسد وهم قوم طلحة بن خويلد.
وارتد سبع فرق في خلافة أبي بكر الصديق وهم فزارة قوم عيينه بن حصن الفزاري، وغطفان قوم قرة بن سلمة القشيري، وبنو سليم قوم الفجاة ابن عبد ياليل، وبنو يربوع قوم مالك بن بريدة وبعض تميم قوم سجاح بنت المنذر، وكندة قوم الأشعث بن قيس الكندي، وبنو بكر بن وائل قوم الخطمي ابن يزيد، فكفى الله أمرهم على يد أبي بكر الصديق، وفرقة واحدة ارتدت في زمن خلافة عمر بن الخطاب وهم غسّان قوم جبلة بن الأيْهَم، فكفى الله أمرهم على يد عمر رضي الله عنه.
(فسوف يأتي الله بقوم) المراد بالقوم الذين وعد الله سبحانه بالإتيان بهم هم أبو بكر الصديق رضي الله عنه وجيشه من الصحابة والتابعين الذين قاتل بهم أهل الردة، ثم كل من جاء بعدهم من المقاتلين للمرتدين في جميع الزمن، قال بعض الصحابة ما ولد بعد النبيين أفضل من أبي بكر لقد قام مقام نبي من الأنبياء في قتال أهل الردة.
ولما هَمَّ أبو بكر بقتالهم كره ذلك بعض الصحابة وقال بعضهم هم أهل
القبلة، فتقلّد أبو بكر سيفه وخرج وحده فلم يجدوا بداً من الخروج على أثره، فقال ابن مسعود: كرهنا ذلك في الابتداء ثم حمدناه في الانتهاء.
وأخرج الحاكم والبيهقي وغيرهما عن أبي موسى الأشعري قال: تليت عند النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية فقال النبي صلى الله عليه وسلم قومك يا أبا موسى أهل اليمن، وفي الباب روايات (1).
وأخرج البخاري في تاريخه وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن جابر بن عبد الله قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول (فسوف يأتي الله بقوم) الآية فقال: هؤلاء قوم من أهل اليمن ثم كندة ثم السكون ثم تجيب (2).
وعن ابن عباس هم أهل القادسية، وقال السدي نزلت في الأنصار لأنهم هم الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأعانوه على إظهار الدين، والأول أولى.
ثم وصف الله سبحانه هؤلاء القوم بالأوصاف العظيمة المشتملة على غاية المدح ونهاية الثناء فقال: (يحبهم ويحبونه) من كونهم (أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين) وهذه من صفات الذين اصطفاهم الله يعني أنهم أرقاء رحماء لأهل دينهم، أشداء أقوياء غلظاء على أعدائهم، قاله علي، قال ابن عباس: تراهم كالولد لوالده وكالعبد لسيده، وهم في الغلظة على الكافرين كالسبع على فريسته.
قال ابن الأنباري: أثنى الله عليهم بأنهم يتواضعون للمؤمنين إذا لقوهم، ويعنفون الكافرين إذا لقوهم، ولم يرد ذل الهوان بل الشفقة والرحمة، وإنما أتى بلفظة (على) ليدل على علو منصبهم وفضلهم وشرفهم، والأذلة جمع
(1) ابن كثير 2/ 70.
(2)
ابن كثير 2/ 70.
ذليل لا ذلول، والأعزة جمع عزيز أي يظهرون الحنوّ والعطف والتواضع للمؤمنين، ويظهرون الشدة والغلظة والترفع على الكافرين.
(يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم) عذل عاذل في نصرهم الدين أي يجمعون بين المجاهدة في سبيل الله وعدم خوف الملامة في الدين، بل هم متصلبون لا يبالون بما يفعله أعداء الحق وحزب الشيطان من الإزراء بأهل الدين وقلب محاسنهم مساوئ ومناقبهم مثالب حسداً وبغضاً وكراهة للحق وأهله.
والإشارة بقوله: (ذلك) إلى ما تقدم من الصفات التي اختصهم الله بها (فضل الله) أي لطفه وإحسانه (يؤتيه من يشاء والله واسع) الفضل وكثير الفضائل (عليم) بمن هو أهلها.
(إنما وليّكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) عن ابن عباس قال: تصدّق عليّ بخاتم وهو راكع فأنزل الله فيه هذه الآية، وعن علي نحوه أخرجه أبو الشيخ وابن عساكر.
قلت: لما فرغ سبحانه من بيان من لا تحل موالاته بيَّن من هو الولي الذي تجب موالاته، والمراد بالركوع الخشوع والخضوع أي وهم خاشعون خاضعون لا يتكبرون، وقيل يضعون الزكاة في مواضعها غير متكبرين على الفقراء ولا مترفعين عليهم، وقيل المراد بالركوع على المعنى الثاني ركوع الصلاة، ويدفعه عدم جواز إخراج الزكاة في تلك الحال.
وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59)
(ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا) قال ابن عباس: يريد المهاجرين والأنصار ومن يأتي بعدهم (فإن حزب الله) أي أنصار دينه (هم الغالبون) بالحجة والبرهان فإنها مستمرة أبداً لا بالدولة والصولة، وإلا فقد غلب حزب الله غير مرة حتى في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، قاله الكرخي.
وعد الله سبحانه من يتولى الله ورسوله والذين آمنوا بأنهم الغالبون لعدوهم، والحزب الصنف من الناس من قولهم حزبه كذا أي نابه، فكأن المتحزبين مجتمعون كاجتماع أهل النائبة التي تنوب، وحزب الرجل أصحابه، والحزب الورد، وفي الحديث " فمن فاته حزبه من الليل " وتحزبوا اجتمعوا، والأحزاب الطوائف.
وقد وقع ولله الحمد ما وعد الله به أولياءه وأولياء رسله وأولياء عباده المؤمنين من الغلب لعدوهم فإنهم غلبوا اليهود بالسبي والقتل والإجلاء وضرب الجزية حتى صاروا لعنهم الله أذل الطوائف الكفرية وأقلها شوكة، وما زالوا تحت كلكل المؤمنين يطحنونهم كيف شاؤوا يمتهنونهم كما يريدون من بعد البعثة الشريفة المحمدية إلى هذه الغاية.
(يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً) هذا
النهي عن موالاة المتخذين للدين هزواً ولعباً يعم كل من حصل منه ذلك من المشركين وأهل الكتاب وأهل البدع المنتمين إلى الإسلام.
والبيان بقوله: (من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) لا ينافي دخول غيرهم تحت النهي إذا وجدت فيه العلة المذكورة التي هي الباعثة على النهي (والكفار) المشركين أو المنافقين (أولياء) أي أنصاراً لكم في الدين والدنيا (واتقوا الله) بترك موالاتهم وترك ما نهاكم عنه من هذا وغيره (إن كنتم مؤمنين) فإن الإيمان يقتضي ذلك.
(وإذا ناديتم إلى الصلاة) النداء الدعاء برفع الصوت، وناداه مناداة ونداء صاح به، وتنادوا أي نادى بعضهم بعضاً وتنادوا أي جلسوا في النادي.
(اتخذوها هزواً ولعباً) أي اتخذوا صلاتكم وقيل الضمير للمناداة المدلول عليها بناديتم.
قيل: وليس في كتاب الله تعالى ذكر الأذان إلا في هذا الموضع، وأما قوله تعالى في سورة الجمعة إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فهو خاص بنداء الجمعة، وقد اختلف أهل العلم في كون الأذان واجباً أو غير واجب، وفي ألفاظه هو مبسوط في مواطنه (ذلك بأنهم قوم لا يعقلون) الباء للسببية لأن الهزو واللعب شأن أهل السفه والخفة والطيش.
(قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا) أي تكرهون من أوصافنا وأحوالنا، قرأ الجمهور بكسر القاف وقرأ بفتحها، وهاتان مفرعتان على الماضي وفيه لغتان، الفصحى نقم بفتح القاف ينقم بكسرها حكاها ثعلب، والأخرى بعكس ذلك فيهما حكاها الكسائي، ولم يقرأ قوله:(وما نقموا) إلا بالفتح وأصل نقم أن يتعدى بعلى، يقال نقمت على الرجل أنقم بالكسر فيهما فأنا ناقم
إذا عتبت عليه، وإنما عُدّي هنا بمن لتضمنه معنى تكرهون وتنكرون.
في الصحاح ما نقمت منه إلا الإحسان، وقال الكسائي: نقمت بالكسر لغة، ونقمت الأمر أيضاً ونقمته إذا كرهته، وانتقم الله منه أي عاقبه، والاسم منه النقمة والجمع نقمات ونقم مثل كلمة وكلمات وكلم، وإن شئت سكّنت القاف ونقلت حركتها إلى النون فقلت نقمة والجمع نقم مثل نعمة ونعم، وقيل المعنى تسخطون وقيل تنكرون أي هل تعيبون أو تسخطون أو تنكرون أو تكرهون منا.
(إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل) أي إلا ايماننا بالله وبكتبه المنزّلة وقد علمتم بأنّا على الحق، وهذا على سبيل التعجب من فعل أهل الكتاب، والاستثناء مفرغ أي ليس هذا مما ينكر أو ينقم به.
(وإن أكثركم فاسقون) بترككم للإيمان، والخروج عن امتثال أوامر الله أي ما تنقمون منا إلا الجمع بين إيماننا وبين تمردكم وخروجكم عن الإيمان.
وفيه أن المؤمنين لم يجمعوا بين الأمرين المذكورين، فإن الإيمان من جهتهم، والتمرد والخروج من الناقمين، وقيل هو على تقدير محذوف أي واعتقادنا أن أكثركم فاسقون وقيل غير ذلك.
خاتمة الجزء الثالث
تم الجزء الثالث بفضل الله ونعمته ويليه الجزء الرابع وأوله تفسير آيه 60 من سورة المائدة وتبدأ بقوله تعالى: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)