المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ - فتح البيان في مقاصد القرآن - جـ ٤

[صديق حسن خان]

الفصل: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ

إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ‌

(54)

(إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض) هذا نوع من بديع صنع الله وجليل قدرته وتفرده بالإيجاد الذي يوجب على العباد توحيده وعبادته وأصل الخلق في اللغة التقدير، ويستعمل في إبداع الشيء من غير أصل سبق ولا ابتداء تقدم، فمعنى الآية أنشأ خلقهما وقدر أحوالهما (في ستة أيام) اليوم عبارة عن مقدار من الزمان وهو من طلوع الشمس إلى غروبها.

قيل هذه الأيام من أيام الدنيا وقيل من أيام الآخرة، قال ابن عباس: كل يوم مقداره ألف سنة وبه قال الجمهور وهذه الأيام الستة أولها الأحد وآخرها الجمعة، وبه قال عبد الله بن سلام وكعب الأحبار والضحاك ومجاهد واختاره ابن جرير والطبري وهو سبحانه قادر على خلقها في لحظة واحدة يقول لها كوني فتكون، ولكنه أراد أن يعلم عباده الرفق والتأني في الأمور.

وقال سعيد بن جبير تعليماً لخلقه التثبت كما في الحديث التأني من الله والعجلة من الشيطان أو خلقها لكون كل شيء له عنده أجل، وفي آية أخرى (ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب) وحديث: خلق الله الأرض يوم الأحد والاثنين وخلق الجبال وما فيهن من منافع يوم الثلاثاء الخ رواه مسلم والحاكم عن ابن عباس (1).

لكن يشكل على هذا التوزيع أنه لم يكن ثم أيام لعدم الشمس والقمر حينئذ ولا يتعين الأحد ولا غيره من الأيام إلا بوجودها بالفعل، ذكره سليمان

(1) مسلم/2789.

ص: 373

الجمل. وقال والجواب بقوله (أي في قدرها) لا يدفع هذا الإشكال كما لا يخفى.

(ثم استوى على العرش) قد اختلف العلماء في معنى هذا على أربعة عشر قولاً وأحقها وأولاها بالصواب مذهب السلف الصالح أنه استوى سبحانه عليه بلا كيف بل على الوجه الذي يليق به مع تنزهه عما لا يجوز عليه.

والاستواء في لغة العرب هو العلو والاستقرار، قال الجوهري: استوى على ظهر دابته أي استقر واستوى إلى السماء أي صعد، واستوى أي استولى وظهر وبه قال المعتزلة وجماعة من المتكلمين: واستوى الرجل أي انتهى شبابه واستوى أي: اتسق واعتدل.

وحكي عن أبي عبيدة أن معنى استوى هنا علا وارتفع، وللشوكاني رسالة مستقلة في إثبات إجراء الصفات على ظواهرها منها صفة الاستواء، ولشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني والحافظ الإمام محمد بن أبي بكر بن القيم الجوزي إلمام تام بمسألة الاستواء هذه وإثبات الفوقية والعلو له تعالى على خلقه ولهما في ذلك رسائل مستقلة ما بين مطولة منها ومختصرة، وكتاب العلو للحافظ الذهبي فيه جميع ما ورد في ذلك من الآيات والأحاديث وغيرها، وقد أوضحت هذا المقام في كتابي الانتقاد الرجيح في شرح الاعتقاد الصحيح.

وعن أم سلمة قالت: الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإقرار به إيمان والجحود له كفر، أخرجه ابن مردويه وعن مالك بن أنس نحوه وزاد والسؤال عنه بدعة، قال النسفي وتفسير العرش بالسرير والاستواء بالاستقرار كما تقوله المشبهة باطل انتهى.

وأقول يا مسكين أما شعرت أن العرش في اللغة هو السرير، والاستواء هو الاستقرار وبه فسره حبر الأمة وترجمان القرآن ابن عباس كما في البخاري

ص: 374

وليس في ذلك تشبيه أصلاً إنما التشبيه في بيان الكيفية بل الإنكار عن ذلك تعطيل يخالف مذهب سلف الأمة وأئمتها، وهو إمرار الصفات كما جاءت وإجراؤها على ظواهرها بلا تكييف ولا تأويل ولا تعطيل ولا تشبيه، ويعالج التشبيه بكلمة إجمالية ليس كمثله شيء.

والعرش قال الجوهري هو سرير الملك، وقيل هو ما علا فأظل، وسمي مجلس السلطان عرشاً اعتباراً لعلوه ويكنى عن العز والسلطان والمملكة بالعرش على الاستعارة والمجاز.

ويطلق على معان أخر منها عرش البيت سقفه وعرش البئر طيها بالخشب وعرش السماك أربعة كواكب صغار.

وعبارة الخفاجي العرش هو فلك الأفلاك إما حقيقة لأنه بمعنى المرتفع أو استعارة من عرش الملك وهو سريره ومنه ورفع أبويه على العرش، أو بمعنى الملك بضم الميم وسكون اللام، ومنه ثل عرشه إذا انتقض ملكه واختل انتهى.

وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة صفة عرش الرحمن وإحاطته بالسموات والأرض وما بينهما وما عليهما وهو المراد هنا، قال الراغب: وعرش الله عز وجل مما لا يعلمه البشر إلا بالاسم على الحقيقة، وليس هو كما تذهب إليه أوهام العامة فإنه لو كان كذلك لكان حاملاً له، تعالى الله عن ذلك وليس كما قال قوم إنه الفلك الأعلى والكرسي فلك الكواكب.

قيل والمراد به هنا هو الجسم النوراني المرتفع على كل الأجسام المحيطة بكلها.

(يغشي الليل النهار) أي يجعل الليل كالغشاء للنهار فيغطي بظلمته ضياءه قرئ يغشي بالتشديد والتخفيف وهما لغتان، يقال أغشى يغشي غشي يغشي والتغشية في الأصل إلباس الشيء الشيء، ولم يذكر في هذه الآية يغشي

ص: 375

الليل بالنهار اكتفاء بأحد الأمرين عن الآخر كقوله (سرابيل تقيكم الحر) أو لدلالة الحال عليه أو لأن اللفظ يحتملهما بجعل الليل مفعولاً أولاً والنهار مفعولاً ثانياً أو بالعكس.

وذكر في آية أخرى يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل ذكره الكرخي، والتقدير استوى على العرش مغشياً الليل النهار.

والآية الكريمة من باب أعطيت زيداً عمراً لأن كلا من الليل والنهار يصلح أن يكون غاشياً ومغشياً فوجب جعل الليل هو الفاعل المعنوي، والنهار هو الفعول من غير عكس.

(يطلبه حثيثاً) أي حال كون الليل طالباً للنهار طلباً لا يفتر عنه بحال، والحث الحمل على فعل الشيء كالحض عليه والاستعجال والسرعة، يقال ولى حثيثاً أي مسرعاً، والحث والحض أخوان يقال حثثت فلاناً فاحتث فهو حثيث ومحثوث وفعله من باب رد.

قال الرازي: إنه سبحانه وصف هذه الحركة بالسرعة الشديدة وذلك أن تعاقب الليل والنهار إنما يحصل بحركة الفلك الأعظم وتلك الحركة أشد الحركات سرعة، فإن الإنسان إذ كان في أشد عدوه بمقدار رفع رجله ووضعها يتحرك الفلك الأعظم ثلاثة آلاف ميل وهي ألف فرسخ. ولهذا قال يطلبه حثيثاً لسرعته وحركته أي يعقبه سريعاً كالطالب له لا يفصل بينهما بشيء، والجملة حال من الليل لأنه هو المحدث عنه أي يغشي النهار طالباً له أو من النهار أي مطلوباً أو من كل منهما وعليه الجلال.

(والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره) أي خلقها حال كونها

ص: 376

مسخرات والإخبار عن هذه بالتسخير وهو التذليل لما يراد منها من طلوع وغروب وسير ورجوع إذ ليس هن قادرات بأنفسهن، وإنما يتصرفن على إرادة المدبر لهن على ما أراد منهن.

(ألا) أداة استفتاح و (له) خبر مقدم والمبتدأ (الخلق والأمر) إخبار منه سبحانه لعباده بأنهما له، والخلق المخلوق والأمر كلامه، وهو كن في قوله (إنما أمرنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) أو المراد بالأمر ما يأمر به على التفصيل والتصرف في مخلوقاته.

قال سفيان بن عيينة: الخلق ما دون العرش والأمر فوق ذلك.

واستخرج من هذا المعنى أن كلام الله ليس بمخلوق لأنه فرق بين الخلق والأمر ومن جعل الأمر الذي هو كلامه من جملة ما خلقه فقد كفر. وفي الآية دليل على أنه لا خالق إلا الله ففيه رد على من يقول إن للشمس والقمر والكواكب تأثيرات في هذا العالم فأخبر أنه هو الخالق المدبر لهذا العالم لا هن وله الأمر المطلق. وليس لأحد أمر غيره، فهو الآمر والناهي الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا اعتراض لأحد من خلقه عليه.

(تبارك الله رب العالمين) أي كثرت بركته واتسعت. ومنه بورك الشيء وبورك فيه كذا قال ابن عرفة، وقال الأزهري معناه تعالى وتعاظم، وقيل تمجد وارتفع، وختم الآية بالثناء عليه لأنه هو المستحق للمدح المطلق، وقال ابن عباس: معناها جاء بكل بركة، وقيل تقدس وقيل باسمه يتبرك في كل شيء، وقيل معناه ثبت ودام. وفي الجمل تبارك فعل ماض لا يتصرف أي لم يجىء منه مضارع ولا أمر ولا اسم فاعل، وقال الزجاج: تبارك من البركة، وهي الكثرة في كل خير.

ص: 377