الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ
(93)
(فتولى) أي فأعرض (عنهم) شعيب شاخصاً من بين أظهرهم لما شاهد نزول العذاب بهم (وقال) أي قبل نزول العذاب أو بعده على قولين سبقا في قصة صالح عليه السلام (يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي) التي أرسلني بها إليكم (ونصحت لكم) ببيان ما فيه سلامة دينكم ودنياكم (فكيف آسى) أي أحزن (على قوم كافرين) بالله مصرين على كفرهم متمردين عن الإجابة، والأسى شدة الحزن أسى على ذلك فهو آس.
قال شعيب: هذه المقالة تحسراً على عدم الإيمان ثم سلى نفسه بأنه كيف يقع منه الأسى على قوم ليسوا بأهل للحزن عليهم لكفرهم بالله وعدم قبولهم لما جاء به رسوله أو أراد لقد أعذرت لكم في الإبلاغ والتحذير فلم تسمعوا قولي ولم تقبلوا نصحي فكيف أحزن عليكم، يعني أنكم لستم مستحقين لأن يحزن عليكم والأول أولى.
عن ابن عباس قال: في المسجد الحرام قبران ليس فيه غيرهما قبر إسمعيل وقبر شعيب فقبر إسمعيل في الحجر، وقبر شعيب مقابل الحجر الأسود وعن وهب بن منبه أن شعيباً مات بمكة ومن معه من المؤمنين فقبورهم في غربي الكعبة بين دار الندوة وبين باب بني سهم.
وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم عن أبي إسحق قال: ذكر لي يعقوب بن أبي مسلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ذكر شعيباً قال " ذاك خطيب الأنبياء " لحسن مراجعته قومه فيما يريدهم به فلما كذبوه وتوعدوه بالرجم والنفي من بلادهم وعتوا على الله أخذهم عذاب يوم الظلة " (1).
(1) المستدرك كتاب التاريخ 2/ 568.
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)
(وما أرسلنا) لما فصل الله سبحانه أحوال بعض الأنبياء مع أممهم وهم المذكورون سابقاً أجمل حال سائر الأمم المرسل اليها، والمعنى ما أرسلنا في حال من الأحوال (في قرية) من القرى (من) مزيدة لتوكيد النفي (نبي) من الأنبياء فكذبه أهلها (إلا أخذنا أهلها) استثناء مفرغ من أعم الأحوال (بالبأساء) أي البؤس وشدة الفقر (والضراء) أي وبالضر.
وقال الزجاج: البأساء كل ما نالهم من الشدة في أموالهم والضراء كل ما نالهم من الأمراض، وقيل البأساء الشدة وضيق العيش، والضراء سوء الحال، وقد تقدم تفسيرهما (لعلهم يضرعون) أي لكي يتضرعوا ويتذللوا فيدعوا ما هم عليه من الاستكبار وتكذيب الأنبياء، وفيه تخويف وتحذير لكفار قريش وغيرهم من الكفار لينزجروا عما هم عليه من الكفر والتكذيب.
(ثم) أي بعد الأخذ لأهل القرى (بدلنا) هم (مكان السيئة) التي أصبناهم بها من البلاء والامتحان الخصلة (الحسنة) فصاروا في خير وسعة وأمن وصحة، وقال ابن عباس أي مكان الشدة الرخاء قال أهل اللغة السيئة كل ما يسوء صاحبه، والحسنة كل ما يستحسنه الطبع والعقل، فأخبر الله في هذه الآية بأنه يؤاخذ أهل المعاصي والكفر تارة بالشدة وتارة بالرخاء على سبيل الاستدراج.
(حتى عفوا) يقال عفا النبات إذا كثر وتكاثف ومنه إعفاء اللحى، واللحى بالضم والكسر كما في كتاب العين، وعفا درس فهو من الأضداد والمراد هنا أنهم كثروا عدداً وعُدداً.
(وقالوا) عند أن صاروا في الرخاء بعد الشدة (قد مس آباءنا الضراء والسراء) أي إن هذا الذي مسنا من البأساء والضراء ثم من الرخاء والخصب من بعد هو أمر وقع لآبائنا قبلنا مثله، فمسّهم من البأساء والضراء ما مسنا ومن النعمة والخير ما نلناه، ومرادهم أن هذه العادة الجارية في السلف والخلف، وإن ذلك ليس من الله سبحانه ابتلاء لهم واختباراً لما عندهم.
وفي هذا من شدة عنادهم وقوة تمردهم وعتوهم ما لا يخفى، ولهذا عاجلهم الله بالعقوبة ولم يمهلهم كما قال (فأخذناهم بغتة) أي فجأة عقب أن قالوا هذه المقالة من دون تراخ ولا إمهال ليكون ذلك أعظم لحسرتهم، والمراد من ذكر هذه القصة أن يعتبر من سمعها فينزجر (وهم لا يشعرون) بذلك العذاب النازل بهم ولا يترقبونه.
(ولو أن أهل القرى) التي أرسلنا إليها رسلنا، ويجوز أن تكون اللام للجنس والمراد لو أن أهل القرى أين كانوا وفي أي بلد سكنوا (آمنوا) بالرسل المرسلين إليهم (واتقوا) ما صمموا عليه من الكفر ولم يصروا على ما فعلوا من القبائح (لفتحنا عليهم) أي يسرنا لهم (بركات من السماء والأرض) أي خيرهما كما يحصل التيسير للأبواب المغلقة بفتح أبوابها قيل المراد بخير السماء المطر وبخير الأرض النبات والثمار.
والأولى حمل ما في الآية على ما هو أعم من ذلك من الخيرات والأنعام والأرزاق والأمن والسلامة من الآفات وجميع ما فيهما وكل ذلك من فضل الله وإحسانه، وأصل البركة ثبوت الخير الإلهي في الشيء ويسمى المطر بركة السماء لثبوت البركة فيه، وكذا ثبوت البركة في نبات الأرض لأنه نشأ من بركات السماء وهي المطر، وقال البغوي: أصل البركة المواظبة على الشيء أي رفعنا عنهم القحط والجدب وتابعنا عليهم المطر والنبات.
(ولكن كذبوا) بالآيات والأنبياء ولم يؤمنوا بهم ولا اتقوا وقد اكتفى بذكر الأول لاستلزامه للثاني (فأخذناهم) بأنواع العذاب (بما كانوا يكسبون) أي
أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100)
بسبب ما كسبوا من الكفر والذنوب الموجبة لعذابهم ومن جملتها قولهم قد مس آباءنا الآية.
(أفأمن) الاستفهام للتقريع والتوبيخ وهو مثل (أفحكم الجاهلية يبغون) والفاء للعطف على أخذناهم بغتة وما بينهما اعتراض، والمعنى أبعد ذلك الأخذ أمن أهل القرى، ذكره أبو السعود، وبه قال الزمخشري.
قال الشيخ: وهذا رجوع عن مذهبه في مثل ذلك إلى مذهب الجماعة، وذلك أن مذهبه في الهمزة الداخلة على حرف العطف تقدير معطوف عليه بين الهمزة وحرف العطف، ومذهب الجماعة أن حرف العطف في نية التقديم، وإنما تأخر وتقدمت عليه الهمزة لقوة تصدرها في أول الكلام، والزمخشري هنا لم يقدر بينهما معطوفاً عليه بل جعل ما بعد الفاء معطوفاً على ما قبلها من الجمل وهو قوله (فأخذناهم بغتة) ذكره السمين.
(أهل القرى) المذكورة قبله وقيل المراد بالقرى مكة وما حولها لتكذيبهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والعموم أولى (أن يأتيهم بأسنا بياتاً) أي وقت بيات وهو الليل (وهم نائمون) غافلون عنه
(أو أمن أهل القرى) إنكار بعد إنكار للمبالغة في التوبيخ (أن يأتيهم بأسنا ضحى) أي نهاراً والضحى ضحوة النهار أي صدره وهو في الأصل اسم لضوء الشمس إذا أشرقت وارتفعت.
وفي السمين الضحى اشتداد الشمس وامتداد النهار يقال ضحى وضحاء إذا ضممته قصرته، وإذا فتحته مددته، وقال بعضهم الضحى بالضم والقصر لأول ارتفاع الشمس، والضحاء بالفتح والمد لقوة ارتفاعها قبل الزوال،
والضحى مؤنث انتهى (وهم يلعبون) أي حال كونهم مشتغلين بما لا يعود عليهم بفائدة.
(أفأمنوا مكر الله) الاستفهام للتقريع والتوبيخ وإنكار ما هم عليه من أمان ما لم يؤمن من مكر الله بهم وعقوبته لهم، وفي تكرير هذا الاستفهام زيادة تقرير لإنكار ما أنكره عليهم، وقيل مكر الله استدراجه إياهم بما أنعم عليهم من الدنيا والنعمة والصحة، والأولى حمل الآية على ما هو أعم من ذلك.
ثم بين حال من أمن مكر الله فقال (فلا يأمن مكر الله) المكر الاحتيال والخديعة والمراد بمكر الله هنا فعل ما يعاقب به الكفرة على كفرهم، وأضيف إلى الله لما كان عقوبة على ذنبهم، فإن العرب تسمى العقوبة على أي وجه كانت باسم الذنب الذي وقعت عليه العقوبة، وهذا نص في قوله (ومكروا ومكر الله) قاله ابن عطية.
قلت وهو تأويل حسن وأنه من باب المقابلة أيضاً والفاء في قوله (فلا يأمن) للتنبيه على أن العذاب يعقب أمن مكر الله (إلا القوم الخاسرون) أي الذين أفرطوا في الخسران ووقعوا في وعيده الشديد حتى صاروا إلى النار، قال الشبلي: مكره بهم تركه إياهم على ما هم عليه.
(أولم يهد) أي أو لم يبين فالهداية هنا بمعنى التبيين، ولهذا عديت باللام (للّذين يرثون الأرض من بعد) إهلاك (أهلها) أي المشركين، قاله السدي وقيل المراد بهم أهل مكة وما حولها أي الذين كانوا من قبلهم فورثوها عنهم وخلفوهم فيها (أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم) أي أن الشأن هو هذا والمعنى عاقبناهم بسبب كفرهم فأهلكنا الوارثين كما أهلكنا الموروثين.
(ونطبع) نختم (على قلوبهم) مستأنفة ولا يصح عطفه على أصبناهم لأنهم ممن طبع الله على قلبه لعدم قبولهم للإيمان (فهم لا يسمعون) أي إخبار الأمم المهلكة فضلاً عن التدبر والتفكر فيها والاعتبار بها والاغتنام بما في تضاعيفها من الهداية أي صاروا بسبب الطبع على قلوبهم لا يسمعون ما يتلوه عليهم من أرسله الله إليهم من المواعظ والأعذار والإنذار سماع تدبر.
تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101) وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)
(تلك) مبتدأ مشار بها إلى ما بعدها و (القرى) خبرها أي التي أهلكناها وهي قرى قوم نوح وهود وثمود وصالح ولوط وشعيب المقدم ذكرها (نقص) حال أي قاصين وهذا كقوله تعالى (هذا بعلي شيخاً) في كونه مبتدأ خبراً وحالاً قاله الزمخشري (عليك من أنبائها) أي أخبارها وهذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وللمؤمنين وتحذير للكافرين من قريش وغيرهم.
ومن للتبعيض لأنه إنما قص عليه صلى الله عليه وآله وسلم ما فيه عظة وانزجار دون غيرهما ولها أنباء غيرها لم يقصها عليه، وإنما قص عليه أنباء أهل هذه القرى لأنهم اغتروا بطول الإمهال مع كثرة النعم، فتوهموا أنهم على الحق فذكرها الله لقوم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليحترزوا عن مثل تلك الأعمال.
(ولقد) لام قسم (جاءتهم رسلهم بالبينات) أي المعجزات الباهرات كما سبق بيانه في قصص الأنبياء المذكورين قبل هذا (فما كانوا ليؤمنوا) عند مجيء الرسل اللام زائدة لتوكيد النفي (بما كذبوا) به (من قبل) أي قبل مجيئهم أو فما كانوا ليؤمنوا بما جاءتهم به الرسل في حال من الأحوال ولا في وقت من الأوقات بما كذبوا به قبل مجيئهم بل هم مستمرون على الكفر متشبثون بأذيال الطغيان دائماً ولم ينجح فيهم مجيء الرسل ولا ظهر له أثر بل حالهم عند مجيئهم كحالهم قبله.
وقيل المعنى فما كانوا ليؤمنوا بعد هلاكهم بما كذبوا به لو أحييناهم
كقوله: (ولو ردوا لعادوا) قاله مجاهد وقيل سألوا المعجزات فلما رأوها لم يؤمنوا بما كذبوا به من قبل رؤيتها، والأول أولى.
ومعنى تكذيبهم قبل مجيء الرسل أنهم كانوا في الجاهلية يكذبون بكل ما سمعوا به من إرسال الرسل وإنزال الكتب.
وقال أبي بن كعب: كان في علم الله يوم أقروا له بالميثاق حين أخرجهم من ظهر آدم من يكذب به ممن يصدق به، وهو معنى قول ابن عباس والسدي آمنوا كرهاً يوم أخذ الميثاق، وقال الطبري: وأولى الأقوال قول أبي بن كعب والربيع ابن أنس وذلك أن من سبق في علم الله أنه لا يؤمن به فلا يؤمن أبداً.
(كذلك) أي مثل ذلك الطبع الشديد على قلوب أهل القرى المنتفى عنهم الإيمان (يطبع الله على قلوب الكافرين) الجائين بعدهم فلا ينجع فيهم بعد ذلك وعظ ولا تذكير ولا ترغيب ولا ترهيب.
(وما وجدنا لأكثرهم من عهد) الضمير يرجع إلى أهل القرى المذكورين سابقاً أي عهد يحافظون عليه ويتمسكون به، بل دأبهم نقض العهود في كل حال، وقيل الضمير يرجع إلى الناس على العموم أي ما وجدنا لأكثر الناس من عهد وقيل المراد بالعهد هو المأخوذ عليهم في عالم الذر، وقيل الضمير يرجع إلى الكفار على العموم من غير تقييد بأهل القرى أي لأكثر منهم لا عهد ولا وفاء والقليل منهم قد يفي بعهده ويحافظ عليه قال ابن عباس: ذاك أن الله إنما أهلك القرى لأنهم لم يكونوا حفظوا ما وصاهم به (وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين) أي وإن الشأن هذا والمعنى خارجين عن الطاعة خروجاً شديداً.
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105)
(ثم بعثنا) أي أرسلنا (من بعدهم) أي بعد نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وقيل ضمير " هم " راجع إلى الأمم السالفة أي من بعد إهلاكهم (موسى) قال ابن عباس: إنما سمي موسى لأنه القي بين ماء وشجر فالماء بالقبطية مو والشجر سا وعاش من العمر مائة وعشرين سنة وبينه وبين يوسف أربعمائة سنة وبين موسى وإبراهيم سبعمائة سنة كما ذكره في التحبير.
(بآياتنا) أي حججنا وأدلتنا على صدقه مثل اليد والعصا ونحو ذلك مما جاء به موسى، وهذا يدل على أن النبي لا بد له من آية يتميز بها عن غيره، وإلا لم يكن قبول قوله أولاً من قبول قول غيره.
(إلى فرعون) هو لقب لكل من يملك أرض مصر بعد العمالقة مثل ما كان يسمى ملك الفرس كسرى، وملك الروم قيصر، وملك الحبشة النجاشي، وكان اسم فرعون الذي أرسل إليه موسى " الوليد بن مصعب بن الربان " وكان ملك القبط وكنيته أبو مرة، وقيل أبو العباس وكان قبله فرعون آخر وهو أخوه واسمه قابوس ولم يذكر في القرآن.
وعن مجاهد أن فرعون كان فارسياً من أهل اصطخر، وعن ابن لهيعة أنه كان من أبناء مصر، وعن ابن المنكدر قال: عاش فرعون ثلاثمائة سنة، عن علي
ابن أبي طلحة: أن فرعون كان قبطياً ولد زنا، طوله سبعة أشبار، وعن الحسن قال: كان علجاً من همدان، وعن إبراهيم بن مقسم قال: مكث فرعون أربعمائة سنة لم يصدع له رأس.
(وملئه) أي أشراف قومه وتخصيصه بالذكر مع عموم الرسالة لهم ولغيرهم لأن من عداهم كالأتباع لهم (فظلموا) أي فكفروا (بها) أطلق الظلم على الكفر لكون كفرهم بالآيات التي جاء بها موسى كان كفراً بالغاً لوجود ما يوجب الإيمان من المعجزات العظيمة التي جاءهم بها، أو المعنى ظلموا الناس بسببها لما صدوهم عن الإيمان بها أو ظلموا أنفسهم بسببها.
(فانظر كيف كان عاقبة المفسدين) أي انظر بعين العقل والبصيرة كيف فعلنا بالمكذبين بالآيات الكافرين بها وكيف أهلكناهم، وجعلهم مفسدين لأن تكذيبهم وكفرهم من أقبح أنواع الفساد.
(وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين) أخبره بأنه مرسل من الله إليه وجعل ذلك عنواناً لكلامه معه لأن من كان مرسلاً من جهة من هو رب العالين أجمعين فهو حقيق بالقبول لما جاء به كما يقول من أرسله الملك في حاجة إلى رعيته. أنا رسول الملك إليكم ثم يحكي ما أرسل به إليهم فإن في ذلك من تربية المهابة وإدخال الروعة ما لا يقادر قدره.
(حقيق) جدير (على أن) أي بأن (لا أقول على الله إلا) القول (الحق) قيل في توجيه هذه القراءة إن على بمعنى الباء كما سبق. ويؤيده قراءة أبي والأعمش فإنهم قرآ (حقيق بأن لا أقول) وقيل إن حقيق مضمن معنى حريص وقيل إنه لما كان لازماً للحق كان الحق لازماً له فقول الحق حقيق عليه، وهو حقيق على قول الحق.
وقيل: إنه أغرق في وصف نفسه في ذلك المقام حين جعل نفسه حقيقة على قول الحق كأنه وجب على الحق أن يكون موسى هو قائله، وقرئ على أي واجب على ولازم لي أن لا أقول فيما أبلغكم عن الله إلا القول الحق، وقرئ (حقيق أن لا أقول) بإسقاط على ومعناها واضح والاستثناء مفرغ.
ثم قال بعد هذا (قد جئتكم ببينة من ربكم) أي بما يتبين به صدقي وإني رسول من رب العالمين، والمراد بها معجزته وهي العصا واليد البيضاء. وقد طوى هنا ذكر ما دار بينهما من المحاورة كما في موضع آخر أنه قال فرعون (فمن ربكما يا موسى) ثم قال بعد جواب موسى (وما رب العالمين) الآيات الحاكية لما دار بينهما.
(فأرسل معي بني إسرائيل) أمره أن يدعهم يذهبون معه ويرجعون إلى أوطانهم وهي الأرض المقدسة وقد كانوا بأنين لديه مستعبدين ممنوعين من الرجوع إلى وطنهم، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها.
وكان سبب سكناهم بمصر مع أن أباهم كان بالأرض المقدسة أن الأسباط أولاد يعقوب جاؤوا مصر إلى أخيهم يوسف فمكثوا وتناسلوا في مصر، فلما توفي يوسف غلب فرعون على نسل الأسباط واستعبدهم واستعملهم في الأعمال الشاقة، فأحب موسى أن يخلصهم من هذا الأسر ويذهب بهم إلى أرض الشام التي هي وطن آبائهم فأنقذهم الله بموسى وكان بين اليوم الذي دخل يوسف عليه السلام مصر واليوم الذي دخله موسى أربعمائة عام.
قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110)
فلما قال ذلك
(قال) له فرعون (إن كنت جئت بآية) من عند الله كما تزعم (فأت بها) حتى نشاهدها وننظر فيها (إن كنت من الصادقين) في هذه الدعوى التي جئت بها.
(فألقى عصاه) أي وضعها على الأرض (فإذا هي ثعبان مبين) أي فانقلبت ثعباناً يعني حية عظيمة من ذكور الحيات ظاهراً واضحاً لا لبس فيه في تلك الحال، ووصفها في آية أخرى بأنها جان والجان الحية الصغيرة، والجمع بين هذين الوصفين أنها كانت في عظم الجثة كالثعبان العظيم، وفي خفة الحركة كالحية الصغيرة وهي الجان.
قال قتادة: ذكر لنا أن تلك العصا عصا آدم أعطاه إياها ملك حين توجه إلى مدين فكانت تضيء بالليل ويضرب بها الأرض بالنهار فتخرج له رزقه ويهش بها على غنمه فإذا هي حية تكاد تساوره.
وعن ابن عباس قال: لقد دخل موسى على فرعون وعليه رزمانقه من صوف ما تجاوز مرفقيه فاستأذن على فرعون فقال أدخلوه فدخل فقال إن إلهي أرسلني إليك فقال للقوم حوله ما علمت لكم من إله غيري، خذوه قال إني قد جئتك بآية قال فأت بها فألقى عصاه فصارت ثعباناً بين لحييه ما بين السقف إلى الأرض، وعصا موسى اسمها ما شاء، قال السدي: فاتحة فمها واضعة لحيها الأسفل في الأرض، والأعلى على سور القصر، ثم توجهت نحو فرعون لتأخذه، فلما رآها ذعر منها ووثب فأحدث ولم يكن يحدث قبل ذلك، وصاح يا موسى خذها وأنا أؤمن بربك وأرسل معك بني إسرائيل فأخذها موسى فصارت عصا.
(ونزع يده) اليمنى أي أخرجها وأظهرها من جيبه أو من تحت إبطه وفي التنزيل (وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء) والنزع عبارة عن إخراج الشيء عن مكأنه (فإذا هي بيضاء للناظرين) أي تتلألأ نوراً يظهر لكل مبصر، قال ابن عباس: أخرجها مثل البرق تلتمع الأبصار فخروا على وجوههم، وقيل لها شعاع غلب نور الشمس، وأخذ موسى عصاه ثم خرج ليس أحد من الناس إلا نفر منه وكان موسى آدم اللون (1).
(1) قال القرطبي: " كان موسى أسمر شديد السمرة، ثم أعاد يده إلى جيبه فعادت إلى لونها الأول. قال ابن عباس: كان ليده نور ساطع يضيء ما بين السماء والأرض. وقيل: كانت تخرج يده بيضاء كالثلج تَلوُح، فإذا ردها عادت إلى مثل سائر بدنه.
(قال الملأ من قوم فرعون) أي الأشراف لما شاهدوا إنقلاب العصا حية ومصير يده بيضاء من غير سوء (إن هذا) أي موسى (لساحر عليم) أي كثير العلم بالسحر يأخذ بعين الناس حتى يخيل لهم أن العصا صارت حية ويرى الشيء بخلاف ما هو عليه، ولا ينافي نسبة هذا القول إلى الملأ هنا وإلى فرعون في سورة الشعراء فكلهم قد قالوه فكان ذلك مصححاً لنسبته إليهم تارة وإليه أخرى.
(يريد أن يخرجكم) أيها القبط (من أرضكم) وهي أرض مصر وهذا من كلام الملأ (فماذا تأمرون) هو من كلام فرعون قاله للملأ لما قالوا بما تقدم، أي بأي شيء تأمرونني وتشيرون أن نفعل به، وقيل هو من كلام الملأ أي قالوا لفرعون فبأي شيء تأمرنا وخاطبوه بما يخاطب به الجماعة تعظيماً له كما يخاطب الرؤساء أتباعهم.
قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116)
وكون هذا من كلام فرعون هو الأولى بدليل ما بعده وهو
(قالوا أرجه) أي أخره وفيه ست قراآت في المشهور المتواتر ثلاث مع الهمز وثلاث مع عدمه والإرجاء في اللغة التأخير. وقيل معناه احبسه. وهو ضعيف وقيل هو من رجا يرجو أي أطعمه ودعه يرجوك حكاه النحاس عن المبرد.
(و) أرج (أخاه وأرسل في المدائن حاشرين) أي أرسل جماعة حاشرين في المدائن التي فيها السحرة والمدائن جمع مدينة واشتقاقها من مدن بالمكان أي أقام به يعني مدائن صعيد مصر، ومعنى حاشرين جامعين يعني رجالاً يحشرون إليك السحرة من جميع مدائن الصعيد
(يأتوك) أي هؤلاء الذين أرسلت يعني الشرط (بكل ساحر) وقرئ سحار أي الماهر في السحر قيل الساحر من يكون سحره وقتاً دون وقت، والسحار من يدوم سحره ويعمل في كل وقت (عليم) أي كثير العلم بصناعة السحر.
(وجاء السحرة فرعون) قد اختلفت كلمة السلف في عددهم فقال ابن عباس: كانوا سبعين رجلاً أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء، وقيل كانوا اثنين وسبعين اثنان من القبط وسبعون من بني إسرائيل قاله مقاتل، وقال الكلبي: كان الذين يعلمونهم رجلين مجوسيين من أهل نينوى، وقال كعب الأحبار: كانوا اثني عشر ألفاً، وقيل خمسة عشر ألفاً، قاله ابن اسحق وقيل سبعة عشر ألفاً وقيل
تسعة عشر ألفاً وقيل ثلاثين ألفاً وقيل سبعين ألفاً، قاله عكرمة وقيل ثمانين ألفاً، قاله محمد بن المنكدر وقيل ثلاثمائة ألف وقيل تسعمائة ألف (1).
(قالوا إن لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين) الأجر الجائزة والعطاء والجعل، الزموا فرعون أن يجعل لهم جعلاً أن غلبوا موسى بسحرهم وقرئ (أئن لنا) على الاستفهام للتقرير أي استفهموا فرعون عن الجعل الذي سيجعله لهم على الغلبة وعلى القراءة الأولى كأنهم قاطعون بالجعل وأنه لا بد لهم منه.
(1) اختلفوا في عدد السحرة على ثلاثة عشر قولاً: أحدها: اثنان وسبعون، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني؛ اثنان وسبعون ألفاً، روي عن ابن عباس أيضاً، وبه قال مقاتل. والثالث: سبعون، روي عن ابن عباس أيضاً. والرابع: اثنا عشر ألفاً، قاله كعب. والخامس: سبعون ألفاً، قاله عطاء، وكذلك قال وهب في رواية، إلا أنه قال: فاختار منهم سبعة آلاف. والسادس: سبعمائة. وروى عبد النعم بن إدريس عن أبيه عن وهب أنه قال: كان عدد السحرة الذين عارضوا موسى سبعين ألفاً متخيرين من سبعمائة ألف، ثم إن فرعون اختار من السبعين ألف سبعمائة.
(قال نعم) لكم الأجر (وإنكم) مع هذا الأجر المطلوب منكم (لمن المقربين) لدينا قال الكلبي تكونون أول من يدخل علي وآخر من يخرج من عندي. وفي الخطيب والآية تدل على أن كل الخلق كانوا عالمين بأن فرعون كان عبداً ذليلاً مهيناً عاجزاً وإلا لما احتاج إلى الاستعانة بالسحرة.
وتدل أيضاً على أن السحرة ما كانوا قادرين على قلب الأعيان، وإلا لما احتاجوا إلى طلب الأجر والمال من فرعون لأنهم لو قدروا على قلب الأعيان لقلبوا التراب ذهباً ولنقلوا ملك فرعون لأنفسهم، ولجعلوا أنفسهم ملوك العالم ورؤساءهم، والمقصود من هذه الآيات تنبيه الإنسان لهذه الدقائق وأن لا يغتر بكلمات أهل الأباطيل والأكاذيب لها.
(قالوا) أي السحرة (يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين) يعني أنهم خيروا موسى بين أن يبتدئ بإلقاء ما يلقيه عليهم أو يبتدئوه هم بذلك تأدباً معه وثقة من أنفسهم بأنهم غالبون وإن تأخروا قال الكسائي والفراء إما أن تفعل الإلقاء أو نفعله نحن.
(قال ألقوا) اختار أن يكون المتقدمين عليه بإلقاء ما يلقونه غير مبال بهم ولا هائب لما جاءوا به، قال الفراء في الكلام حذف والمعنى قال لهم موسى إنكم
لن تغلبوا ربكم ولن تبطلوا أيامه، وقيل هو تهديد أي ابتدئوا بالإلقاء فستنظرون ما يحل بكم من الافتضاح.
والموجب لهذين التأويلين عند من قال بهما أنه لا يجوز لموسى أن يأمرهم بالسحر، وقيل إنما أمرهم لتظهر معجزته لأنهم إذا لم يلقوا قبله لم تظهر معجزته، والأول أولى.
(فلما ألقوا) حبالهم وعصيهم قال ابن عباس حبالاً غلاظاً وخشباً طوالاً فأقبلت يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى (سحروا أعين الناس) أي قلبوها وغيروها عن صحة إدراكها بما جاءوا به من التمويه والتخييل الذي يفعله المشعوذون وأهل الخفة، وهذا هو الفرق بين السحر الذي هو فعل البشر وبين معجزة الأنبياء التي هي فعل الله. وذلك لأن السحر قلب الأعين وصرفها عن إدراك الشيء، والعجزة قلب نفس الشيء عن حقيقته كقلب عصا موسى حية تسعى.
(واسترهبوهم) أي أدخلوا الرهبة في قلوبهم إدخالاً شديداً بما فعلوه من السحر، واستفعل هنا بمعنى افعل أي أرهبوهم وهو قريب من قولهم: قر واستقر وعظم واستعظم، وهذا رأي المبرد وقيل السين على بابها أي استدعوا رهبة الناس منهم وهو رأى الزجاج (وجاءوا بسحر عظيم) في أعين الناظرين وإن كان لا حقيقة له في الواقع، وكانت تلك الواقعة في إسكندرية قاله الخطيب والخازن.
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119)
(وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك) أمره سبحانه عند أن جاء السحرة بما جاءوا به من السحر على لسان جبريل أن يلقي عصاه، وصريح السياق يقتضي أن إلقاء العصا وانقلابها حية وقع مرتين بحضرة فرعون (الأولى) كانت سبباً في جمع السحرة (والثانية) بحضرتهم فالأولى ذكرت سابقاً بقوله (فألقى عصاه) والثانية هي المذكورة هنا ووقع انقلابها حية أيضاً مرة أخرى قبل هاتين المرتين ولم يكن هناك حاضراً أحد غير موسى وقد ذكرت هذه المرة في سورة طه في قوله (إذ رأى ناراً) إلى قوله (ألقها يا موسى فألقاها فإذا هي حية تسعى).
(فإذا هي) أي العصا (تلقف) من لقف يلقف وقيل من تلقف يتلقف يقال لقفت الشيء وتلقفته إذا أخذته أو بلعته بسرعة. وقال أبو حاتم بلغني في بعض القراآت تلقم بالميم والتشديد (ما يأفكون) أصل الإفك قلب الشيء عن وجهه، ومنه قيل للكذاب أفاك لأنه يقلب الكلام عن وجهه الصحيح إلى الباطل، أفك يأفك إفكاً من باب ضرب وأفكته صرفته وكل أمر صرف عن وجهه فقد أفك، وسماه إفكاً لأنه لا حقيقة له في الواقع بل هو كذب وزور وتمويه وشعوذة.
قال ابن زيد: كان اجتماعهم بالإسكندرية فيقال بلغ ذنب الحية من وراء البحر ثم فتحت فاها ثمانين ذراعاً فإذا هي تبتلع كل شيء أتوا به من السحر.
(فوقع الحق) أي ظهر وتبين بما جاء به موسى (وبطل ما كانوا يعملون) من سحرهم أي تبين بطلانه
(فغلبوا) أي السحرة (هنالك) أي في الموقف الذي أظهروا فيه سحرهم وهذا هو الظاهر (وانقلبوا) من ذلك الموقف (صاغرين) أذلاء مقهورين.
وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122) قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125)
(وألقى السحرة ساجدين) أي خروا كأنما ألقاهم ملق على هيئة السجود أو لم يتمالكوا مما رأوا فكأنهم ألقوا أنفسهم، قال السدي: ألقى موسى عصاه فأكلت كل حية لهم، فلما رأوا ذلك سجدوا، وعن قتادة نحوه، قال ابن عباس: لما رأت السحرة ما رأت عرفت أن ذلك من أمر السماء وليس بسحر فخروا سجداً قيل كانت مع السحرة حمل ثلاثمائة بعير فلما ابتلعتها عصا موسى كلها آمنوا به وخروا ساجدين.
(قالوا آمنا) وإنما قالوا هذه المقالة وصرحوا بأنهم آمنوا (برب العالمين) ثم لم يكتفوا بذلك حتى قالوا
(رب موسى وهرون) لئلا يتوهم متوهم من قوم فرعون المقرين بإلهيته أن السجود له قال الأوزاعي: لما خر السحرة سجداً رفعت لهم الجنة حتى نظروا إليها، وقدموا موسى في الذكر وإن كان هرون أسن منه لكبره في الرتبة أو لأنه وقع فاصلة هنا. ولذلك قال في سورة طه (رب هرون وموسى) لوقوع موسى فاصلة أو لكون كل طائفة منهم قالت إحدى المقالتين فنسب فعل البعض إلى المجموع في سورة وفعل بعض آخر إلى المجموع في أخرى.
(قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم) والاستفهام للإنكار والتوبيخ والقراآت هنا أربع كلها سبعية ذكرها السمين، أنكر فرعون على السحرة إيمانهم بموسى قبل أن يأذن لهم بذلك وقال (إن هذا لمكر مكرتموه) أي حيلة احتلتموها أنتم وموسى على مواطأة بينكم سابقة، ومعنى (في المدينة) أن هذه الحيلة
والمواطأة كاذت بينكم وأنتم بمدينة مصر قبل أن تبرزوا أنتم وموسى إلى هذه الصحراء (لتخرجوا منها) أي من مدينة مصر (أهلها) من القبط وتستولوا عليها وتسكنوا فيها أنتم وبنو إسرائيل.
وهاتان شبهتان ألقاهما إلى أسماع عوام القبط تثبيتاً لهم على ما هم عليه وتهييجاً لعداوتهم لموسى، ثم هددهم بقوله (فسوف تعلمون) عاقبة صنعكم هذا وسوء مغبته ليريهم أن له قوة.
ثم لم يكتف بهذا الوعيد والتهديد المجمل بل فصله فقال
(لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف) أي الرجل اليمنى واليد اليسرى أو الرجل اليسرى واليد اليمنى، قال ابن عباس: هو أول من قطع الأيدي والأرجل من خلاف وقال قتادة: أي يداً من ههنا ورجلاً من ههنا.
ثم لم يكتف عدو الله بهذا بل جاوزه إلى غيره فقال (ثم لأصلبنكم في جذوع النخل) على شاطئ نيل مصر أي أجعلكم عليها مصلوبين زيادة تنكل بهم وإفراطاً في تعذيبهم.
قال ابن عباس: أول من صلب فرعون، وجيء هنا ثم وفي السورتين ولأصلبنكم بالواو لأن الواو صالحة للمهلة فلا تنافي بين الآيات (أجمعين) تأكيد أتى به دون كل وإن كان الأكثر سبقه بكل، وجاء بجملة قسمية تأكيداً لما يفعله يقال صلبه يصلبه ويصلبه وهما لغتان في المضارع.
(قالوا إنا إلى ربنا منقلبون) أي إنك وإن فعلت بنا هذا الفعل فبعده يوم الجزاء سيجازيك الله بصنعك ويحسن إلينا بما أصابنا في ذاته، فتوعدوه بعذاب الله في الآخرة لما توعدهم بعذاب الدنيا، ويحتمل أن يكون المعنى إنا إليه لمنقلبون بالموت أي لا بد لنا من الموت، ولا يضرنا كونه بسبب منك.
وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127)
(وما تنقم) بكسر القاف وقرئ بفتحها، قال الأخفش هي لغة يقال نقمت الأمر أنكرته أي لست تعيب علينا وتنكر (منا) قال عطاء أي ما لنا عندك من ذنب تعذبنا عليه، وقيل ما تكره منا وما تطعن علينا وتقدح فينا (إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا) مع أن هذا هو الشرف العظيم والخير الكامل، وأصل المفاخر، ومثله لا يكون موضعاً للعيب ومكاناً للإنكار. بل هو حقيق بالثناء الحسن والاستحسان البالغ فلا نعدل عنه أصلاً طلباً لمرضاتك، والاستثناء مفرغ.
ثم تركوا خطابه وقطعوا الكلام معه والتفتوا إلى خطاب الجناب العليّ مفوضين الأمر إليه طالبين منه عز وجل أن يثبتهم على هذه المحنة بالصبر قائلين (ربنا أفرغ علينا صبراً) الإفراغ الصب أي أصببه كاملاً تاماً حتى يفيض علينا ويغمرنا، ولهذا أتى بلفظ التكثير يعني صبراً وأي صبر عظيم يصب صباً ذريعاً كما يفرغ الماء فراغاً، طلبوا أبلغ أنواع الصبر استعداداً منهم لما سينزل بهم من العذاب من عدو الله وتوطيناً لأنفسهم على التصلب في الحق وثبوت القدم على الإيمان.
ثم قالوا (وتوفنا) إليك (مسلمين) أي ثابتين على الإسلام غير محرفين ولا مبدلين ولا مفتونين بالوعيد. ولقد كان ما هم عليه من السحر والمهارة في علمه مع كونه شراً محضاً سبباً للفوز بالسعادة لأنهم علموا أن هذا الذي جاء به موسى خارج عن طوق البشر، وأنه من فعل الله سبحانه، فوصلوا بالشر إلى
الخير، ولم يحصل من غيرهم ممن لا يعرف هذا العلم من أتباع فرعون ما حصل منهم من الإذعان والاعتراف والإيمان.
وإذا كانت المهارة في علم الشر قد تأتي بمثل هذه الفائدة، فما بالك بالمهارة في علم الخير، اللهم انفعنا بما علمتنا وثبت أقدامنا على الحق وأفرغ علينا سجال الصبر وتوفنا مسلمين آمين قال ابن عباس: كانوا في أول النهار سحرة وفي آخر النهار شهداء، قيل فعل بهم فرعون ما توعدهم به وقيل لم يقدر عليه لقوله تعالى (أنتما ومن اتبعكما الغالبون).
(وقال الملأ من قوم فرعون أتذر) الاستفهام منهم للإنكار عليه أي أتترك (موسى وقومه ليفسدوا في الأرض) أي في مصر بإيقاع الفرقة وتشتيت الشمل (ويذرك) بياء الغيبة ونصب الراء هذه قراءة العامة، وفيها وجهان أظهرهما أنه على العطف على ليفسدوا، والثاني أنه منصوب على جواب الاستفهام كما ينصب في جوابه بعد الفاء.
والمعنى كيف يكون الجمع بين تركك موسى وقومه مفسدين، وبين تركهم إياك وعادة آلهتك، أي لا يمكن وقع ذلك وقرئ برفع الراء وفيها ثلاثة أوجه أظهرها أنه نسق على أتذر أي اتطلق له ذلك، والثاني أنه استئناف أخبار ذلك، الثالث أنه حال ولا بد من إضمار مبتدأ أي وهو يذرك، وقرئ بالجزم إما على التخفيف بالسكون لنقل الضمة أو على ما قيل في (وأكن من الصالحين) في توجيه الجزم، وقرئ بالنون والرفع والمعنى أنهم أخبروا عن أنفسهم بأنهم سيذرونك.
ْ (وآلهتك) اختلف المفسرون في معناها لكون فرعون كان يدعي الربوبية كما في قوله (ما علمت لكم من إله غيري) وقوله (أنا ربكم الأعلى) فقيل ومعنى آلهتك طاعتك وقيل معناه عبادتك، ويؤيده قراءة علي وابن عباس والضحاك:
وإلاهتك وفي حرف أبي ليفسدوا في الأرض وقد تركوك أن يعبدوك وقيل إنه كان يعبد بقرة، وقيل كان يعبد النجوم وقيل كان له أصنام يعبدها قومه تقرباً إليه فنسبت إليه، ولهذا قال (أنا ربكم الأعلى) قاله الزجاج، وقيل كان يعبد الشمس والكواكب.
والأقرب أن يقال: إن فرعون كان دهرياً منكراً لوجود الصانع فكان يقول مدبر هذا العالم السفلي هو الكواكب فاتخذ أصناماً على صورتها وكان يعبدها ويأمر بعبادتها، وكان يقول في نفسه إنه هو المطاع والمخدوم في الأرض فلهذا قال أنا ربكم الأعلى.
قال سعيد بن جبير ومحمد بن المنكدر: كان ملك فرعون أربعمائة سنة وعاش ستمائة وعشرين سنة لم ير مكروهاً قط ولو كان حصل له في تلك المدة جوع يوم أو حمى ليلة أو وجع ساعة لما ادعى الربوبية.
(قال) فرعون مجيباً لهم ومثبتاً لقلوبهم على الكفر (سنقتل) قرىء بالتشديد والتخفيف (أبناءهم ونستحي نساءهم) أي نتركهن في الحياة ولم يقل سنقتل موسى لأنه يعلم أنه لا يقدر عليه، قيل كان ترك القتل في بني إسرائيل بعد ما ولد موسى فلما جاء موسى بالرسالة وكان من أمره ما كان أعاد فيهم القتل.
(وإنا فوقهم قاهرون) أي مستعلون عليهم بالقهر والغلبة وهم تحت قهرنا وبين أيدينا، ما شئنا أن نفعله بهم فعلناه ففعلوا بهم ذلك، فشكا بنو إسرائيل.
قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130)
(قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا) أي لما بلغ موسى ما قاله فرعون أمر قومه بالاستعانة بالله والصبر على المحنة ثم أخبرهم (إن الأرض لله) يعني أرض مصر وإن كانت الأرض كلها لله أو أراد جنس الأرض، والأول أولى (يورثها من يشاء من عباده) هو وعد من موسى لقومه بالنصر على فرعون وقومه وإن الله سيورثهم أرضهم وديارهم (والعاقبة) المحمودة في الدنيا والآخرة وعاقبة كل شيء آخره وقيل أراد الجنة (للمتقين) من عباده وهم موسى ومن معه.
(قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا) وذلك بقتل فرعون أبناءنا عند مولدك لما أخبر بأنه سيولد مولود يكون زوال ملكه على يده، وبقتل أبنائنا الآن، وقيل المعنى أوذينا من قبل أن يأتينا بالرسالة باستعمالنا في الأعمال الشاقة بغير جعل كضرب اللبن ونقل التراب ونحو ذلك،، ومن بعد ما جئنا بما صرنا فيه الآن من الخوف على أنفسنا وأولادنا وأهلنا وقيل إن الأذى من قبل ومن بعد واحد وهو قبض الجزية منهم.
(قال) موسى مجيباً لهم (عسى ربكم أن يهلك عدوكم) مستأنفة كالتي قبلها وعدهم بإهلاك الله لعدوهم وهو فرعون وقومه (ويستخلفكم في الأرض) هو تصريح بما رمز إليه سابقاً من أن الأرض لله، وقد حقق الله رجاءه وملكوا مصر في زمان داود وسليمان وفتحوا بيت المقدس مع يوشع بن نون، وأهلك
فرعون وقومه بالغرق وأنجاهم (فينظر كيف تعملون) فيها من الأعمال أي من الإصلاح والإفساد بعد أن يمن عليكم بإهلاك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فيجازيكم بما عملتم من خير وشر.
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: إن بنا أهل البيت يفتح ويختم، ولا بد أن تقع دولة لبني هاشم فانظروا فيمن يكون من بني هاشم، وفيهم نزلت (عسى ربكم أن يهلك عدوكم) الآية، وينبغي أن ينظر في صحة هذا عن ابن عباس فالآية نازلة في بني إسرائيل واقعة في هذه القصة الحاكية لما جرى بين موسى وفرعون لا في بني هاشم.
(ولقد أخذنا) لام قسم أي والله لقد ابتلينا وهذا شروع في تفصيل مبادئ هلاكهم وتصدير الجملة بالقسم لإظهار الاعتناء بمضمونها (آل فرعون) أي قومه (بالسنين) أي الجدب والقحط، وهذا معروف عند أهل اللغة يقولون إصابتهم سنة أي جدب سنة، ويقال أسنتوا كما يقال أجدبوا، وفي الحديث اللهم اجعلها عليهم سنين كَسِنِي يوسف وهن سبع سنين، والسنة من الأسماء الغالبة كالدابة والنجم.
والمعنى أخذناهم بالجوع سنة بعد سنة، وأكثر العرب يعربون السنين إعراب الجمع المذكر السالم ومنهم من يعربه إعراب المفرد ويجري الحركات على النون، قاله أبو زيد وحكى الفراء عن بني عامر أنهم يقولون أقمت عنده سنياً مصروفاً قال وبنو تميم لا يصرفونه، قال ابن مسعود: السنين الجوع، وقال مجاهد: الجوائح، قال ابن عباس: لما أخذ الله آل فرعون بالسنين يبس كل شيء لهم وذهبت مواشيهم حتى يبس نيل مصر.
واجتمعوا إلى فرعون فقالوا إن كنت كما تزعم فأتنا في نيل مصر بماء قال، غدوة يصبحكم الماء فلما خرجوا من عنده قال أي شيء صنعت إن لم
أقدر على أن أجري في نيل مصر ماء غدوة كذبوني، فلما كان جوف الليل قام فاغتسل ولبس مدرعة صوف، ثم خرج حافياً حتى أتى نيل مصر فقال اللهم إنك تعلم أني أعلم أنك تقدر على أن تملأ نيل مصر ماء فاملأه ماء فما علم إلا بخرير الماء يقبل فخرج وأقبل النيل يزخ بالماء لما أراد الله بهم من الهلكة (1).
(ونقص من الثمرات) بسبب عدم نزول المطر وكثرة العاهات وإتلاف الغلات بالآفات قال قتادة: أما السنون فلأهل البوادي، وأما نقص الثمرات فلأهل الأمصار، والمعنى أخذناهم بها (لعلهم يذكرون) يتعظون ويرجعون عن غوايتهم.
(1) وفي رواية ابن الجوزي قال: (3/ 247):
روى الضحاك عن ابن عباس قال: يبس لهم كل شيء، وذهبت مواشيهم، حتى يبس نيل مصر، فاجتمعوا إلى فرعون فقالوا له: إن كنت رباً كما تزعم، فاملأ لنا نيل مصر، فقال غُدوة يصبحكم الماء، فلما خرجوا من عنده، قال: أي شيء صنعت؟ أنا أقدر أن أجيء بالماء في نيل مصر غدوة أصبح، فيكذبوني؟! فلما كان جوف الليل، اغتسل، ثم لبس مدرعة من صوف، ثم خرج حافياً حتى أتى بطن نيل مصر فقام في بطنه، فقال: اللهم إنك تعلم أني أعلم أنك تقدر أن تملأ نيل مصر ماء، فاملأه، فما علم إلا بخرير الماء لما أراد الله به من الهلكة. قلت: وهذا الحديث بعيد الصحة، لأن الرجل كان دهرياً لا يثبت إلهاً. ولو صح، كان إقراره بذلك كإقرار إبليس، وتبقى مخالفته عناداً.