المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ - فتح البيان في مقاصد القرآن - جـ ٣

[صديق حسن خان]

الفصل: وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ

وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ‌

(104)

(ولا تهنوا في ابتغاء القوم) من وهن بالكسر في الماضي أو من وهن بالفتح أي لا تضعفوا في طلبهم وقتالهم وأظهروا القوة والجلد، وقريء تهانوا من الإهانة مبنياً للمفعول أي لا تتعاطوا من الجبن والخور ما يكون سبباً في إهانتكم.

(إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون) تعليل للنهي المذكور قبله أي ليس ما تجدونه من ألم الجراح ومزاولة القتال مختصاً بكم، بل هو أمر مشترك بينكم وبينهم، فليسوا بأولى منكم بالصبر على حر القتال ومرارة الحرب.

ومع ذلك فلكم عليهم مزيّة لا توجد فيهم (و) هي أنكم (ترجون من الله) من الأجر وعظيم الجزاء (ما لا يرجون) لكفرهم وجحودهم فأنتم أحق بالصبر منهم وأولى بعدم الضعف منهم، فإن أنفسكم قوية لأنها ترى الموت مغنماً وهم يرونه مغرماً، ونظير هذه الآية قوله تعالى (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله).

وقيل: إن الرجاء هنا بمعنى الخوف لأن من رجا شيئاً فهو غير قاطع بحصوله فلا يخلو من خوف ما يرجو، وقال الفراء والزجاج: لا يطلق الرجاء بمعنى الخوف إلا مع النفي كقوله تعالى: (مالكم لا ترجون لله وقاراً) أي لا تخافون له عظمة.

(وكان الله عليماً حكيماً) لا يأمركم بشيء إلا وهو يعلم أنه مصلحة لكم.

ص: 229

إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106)

ص: 230

(إنا أنزلنا إليك الكتاب) أي القرآن (بالحق) أي متلبساً به، والحق الصدق أو الأمر والنهي والفصل بين الناس (لتحكم بين الناس بما أراك) أي أعلمك (الله) إما بوحي أو بما هو جار على سنن ما قد أوحى إليك به، وليس المراد هنا رؤية العين لأن الحكم لا يرى بل المراد ما عرّفه الله به وأرشده إليه، وإنما سمي العلم اليقيني رؤية لأنه جرى مجرى الرؤية في قوة الظهور.

روي عن عمر أنه قال: لا يقولن أحدكم قضيت بما أراني الله، فإن الله لم يجعل ذلك إلا لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن ليجهد رأيه لأن الرأي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان مصيباً لأن الله كان يريه إياه، وإن رأى أحدنا يكون ظناً ولا يكون علماً، وقد دلت هذه الآية على أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما كان يحكم إلا بالوحي الإلهي.

(ولا تكن للخائنين) أي لأجلهم (خصيماً) مخاصماً عنهم مجادلاً للمحقين بسببهم، وفيه دليل على أنه لا يجوز لأحد أن يخاصم عن أحد إلا بعد أن يعلم أنه محق، ونزلت هذه الآية في بني الأبيرق، وقد رويت هذه القصة مختصرة ومطولة عن جماعة من التابعين عند أهل السنن وغيرهم لا نطوّل بذكرها (1).

(1) روى ابن مردويه من طريق العوفي عن ابن عباس أن نفراً من الأنصار غزوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته، فسرقت درع لأحدهم فأظن بها رجل من الأنصار، فأتى صاحب الدرع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أن طعمة بن أبيرق سرق درعي، فلما رأى السارق ذلك عمد إليها فألقاها في بيت رجل بريء وقال لنفر من عشيرته إني غيبت الدرع وألقيتها في بيت فلان، وستوجد عنده، فانطلقوا إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم ليلاً فقالوا يا نبي الله إن صاحبنا بريء وإن صاحب الدرع فلان وقد

⦗ص: 231⦘

أحطنا بذلك علماً فاعذر صاحبنا على رؤوس الناس وجادل عنه فإنه إن لم يعصمه الله بك يهلك فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فبرأه وعذره على رؤوس الناس فأنزل الله (إنا أنزلنا الكتاب بالحق ليحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيماً) ورواه الترمذي والحاكم وابن جرير وغيرهم بأطول من هذا قلت إسناده ضعيف جداً.

ص: 230

(واستغفر الله) أمر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالاستغفار، قال ابن جرير: إن المعنى استغفر الله من ذنبك في خصامك للخائنين، وقيل المعنى واستغفر الله للمذنبين من أمتك والمخاصمين بالباطل والأول أرجح (إن الله كان غفوراً رحيماً).

وقد تمسك بهذه الآية من يرى جواز صدور الذنب من الأنبياء وقالوا لو لم يقع منه صلى الله عليه وسلم ذنب لما أمر بالاستغفار، والجواب عنه بوجوه ذكرها الخازن في تفسيره (1).

(1) لا شك أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما يتحدث أو يعمل كرسول، أي مبلغاً أو داعياً فهو معصوم، أما إذا كان يتحدث أو يعمل من عند نفسه في الأمور العامة التي ليست جزءاً من الرسالة فهو بشر، يمكن أن يخطىء، ويغلب أن يصيب، وقد وضح الرسول ذلك بقوله في الحديث الذي رواه رافع بن خديج " إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من أمر دينكم فخذوا به وإذا أمرتكم بشيء من رأي فأنا بشر " وكان الصحابة يفرقون بين محمد النبي ومحمد الإنسان، يتضح ذلك في المثال الذي حدث في غزوة بدر، فإن الرسول اختار مكاناً ليهىء فيه جنده للقتال، فسأله أحدهم: هل هذا الاختيار وحي من الله أو اجتهاد من عندك؟ فأجابه صلى الله عليه وسلم: بل هو اجتهاد من عندي، فقال الرجل هناك مكان أصلح من هذا، فانتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إليه.

ص: 231

وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108)

ص: 232

(ولا تجادل) أي لا تحاجج (عن الذين يختانون) أي يخونون (أنفسهم) بالمعاصي، والمجادلة مأخوذ من الجدل وهو الفتل، وقيل مأخوذ من الجدالة وهي وجه الأرض لأن كل واحد من الخصمين يريد أن يلقى صاحبه عليها، وسمى ذلك خيانة لأنفسهم لأن ضرر معصيتهم راجع إليهم (إن الله لا يحب) عدم المحبة كناية عن البغض، وإنما قال (من كان خواناً أثيماً) على المبالغة لأنه تعالى علم منه الإفراط في الخيانة وركوب المآثم.

ص: 232

(يستخفون من الناس) يستترون منه كقوله (من هو مستخف بالليل) أى مستتر قيل معناه يستحيون من الناس (ولا يستخفون من الله) أي لا يستترون ولا يستحيون منه (وهو) أي والحال أنه (معهم) بالعلم والقدرة في جميع أحوالهم، عالم بما فيه فكيف يستخفون منه، وكفى بذلك زجراً للإنسان عن ارتكاب الذنوب.

وكفى بهذه الآية ناعية على ما هم من قلة الحياء والخشية من ربهم مع علمهم أنهم في حضرته لا سترة ولا غيبة (إذ يبيّتون) أى يدبرون الرأي بينهم، وسماه تبييتاً لأن الغالب أن تكون إدارة الرأي بالليل (ما لا يرضى من القول) أي من الرأي الذي أداروه بينهم وسماه قولاً لأنه لا يحصل إلا بعد المقاولة بينهم (وكان الله بما يعملون محيطاً) عالماً علم إحاطة لا يخفى عليه شيء من أسرار عباده وهو مطلع عليهم، لا تخفى عليه خافية.

ص: 232

هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (109) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110)

ص: 233

(ها أنتم هؤلاء) يعني القوم الذين جادلوا عن صاحبهم السارق، قال الزجاج: أولاء بمعنى الذين، والخطاب هنا على طريق الالتفات للإيذان بأنّ تعديد جناياتهم يوجب مشافهتهم بالتوبيخ والتقريع (جادلتم) أى خاصمتم (عنهم) وحاججتم، وأصل الجدال شدة الفتل لأن كل واحد من الخصمين يريد أن يفتل صاحبه عما هو عليه.

(في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة) الاستفهام للإنكار والتوبيخ أي فمن يخاصم ويجادل الله عنهم عند تعذيبهم بذنوبهم (أم من يكون عليهم وكيلاً) أي مجادلاً ومخاصماً، الوكيل في الأصل القائم بتدبير الأمور، والمعنى من ذاك يقوم بأمرهم إذا أخذهم الله بعذابه، ومن يكون محامياً عنهم من بأس الله إذا نزل بهم.

ص: 233

(ومن يعمل سوءاً) هذا من تمام القصة السابقة والمراد بالسوء القبيح الذي يسوء به غيره (أو يظلم نفسه) بفعل معصية من المعاصي أو ذنب من الذنوب التي لا تتعدى إلى غيره (ثم يستغافر الله) يطلب منه أن يغفر له ما قارفه من الذنب (يجد الله غفوراً) لذنبه (رحيماً) به وفيه ترغيب لمن وقع منه السرق من بني أبيرق أن يتوب إلى الله ويستغفره وأنه غفور لمن يستغفره رحيم به.

وقال الضحاك: إن هذه الآية نزلت في شأن وحشي قاتل حمزة أشرك بالله وقتل حمزة ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال هل لي من توبة فنزلت، وعلى كل

ص: 233

حال فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فهي لكل عبد من عباد الله أذنب ذنباً ثم استغفر الله سبحانه.

وعن ابن عباس قال: أخبر الله عباده بحلمه وعفوه وكرمه وسعة رحمته ومغفرته، فمن أذنب ذنباً صغيراً كان أو كبيراً ثم استغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً ولو كانت ذنوبه أعظم من السموات والأرض والجبال، وعن ابن مسعود من قرأ هاتين الآيتين من سورة النساء ثم استغفر الله غفر له (ومن يعمل سوءاً) الآية (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم) الآية.

وقد ورد في قبول الاستغفار وأنه يمحو الذنب أحاديث كثيرة مدونة في كتب السنة، وفي هذه الآية دليل على حكمين.

(أحدهما) أن التوبة مقبولة عن جميع الذنوب الكبائر والصغائر.

(والثاني) أن مجرد الاستغفار كاف كما هو ظاهر الآية وقيل: إنه مقيد بالتوبة (1).

(1) روى الإمام أحمد في " المسند " 1/ 174 عن علي رضي الله عنه قال: كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً نفعني الله بما شاء أن ينفعني منه، وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من مسلم يذنب ذنباً ثم يتوضأ فيصلي ركعتين، ثم يستغفر الله تعالى لذلك الذنب إلا غفر له " وقرأ هاتين الآيتين: (ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً) (والذين إذا فعلوا فاحشة، أو ظلموا أنفسهم

) الآية [آل عمران: 135] ورواه الترمذي: 2/ 257، وابن حبان في " صحيحه " وهو حديث حسن. وقد ذكر في " التهذيب " 1/ 268 تحسينه عن ابن عدي.

ص: 234

وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112)

ص: 235

(ومن يكسب إثماً) من الآثام بذنب يذنبه وهو إجمال بعد تفصيل (فإنّما يكسبه على نفسه) أي فعاقبته عائده عليه ولا يضر غيره، والكسب ما يجر به الإنسان إلى نفسه نفعاً أو يدفع ضرراً، ولهذا لا يسمى فعل الرب كسباً، قاله القرطبي (وكان الله عليماً) بما في قلب عبده عند إقدامه على التوبه (حكيماً) لا يعاقب بالذنب غير فاعله ويتجاوز عن التائب ويغفر له ويقبل توبته.

ص: 235

(ومن يكسب خطيئة أو إثماً) قيل هما بمعنى واحد كرر للتأكيد، وقال الطبري إن الخطيئة تكون عن عمد وعن غير عمد، والإثم لا يكون إلا عن عمد، وقيل الخطيئة الصغيرة، والإثم الكبيرة، وقيل الأول ذنب بينه وبين ربه والثاني ذنب في مظالم العباد، وقيل الخطيئة هي المختصة بفاعله والإثم المتعدي إلى الغير.

(ثمّ يرم به بريئاً) منه، توحيد الضمير لكون العطف بأو، أو لتغليب الإثم على الخطيئة وقيل إنه يرجع إلى الكسب (فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً) لما كانت الذنوب لازمة لفاعلها كانت كالثقل الذي يحمل، ومثله (وليحملنّ أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم) والبهتان مأخوذ من البهت وهو الكذب على البرىء بما يتبهّت له ويتحير منه.

يقال بهته بهتاً وبهتاناً إذا قال عليه ما لم يقل، ويقال بهت الرجل بالكسر إذا دهش وتحير، وبهت بالضم ومنه (فبهت الذي كفر) والمبين الواضح.

ص: 235