الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ
(81)
(وكيف أخاف ما أشركتم) أي كيف أخاف ما لا يضر ولا ينفع ولا يخلق ولا يرزق ولا يبصر ولا يسمع ولا يقدر شيئاً استئناف مسوق لنفي الخوف عنه بالطريق الإلزامي بعد نفيه عنه بحسب الواقع ونفس الأمر بقوله سابقاً ولا أخاف ما تشركون به.
(ولا تخافون أنكم أشركتم بالله) أي والحال أنكم لا تخافون ما صدر منكم من الشرك بالله وهو الضار النافع الخالق الرازق، أورد عليهم هذا الكلام الإلزامي الذي لا يجدون عنه مخلصاً ولا متحولاً، والاستفهام للإنكار عليهم والتقريع لهم.
(ما لم ينزل به عليكم سلطاناً) أي ما ليس لكم فيه حجة وبرهان يعني لا تخافون أنكم جعلتم الأشياء التي لم ينزل بها عليكم سلطاناً شركاء لله، والمعنى أن الله سبحانه لم يأذن بجعلها شركاء له ولا نزل عليهم بإشراكها حجة يحتجون بها، فكيف عبدوها واتخذوها آلهة وجعلوها شركاء الله سبحانه.
(فأي الفريقين أحق بالأمن) المراد فريق المؤمنين وفريق المشركين أي إذا كان الأمر على ما تقدم من أن معبودي هو الله المتصف بتلك الصفات، ومعبودكم هي تلك المخلوقات والجمادات، فكيف تخوفوني بها وكيف أخافها وهي بهذه المنزلة، ولا تخافون من إشراككم بالله سبحانه، وبعد هذا فأخبروني أي الفريقين أحق بالأمن من العذاب وعدم الخوف في يوم القيامة الموحد أم المشرك، ولم يقل أينا أحق أنا أم أنتم احترازاً عن تزكية نفسه، والمراد من الأحق الحقيق.
(إن كنتم تعلمون) بحقيقة الحال وتعرفون البراهين الصحيحة وتميزونها عن الشبه الباطلة، ثم قال الله سبحانه قاضياً بينهم ومبيناً لهم:
الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)
(الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) أي هم الأحق بالأمن من الذين أشركوا، وقيل من تمام قول إبراهيم، وقيل هو من قول قوم إبراهيم، أقوال للعلماء وعليها تترتب الأعاريب التي ذكرها السمين في هذا المقام لا نطول بذكرها، والمعنى لم يخلطوه بظلم والمراد بالظلم الشرك وقد فسره به أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وحذيفة بن اليمان وسلمان الفارسي وأبي بن كعب وابن عباس.
وقد روي عن جماعة من التابعين مثل ذلك، ويغني عن الجميع في تفسير الآية ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقالوا: أينا لم يظلم نفسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:" ليس هو كما تظنون إنما هو كما قال لقمان يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم "(1).
والعجب من صاحب الكشاف حيث يقول في تفسير هذه الآية وأبى تفسير الظلم بالكفر لفظ اللبس، وهو لا يدري أن الصادق المصدوق قد فسرها بهذا، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل.
وفي زاده على البيضاوي وذهب المعتزلة إلى أن المراد بالظلم في الآية المعصية لا الشرك بناء على أن خلط أحد الشيئين بالآخر يقتضي اجتماعهما ولا
(1) ابن كثير 2/ 152 - 153.
يتصور خلط الإيمان بالشرك لأنهما ضدان لا يجتمعان، وهذه الشبهة ترد عليهم بأن يقال كما أن الإيمان لا يجامع الكفر فكذلك المعصية لا تجامع الإيمان عندكم لكونه إسماً لفعل الطاعات واجتناب المعاصي، فلا يكون مرتكب الكبيرة مؤمناً عندكم انتهى.
والإشارة بقوله: (أولئك) إلى الموصول المتصف بما ذكر (لهم الأمن) يوم القيامة من عذاب النار، وفي الآية دليل على أن من مات لا يشرك بالله شيئاً كانت عاقبته الأمن من عذاب النار، والجملة وقدت خبراً عن اسم الإشارة هذا أوضح ما قيل مع احتمال غيره من الوجوه (وهم مهتدون) إلى الحق ثابتون عليه، وغيرهم على ضلال وجهل.
والإشارة بقوله:
(وتلك حجتنا) إلى ما تقدم من الحجج التي أوردها إبراهيم عليهم، أي تلك البراهين التي جرت بين إبراهيم وبين قومه من قوله:(فلما جن عليه الليل) أو من قوله: (أتحاجوني) إلى قوله: (وهم مهتدون) وقال السمين من قوله: (وكذلك نرى إبراهيم) إلى قوله وما أنا من المشركين.
(آتيناها إبراهيم) أي أعطيناها إياه وأرشدناه إليها حجة (على قومه نرفع درجات من نشاء) بالهداية والعلم والفهم والعقل والفضيلة والإرشاد إلى الحق وتلقين الحجة أو بما هو أعم من ذلك، وفيه نقض قول المعتزلة في الأصلح قال الضحاك: إن للعلماء درجات كدرجات الشهداء (إن ربك حكيم) في كل ما يصدر عنه (عليم) بحال عباده أن منهم من يستحق الرفع ومنهم من لا يستحقه، خطاب لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم على ما قاله السمين وأبو حيان.
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86)
(ووهبنا له إسحق) إبناً لصلبه (ويعقوب) ولد الولد أي وهبنا له ذلك جزاء على الاحتجاج في الدين وبذل النفس فيه، والمقصود من تلاوة هذه المنعم على محمد صلى الله عليه وآله وسلم تشريفه لأن شرف الوالد يسري إلى الولد، وجملة ما ذكر في هذه الآية ثمانية عشر رسولاً وبقي سبعة وهم آدم وإدريس وشعيب وصالح وهود وذو الكفل ومحمد فهؤلاء الخمسة والعشرون رسولاً هم الذين يجب الإيمان بهم تفصيلاً.
(كلا) أي كل واحد منهما (هدينا) إلى سبيل الرشاد وطريق الحق والصواب الذي أوتيه إبراهيم فإنهما مقتديان به (ونوحاً هدينا) بين آدم ونوح ألف ومائة سنة، وعاش آدم تسعمائة وستين سنة ونوح ابن لمك وكان بين إدريس ونوح ألف سنة، وإبراهيم ولد على رأس ألفي سنة من آدم وبينه وبين نوح عشرة قرون، وعاش إبراهيم مائة وخمساً وسبعين سنة، وولده إسمعيل عاش مائة وثلاثين سنة، وكان له حين مات أبوه تسع وثمانون سنة. وأخوه إسحق ولد بعده بأربع عشرة سنة وعاش مائة وثمانين سنة.
ويعقوب بن إسحاق عاش مائة وسبعاً واربعين، ويوسف بن يعقوب عاش مائة وعشرين سنة، وبينه وبين موسى أربعمائة سنة، وبين موسى وإبراهيم خمسمائة وخمس وستون سنة، وعاش موسى مائة وعشرين سنة، وبين موسى وداود خمسمائة وتسع وستون سنة وعاش مائة سنة، وولده
سليمان عاش نيفاً وخمسين سنة، وبينه وبين مولد النبي صلى الله عليه وسلم نحو ألف وسبعمائة سنة.
وأيوب عاش ثلاثاً وستين سنة وكانت مدة بلائه سبع سنين، ويونس هو ابن متى وهي أمه ذكره السيوطي في التحبير في علم التفسير.
(من قبل) أي من قبل إبراهيم بعشرة قرون، وأرشدناه للحق والصواب ومننا عليه بالهداية (ومن ذريته) أي من ذرية إبراهيم لأن مساق النظم الكريم لبيان شؤونه العظيمة من إيتاء الحجة ورفع الدرجات وهبة الأولاد الأنبياء وإبقاء هذه الكرامة في نسله إلى يوم القيامة، كل ذلك لإلزام من ينتمي إلى ملته عليه السلام من المشركين واليهود.
وقال الفراء: من ذرية نوح واختاره ابن جرير والطبري والقشيري وابن عطية وجمهور المفسرين لأنه أقرب، ولأن يونس ولوطاً ليسا من ذرية إبراهيم، فلو كان الضمير له لاختص بالمعدودين في هذه الآية والتي بعدها، وأما المذكورون في الآية الثالثة فعطف على نوحاً وقال الزجاج: كلا القولين جائز لأن ذكرهما جميعاً قد جرى.
(داود) هو ابن ميشا وكان ممن آتاه الله الملك والنبوة (وسليمان) كذلك وهو ابن داود (وأيوب) هو ابن اموص بن رازخ بن روم بن عيص بن إسحق بن إبراهيم (ويوسف) هو ابن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم (وموسى) هو ابن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب (وهرون) هو أخو موسى وكان أكبر منه بسنة، وإنما عد الله سبحانه هداية هؤلاء الأنبياء من النعم التي عددها إبراهيم لأن شرف الأبناء متصل بالآباء.
(وكذلك) الجزاء (نجزي المحسنين)
(وزكريا) هو ابن آدن بن بركيا (ويحيى) هو ابن زكريا (وعيسى) هو ابن مريم بنت عمران (وإلياس) هو إدريس قاله ابن مسعود، وقال محمد بن إسحق: هو إلياس بن سنا بن
فنحاص ابن العيزار بن هرون بن عمران، وهذا هو الصحيح لأن أهل الأنساب قالوا إن إدريس جد نوح ولأن الله نسب إلياس في هذه الآية إلى نوح وجعله من ذريته، وقال الضحاك: إلياس من ولد إسمعيل.
وقال القتيبي: هو من سبط يوشع بن نون، قال محمد بن كعب: الخال والد، والعم والد نسب الله عيسى إلى أخواله فقال:(ومن ذريته) حتى بلغ إلى قوله زكريا ويحيى وعيسى.
أخرج أبو الشيخ والحاكم والبيهقي عن عبد الملك بن عمير قال: دخل يحيى بن يعمر على الحجاج فذكر الحسين رضي الله عنه فقال الحجاج: لم يكن من ذرية النبي صلى الله عليه وسلم فقال يحيى: كذبت فقال: لتأتيني على ما قلت ببينة فتلا (ومن ذريته إلى قوله وعيسى) فأخبر الله أن عيسى من ذرية آدم بأمه فقال صدقت، وقد رويت هذه القضية بألفاظ وطرق، وفيه دليل على أن النسب يثبت من قبل الأم أيضاً لأنه جعله من ذرية نوح وهو لا يتصل به إلا بالأم.
(كل من الصالحين) أي كل من ذكرنا وسمينا من أهل الصلاح
(وإسمعيل) هو ابن إبراهيم، وإنما أخر ذكره إلى هنا لأنه ذكر إسحق وذكر أولاده من بعده على نسق واحد.
(واليسع) هو ابن أخطوب بن العجوز وقد توهم قوم أن اليسع هو إلياس وهو وهم فإن الله أفرد كل واحد منهما، وقال وهب اليسع صاحب إلياس وكانا قبل يحيى وعيسى وزكريا وقيل اليسع هو الخضر (ويونس) هو ابن متى (ولوطاً) هو ابن هاران أخي إبراهيم (وكُلّا فضلنا على العالمين) أي وكل واحد فضلناه بالنبوة على عالمي زمانه، والجملة معترضة.
ويستدل بهذه الآية من يقول: إن الأنبياء أفضل من الملائكة لأن العالم اسم لكل موجود سوى الله فيدخل فيه الملك، وقد ذكر سبحانه هنا ثمانية عشر نبياً من غير ترتيب لا بحسب الفضل ولا بحسب الزمان لأن الواو لا تقتضي الترتيب.
وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)
(ومن آبائهم) من للتبعيض لأن من آباء بعضهم من لم يكن مسلماً (وذرياتهم) أي بعضهم لأن عيسى ويحيى لم يكن لهما ولد وكان في ذرية بعضهم من هو كافر كابن نوح.
(وإخوانهم واجتبيناهم) أي اخترناهم، الاجتباء الاصطفاء أو التخليص أو الاختيار مشتق من جبيت الماء في الحوض أي جمعته، فالاجتباء ضم الذي تجتبيه إلى خاصتك، والجابية الحوض (وهديناهم) أي أرشدناهم (إلى صراط مستقيم) أي إلى دين الحق.
(ذلك) الهداية والتفضيل والاجتباء المفهومة من الأفعال السابقة (هدى الله يهدي به) الله (من يشاء من عباده) وهم الذين وفقهم للخير واتباع الحق.
(ولو اشركوا) أي هؤلاء المذكورون بعبادة غير الله (لحبط عنهم) الحبوط البطلان والذهاب، وقد تقدم تحقيقه في البقرة (ما كانوا يعملون) من الطاعات قبل ذلك لأن الله لا يقبل مع الشرك من الأعمال شيئاً.
(أولئك) أي الأنبياء المذكورون سابقاً (الذين آتيناهم الكتاب) أي جنس الكتاب ليصدق على كل ما أنزل على هؤلاء المذكورين، وليس لكل
منهم كتاب فالمراد بإيتاء الكتاب لكل منهم تفهيم ما فيه أعم من أن يكون ذلك بالإنزال عليه ابتداء أو بوراثة من قبله (والحكم) العلم (والنبوة) الرسالة أو ما هو أعم من ذلك (فإن يكفر بها) الضمير راجع إلى الحكم والنبوة والكتاب أو للنبوة فقط.
و (هؤلاء) إشارة إلى كفار قريش بمكة المعاندين لرسول الله صلى الله عليه وسلم (فقد وكلنا بها قوماً) أي أرصدنا لها وأعددنا وألزمنا بالإيمان بها قوماً.
(ليسوا بها بكافرين) وهم المهاجرون والأنصار، والباء زائدة، قال ابن عباس: فإن يكفر أهل مكة بالقرآن فقد وكلنا به أهل المدينة والأنصار، وقال قتادة: هم الأنبياء الثمانية عشر، وقال أبو رجاء العطاردي: هم الملائكة، وفيه بعد، لأن اسم القوم لا ينطبق إلا على بني آدم، وقيل هم الفرس، قال ابن زيد: كل من لم يكفر فهو منهم سواء كان ملكاً أو نبياً أو من الصحابة أو التابعين، والأولى أن المراد بهم الأنبياء المذكورون سابقاً لقوله فيما بعد:
(أولئك الذين هدى الله) فإن الإشارة إلى الأنبياء المذكورين لا إلى المهاجرين والأنصار إذ لا يصح أن يؤمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهداهم وتقديم (فبهداهم) على الفعل أي (اقتده) يفيد تخصيص هداهم بالاقتداء، قرىء اقتده بهاء السكت وقفاً ووصلاً، وهي حرف تجتلب للإستراحة عند الوقف فثبوتها وقفاً لا إشكال فيه، وأما ثبوتها وصلاً فاجراء له مجرى الوقف، وفي قراءة بحذفها وصلاً لحمزة والكسائي.
والاقتداء طلب موافقة الغير في فعله، وقيل المعنى اصبر كما صبروا، وقيل اقتد بهم في التوحيد وإن كانت جزئيات الشرائع مختلفة، وقيل في جميع الأخلاق الحميدة والأفعال المرضية، والصفات الرفيعة الكاملة، وفيها دلالة على أنه صلى الله عليه وسلم مأمور بالاقتداء بمن قبله من الأنبياء فيما لم يرد عليه فيه نص.
أخرج البخاري والنسائي وغيرهما عن ابن عباس قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بهداهم وكان يسجد في (ص) ولفظ ابن أبي حاتم عن مجاهد سألت ابن عباس عن السجدة التي في (ص) فقرأ هذه الآية وقال: أمر نبيكم أن يقتدى بداود عليه السلام (1).
وقد احتج أهل العلم بهذه الآية على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من جميع الأنبياء لما اجتمع فيه من هذه الخصال التي كانت متفرقة في جميعهم.
(قل لا أسألكم عليه) أي على القرآن أو على التبليغ، فإن سياق الكلام يدل عليهما وإن لم يجر لهما ذكر (أجراً) عوضاً من جهتكم، قال ابن عباس: قل لهم يا محمد لا أسألكم على ما أدعوكم إليه عرضاً من عروض الدنيا وكان ذلك من جملة هداهم.
(إن هو) أي ما القرآن (إلا ذكر للعالمين) أي موعظة وتذكير للخلق كافة الموجودين عند نزوله ومن سيوجد من بعد، وفيه دليل على أنه صلى الله عليه وسلم كان مبعوثاً إلى جميع الخلق من الجن والإنس وأن دعوته عمت جميع الخلائق.
(1) وسيأتي تفصيله في تفسير سورة ص إن شاء الله.
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92)
(وما قدروا الله حق قدره) قدرت الشيء وقدرته عرفت مقداره وأصله الستر ثم استعمل في معرفة الشيء أي لم يعرفوه حق معرفته حيث أنكروا إرساله للرسل وإنزاله للكتب قاله الأخفش، وقيل المعنى وما قدروا نعم الله حق تقديرها، قال ابن عباس: هم الكفار لم يؤمنوا بقدرة الله، فمن آمن أن الله على كل شيء قدير قد قدر الله حق قدره، ومن لم يؤمن بذلك فلم يقدر الله حق قدره، وقال مجاهد: قالها مشركو العرب، وعنه قال ما عظموا الله حق عظمته، وقال أبو العالية: ما وصفوا الله حق صفته، ويصح جميع ذلك في معناه (1).
(إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء) قال ابن عباس: قالت اليهود
(1) وروي أن مالك بن الصيف رأس اليهود، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى، أتجد فيها أن الله يبغض الحبر السمين؟ " قال: نعم، قال:" فأنت الحبر السمين ". فغضب، ثم قال:(ما أنزل الله على بشر من شي) فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس؛ وكذلك قال سعيد بن جبير، وعكرمة: نزلت في مالك بن الصيف.
رجح هذا القول ابن كثير، وقال: إنه الأصح، لأن الآية مكية، واليهود ينكرون إنزال الكتب من السماء، وقريش والعرب قاطبة كانوا يبعدون إرسال رسول من البشر كما قال:. (أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس)[يونس: 2]. وقال تعالى:. (وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشراً رسولاً قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً)[الإسراء: 94، 95].
يا محمد أأنزل الله عليك كتاباً قال: نعم قالوا: والله ما أنزل الله من السماء كتاباً، وعن السدي قاله فنحاص اليهودي فنزلت، وعن عكرمة قال: نزلت في مالك بن الصيف وعن سعيد بن جبير نحوه، ولكن بأطول منه، والمعنى الذين قالوا ذلك ما قدروا الله حق قدره ولا عرفوه حق معرفته، إذ لو عرفوه لما قالوا هذه المقالة.
ولما وقع منهم هذا الإنكار وهم من اليهود أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يورد عليهم حجة لا يطيقون دفعها فقال: (قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى).
وهم يعترفون بذلك ويذعنون له، وكان في هذا من التبكيت لهم والتقريع ما لا يقادر قدره مع إلجائهم إلى الإعتراف بما أنكروه من وقوع إنزال الله على البشر وهم الأنبياء عليهم السلام، فبطل جحدهم وتبين فساد إنكارهم، وقيل: إن القائلين بهذه المقالة هم كفار قريش فيكون إلزامهم بإنزال الله الكتاب على موسى من جهة أنهم يعترفون بذلك ويعلمونه بالأخبار من اليهود وقد كانوا يصدقونهم.
(نوراً وهدى للناس) أي التوراة ضياء من ظلمة الضلالة، وبيان يفرق بين الحق والباطل من دينهم، وذلك قبل أن تغير وتبدل (تجعلونه) بالتاء والياء أي الكتاب الذي جاء به موسى في (قراطيس) أو ذا قراطيس أو نزلوه منزلة القراطيس، وقد تقدم تفسير القرطاس أي يضعونه فيها ويكتبونه مقطعاً وورقات مفرقة ليتم لهم ما يريدونه من التحريف والتبديل والإبداء والإخفاء وكتم صفة النبي صلى الله عليه وسلم المذكورة فيه، وهذا ذم لهم قال مجاهد هم اليهود.
(تبدونها) أي القراطيس المكتوبة (وتخفون كثيراً) مما كتبوه في القراطيس ومما أخفوه أيضاً آية الرجم، وكانت مكتوبة عندهم في التوراة.
(وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم) الخطاب لليهود ويحتمل أن تكون هذه الجملة استئنافية مقررة لما قبلها والذي علموه هو الذي أخبرهم به نبينا صلى الله عليه وسلم من الأمور التي أوحى الله إليه بها فإنها اشتملت على ما لم يعلموه من كتبهم ولا على لسان أنبيائهم ولا علمه أنبياؤهم، ويجوز أن تكون " ما " في ما لم تعلموا عبارة عما علموه من التوراة فيكون ذلك على وجه المن عليهم بإنزال التوراة.
وقيل الخطاب للمشركين من قريش وغيرهم فتكون " ما " عبارة عما علموه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الحسن: جعل لهم علم ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فضيعوه ولم ينتفعوا به، وقال مجاهد: هذا خطاب للمسلمين يذكرهم النعمة فيما علمهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم، والأول أولى، وقال قتادة: هم اليهود آتاهم علماً فلم يقتدوا به ولم يأخذوا به، ولم يعملوا، فذمهم الله في علمهم ذلك.
ثم أمر الله رسوله بأن يجيب عن ذلك الإلزام الذي ألزمهم به حيث قال: من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى فقال: (قل) أنزله (الله) فإنهم لا يقدرون أن يناكروك، وقيل قل أنت الله الذي أنزله، والأول أولى.
(ثم ذرهم في خوضهم) أي في باطلهم وكفرهم بالله حال كونهم (يلعبون) أي يصنعون صنع الصبيان الذين يلعبون، وقيل معناه يسخرون ويستهزئون، وفيه وعيد وتهديد بالمشركين وقيل هذا منسوخ بآية السيف، وفيه بعد ظاهر.
(وهذا كتاب أنزلناه) هذا من جملة الرد عليهم في قولهم: (ما أنزل الله على بشر من شيء) أخبرهم بأن الله أنزل التوراة وعقبه بقوله: (وهذا كتاب) أنزله الله من عنده على محمد صلى الله عليه وسلم فكيف تقولون ما أنزل الله على بشر
من شيء (مبارك) كثير البركة والخير دائم النفع، وأصل البركة النماء والزيادة (مصدق) أي كثير التصديق (الذي بين يديه) أي ما أنزله الله من الكتب من السماء على الأنبياء من قبله كالتوراة والإنجيل، فإنه يوافقها في الدعوة إلى الله وإلى توحيده وإن خالفها في بعض الأحكام.
(ولتنذر أم القرى) خصها وهي مكة لكونها أعظم القرى شأناً، ولكونها أول بيت وضع للناس، ولكونها قبلة هذه الأمة ومحل حجهم، قال قتادة: بلغني أن الأرض دحيت من مكة ولهذا سميت بأم القرى وقيل لأنها سرة الأرض، والمراد بإنذارها إنذار أهلها وهو مستتبع لإنذار سائر أهل الأرض فهو على تقدير مضاف محذوف.
(ومن حولها) يعني جميع البلاد والقرى شرقاً وغرباً، وفيه دليل على عموم رسالته صلى الله عليه وسلم إلى أهل الأرض كافة.
(والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به) أي أن من حق من صدق بالدار الآخرة أن يؤمن بهذا الكتاب ويصدقه ويعمل بما فيه، لأن التصديق بالآخرة يوجب قبول من دعا الناس إلى ما ينال به خيرها ويندفع بها ضرها.
(وهم على صلاتهم يحافظون) خص المحافظة على الصلاة من بين سائر الواجبات لكونها عمادها وبمنزلة الرأس لها، وكونها أشرف العبادات بعد الإيمان بالله تعالى، فإذا كان العبد محافظاً عليها حافظ على جميع العبادات والطاعات، والمعنى يداومون عليها في أوقاتها، والحاصل أن الإيمان بالآخرة يحمل على الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، وذلك يحمل على المحافظة على الصلاة.