الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً
(150)
(إن الذين يكفرون بالله ورسله) لما فرغ سبحانه عن ذكر المشركين والمنافقين، ذكر الكفار من أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى لأنهم كفروا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، فكان ذلك كالكفر بجميع الرسل والكتب المنزلة والكفر بذلك كفر بالله.
وينبغي حمل هذه الآية على أنه استلزم ذلك كفرهم ببعض الكتب والرسل لا أنهم كفروا بالله ورسله جميعاً، فإن أهل الكتاب لم يكفروا بالله، ولا بجميع رسله لكنهم لما كفروا بالبعض كان ذلك كفراً بالله وبجميع الرسل.
(ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله) يعني أنهم كفروا بالرسل بسبب كفرهم ببعضهم وآمنوا بالله فكان ذلك تفريقاً بين الله وبين رسله (ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض) وهم اليهود آمنوا. بموسى وكفروا بعيسى ومحمد، وكذلك النصارى آمنوا بعيسى وكفروا بمحمد (ويريدون أن يتخذوا بين ذلك) أي الإيمان والكفر (سبيلاً) أي ديناً متوسطاً بينهما.
قال قتادة: أولئك أعداء الله اليهود والنصارى آمنت اليهود بالتوراة وبموسى، وكفروا بالإنجيل وعيسى، وآمنت النصارى بالإنجيل وعيسى، وكفروا بالقرآن ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم، اتخذوا اليهودية والنصرانية وهما بدعتان ليستا من الله، وتركوا الإسلام وهو دين الله الذي بعث به رسله، وعن السدي وابن جريج نحوه.
أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152)
(أولئك هم الكافرون) أي الكاملون في الكفر (حقّاً) مصدر مؤكد لمضمون الجملة أي حق ذلك حقاً أو بمعنى كفراً حقاً، وقال أبو البقاء: كافرون من غير شك، وقد طعن الواحدي في هذا التوجيه فقال الكفر لا يكون حقاً بوجه من الوجوه، والجواب أن الحق هنا ليس يراد به ما يقابل الباطل بل المراد أنه كائن لا محالة وأن كفرهم مقطوع به.
(وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً) يهانون فيه في الآخرة وهو عذاب النار، وإنما أظهر في مقام الإضمار ذماً لهم وتذكيراً لوصفهم أو المراد جميع الكافرين.
(والذين آمنوا بالله ورسله) كلهم (ولم يفرّقوا بين أحدهم) أي من الرسل بل آمنوا بجميعهم ولم يقولوا نؤمن ببعض ونكفر ببعض، ودخول (بين) على أحد لكونه عاماً في المفرد مذكراً ومؤنثاً ومثنّاهما وجمعهما، وقد تقدم تحقيقه.
(أولئك) يعني من هذه صفتهم (سوف يؤتيهم أجورهم) يعني جزاء إيمانهم بالله وبجميع كتبه ورسله وثواب أعمالهم (وكان الله غفوراً رحيماً) يستر السيئآت ويقبل الحسنات، والآية تدل على بطلان قول المعتزلة في تخليد مرتكب الكبيرة ممن آمن بالله ورسله.
يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154)
(يسألك أهل الكتاب أن تنزّل عليهم كتاباً من السماء) هم اليهود سألوه صلى الله عليه وسلم أن يرقى إلى السماء وهم يرونه فينزل عليهم كتاباً مكتوباً فيما يدعيه يدل على صدقه دفعة واحدة كما أتى موسى بالتوراة، تعنتاً منهم أبعدهم الله (فقد سألوا موسى) سؤالاً (أكبر من ذلك) السؤال (فقالوا أرنا الله جهرة) أي عياناً، وقد تقدم معناه في البقرة، وجهرة نعت لمصدر محذوف أي رؤية جهرة.
(فأخذتهم الصاعقة) هي النار التي نزلت عليهم من السماء فأهلكتهم (بظلمهم) في سؤالهم الباطل لامتناع الرؤية عياناً في هذه الحالة، وذلك لا يستلزم امتناعها يوم القيامة، فقد جاءت بذلك الأحاديث المتواترة، ومن استدل بهذه الآية على امتناع الرؤية يوم القيامة فقد غلط غلطاً بيناً.
ثم لم يكتفوا بهذا السؤال الباطل الذي نشأ منهم بسبب ظلمهم بعد ما رأوا المعجزات بل ضموا إليه ما هو أقبح منه وهو عبادة العجل (ثم اتخذوا العجل) إلهاً، وفي الكلام تقدير أي فأحييناهم فاتخذوا العجل (من بعد ما جاءتهم البينات) البراهين والدلائل والمعجزات الواضحات من اليد والعصا وفلق البحر وغيرها لا التوراة لأنها لم تنزل عليهم بعد.
(فعفونا عن ذلك) أي عما كان منهم من التعنت وعبادة العجل، وفيه
استدعاء لهم إلى التوبة كأنه قيل إن أولئك الذين أجرموا قد تابوا فعفونا عنهم، فتوبوا أنتم حتى نعفو عنكم (وآتينا موسى سلطاناً مبيناً) أي حجّة بينة وهي الآيات التي جاء بها، وسميت سلطاناً لأن من جاء بها قهر خصمه، ومن ذلك أمر الله سبحانه له بأن يأمرهم بقتل أنفسهم توبة عن معصيتهم فإنه من جملة السلطان الذي قهرهم به، والسلاطة القهر.
(ورفعنا فوقهم الطور) أي الجبل المسمى بالطور (بميثاقهم) الباء للسببية أي بسبب ميثاقهم ليعطوه لأنه روي أنهم امتنعوا من قبول شريعة موسى فرفع الله عليهم الطور فقبلوها، وقيل إن المعنى بسبب نقضهم ميثاقهم الذي أخذ عليهم وهو العمل بما في التوراة، وقد تقدم رفع الجبل في البقرة، وكذلك تفسير قوله:
(وقلنا لهم) على لسان موسى والطور مظل عليهم، قاله الجلال وأبو السعود والنسفي والخازن والبيضاوي، وهذا التقييد سبق قلم لأن قصة فتح القرية كانت بعد خروجهم من التّيه وقصة رفع الجبل فوق رؤسهم كانت عقب نزول التوراة قبل دخولهم التيه.
(ادخلوا الباب) أي باب القرية، قال قتادة: كنا نحدث أنه باب من أبواب بيت المقدس، وقيل هو إيلياء وقيل هو أريحاء وقيل هو اسم قرية، وقيل باب القبة التي كانوا يصلون إليها، فإنهم لم يدخلوا بيت المقدس في حياة موسى عليه السلام.
(سجّداً) فخالفوا ودخلوا وهم يزحفون على أستاههم (وقلنا لهم لا تعدوا) أي لا تعتدوا فهو من الإعتداء بدليل إجماع السبعة على اعتدوا منكم (في السبت) فتأخذوا ما أمرتم بتركه فيه من الحيتان، وقد تقدم تفسير ذلك (وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً) هو العهد الذي أخذه عليهم في التوراة، وقيل إنه عهد مؤكد باليمين فسمي غليظاً لذلك.
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156)
(فبما نقضهم ميثاقهم) التقدير فبنقضهم ميثاقهم لعنّاهم وسخطنا عليهم وفعلنا بهم ما فعلنا، وما مزيدة للتوكيد والباء للسببية، وقال الكسائي: وهو متعلق بما قبله، والمعنى فأخذتهم الصاعقة بسبب نقضهم ميثاقهم وما بعده، وأنكر ذلك ابن جرير الطبري وغيره لأن الذين أخذتهم الصاعقة كانوا على عهد موسى، والذين قتلوا الأنبياء ورموا مريم بالبهتان كانوا بعد موسى بزمان، فلم تأخذ الصاعقة الذين أخذتهم برميهم بالبهتان.
قال المهدوي وغيره: وهذا لا يلزم لأنه يجوز أن يخبر عنهم والمراد آباؤهم، وقال الزجاج: المعنى فبنقضهم ميثاقهم حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم، لأن هذه القصة ممتدة إلى قوله (فبظلم من الذين هادوا حرمنا) ونقضهم الميثاق أنه أخذ عليهم أن يبينوا صفة النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل المعنى فبنقضهم ميثاقهم وفعلهم كذا طبع الله على قلوبهم، وقيل المعنى فبنقضهم لا يؤمنون إلا قليلاً.
(وكفرهم بآيات الله) أي كتبه التي حرفوها وجحودهم بآياته الدالة على صدق أنبيائه (وقتلهم الأنبياء) يعني بعد قيام الحجة والدلالة على صحة نبوتهم، والمراد بالأنبياء يحيى وزكريا (بغير حق) أي بغير استحقاق لذلك القتل (وقولهم قلوبنا غلف) جمع أغلف وهو المغطى بالغلاف أي قلوبنا في أغطية فلا نفقه ما تقول.
وقيل إن غلف جمع غلاف والمعنى أن قلوبهم أوعية للعلم فلا حاجة
لهم إلى علم غير ما قد حوته قلوبهم، وهو كقولهم (قلوبنا في أكنّة) وغرضهم بهذا رد حجة الرسل.
(بل طبع الله عليها بكفرهم) هذا إضراب عن الكلام الأول أي ليس عدم قبولهم للحق بسبب كونها غلفاً بحسب مقصدهم الذي يريدونه بل بحسب الطبع من الله عليها، والطبع الختم، وقد تقدم إيضاح معناه في البقرة وهي مطبوع من الله عليها بسبب كفرهم فلا تعي وعظاً، أي أحدث عليها صورة مانعة عن وصول الحق إليها، وقيل الباء للآلة.
(فلا يؤمنون إلا) إيماناً أو زماناً (قليلاً) أو إلا قليلاً منهم كعبد الله بن سلام ومن أسلم منهم معه وجرى عليه البيضاوي وغيره.
(وبكفرهم) هذا التكرير لإفادة أنهم كفروا كفراً بعد كفر، وقيل: إن المراد بهذا الكفر كفرهم بالمسيح فحذف لدلالة ما بعده عليه، وذلك أنهم أنكروا قدرة الله على خلق الولد من غير أب والمنكر لها كافر، وهو معطوف على (فبما نقضهم) أو على بكفرهم الذي بعد طبع، وقد أوضح الزمخشري ذلك غاية الإيضاح، واعترض وأجاب أحسن جواب.
(وقولهم على مريم بهتاناً) هو الكذب المفرط الذي يتعجب منه، وهو هنا رميها بيوسف النجار، وكان من الصالحين، وقال ابن عباس: رموها بالزنا وإنما سماه (عظيماً) لأنه قد ظهر عند ولادة مريم من المعجزات ما يدل على براءتها من ذلك.