المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ - فتح البيان في مقاصد القرآن - جـ ٤

[صديق حسن خان]

الفصل: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ‌

(158)

ابن عباس وهو مقارب لمعنى الصرف، وقد تقدم تحقيق معنى هذا اللفظ وفي هذه الآية تبكيت لهم عظيم.

(هل ينظرون) أي لما أقمنا عليهم الحجة وأنزلنا الكتاب على رسولنا المرسل إليهم فلم ينفعهم ذلك ولم يرجعوا به عن غوايتهم فما بقي بعد هذا (إلا) أنهم ينتظرون (أن تأتيهم الملائكة) لقبض أرواحهم وعند ذلك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو أن تأتيها الملائكة بالعذاب (أو يأتي ربك) يا محمد كما اقترحوه بقولهم: (لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا) وقيل معناه يأتي أمر ربك بإهلاكهم، وقد جاء في القرآن حذف المضاف كثيراً كقوله:(واسأل القرية) وقوله: (وأشربوا في قلوبهم العجل) أي حب العجل.

وقيل إتيان الله مجيئه يوم القيامة لفصل القضاء بين خلقه كقوله: وجاء ربك والملك صفاً صفاً قاله ابن مسعود وقتادة ومقاتل، وقال: يأتي في ظلل من الغمام وقيل كيفية الإتيان من التشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله فيجب إمرارها بلا تكييف ولا تعطيل.

(أو يأتي بعض آيات ربك) الدالة على الساعة قال جمهور المفسرين هو طلوع الشمس من مغربها ويدل عليه ما أخرج أحمد وعبد بن حميد في مسنده والترمذي وأبو يعلى وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله بعض آيات ربك قال:

ص: 283

" طلوع الشمس من مغربها "(1) قال الترمذي غريب، وروي موقوفاً.

فإذا ثبت رفع هذا التفسير النبوي من وجه صحيح لا قادح فيه فهو واجب التقديم له متحتم الأخذ به، ويؤيده ما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون، فذلك حين لا ينفع نفسها إيمانها، ثم قرأ الآية "(2)، وأخرج مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم عن أبي ذر مرفوعاً نحوه، وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس مرفوعاً نحوه أيضاً.

(يوم يأتي بعض آيات ربك) التي اقترحوها وهي التي تضطرهم إلى الإيمان، أو ما هو أعم من ذلك فيدخل فيه ما ينتظرونه، وقيل الآيات هي علامات القيامة المذكورة في الأحاديث الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي التي إذا جاءت (لا ينفع نفسها إيمانها).

والكبرى منها عشرة وهي: الدجال والدابة وخسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب، والدخان وطلوع الشمس من مغربها ويأجوج ومأجوج ونزول عيسى، ونار تخرج من عدن تسوق الناس إلى المحشر، والبحث مستوفى في كتابنا حجج الكرامة في آثار يوم القيامة.

(لم تكن آمنت من قبل) أي قبل إتيان بعض الآيات، فأما التي قد كانت آمنت من قبل مجيء بعضها فإيمانها ينفعها (أو كسبت في إيمانها خيراً) أي لا ينفع نفساً إيمانها عند حضور الآيات متصفة بأنها لم تكن آمنت من قبل أو آمنت من قبل ولكن لم تكسب في إيمانها خيراً، فحصل من هذا أنه لا ينفع

(1) البخاري كتاب الفتن الباب 25 - أبو داود كتاب الجهاد الباب 2.

(2)

مسلم 157 - بخاري 73.

ص: 284

إلا الجمع بين الإيمان من قبل مجيء بعض الآيات مع كسب الخير في الإيمان، فمن آمن من قبل فقط ولم يكسب خيراً في إيمانه أو كسب خيراً ولم يؤمن فإن ذلك غير نافع.

قال السدى: يقول كسبت في تصديقها عملاً صالحاً فهؤلاء أهل القبلة، وإن كانت مصدقة لم تعمل قبل ذلك خيراً فعملت بعد أن رأت الآية لم يقبل منها وإن عملت قبل الآية خيراً ثم عملت بعد الآية خيراً قبل منها، وقال مقاتل: يعني المسلم الذي يعمل في إيمانه خيراً وكان قبل الآية مقيماً على الكبائر.

أقول ووجه الإشكال في هذه الآية الكريمة هو أن عدم الإيمان السابق يستلزم عدم كسب الخير فيه بلا شك ولا شبهة إذ لا خير لمن لا إيمان له، فيكون على هذا ذكره تكراراً إن كان حرف التخيير على بابه من دون تأويل، وأيضاً عدم الإيمان مستقل في إيجابه للخلود في النار فيكون ذكر عدم الثاني لغواً، وكذلك وجود الإيمان مع كسب الخير فيه مستقل في إيجابه للخلوص عن النار وعدم الخلود فيها فيكون ذكر الأول أعني الإيمان بمجرده لغواً.

فهذا وجه الإشكال في الآية باعتبار حرف التخيير المقتضى لكفاية أحد الأمرين على إنفراده وقد ذكروا في التخلص عن هذا الإشكال وجوها.

أحدها: أنه يتحقق النفع بأيهما كان، ولا يخفاك أن هذا تدفعه الأدلة الواردة بعدم الانتفاع بالإيمان من دون عمل.

والوجه الثاني: أنه لا ينفع إلا تحقق الأمرين جميعاً الإيمان وكسب الخير فيه، وهذا أيضاً يدفعه المعنى العربي والإعرابي فإنه لو كان هو المراد لقال: لم تكن آمنت من قبل وكسبت في إيمانها خيراً.

الوجه الثالث: أن ذكر الشق الثاني من شقي الترديد لقصد بيان النفع

ص: 285

الزائد وتحرّي الأفضل والأكمل، وهذا أيضاً فيه خروج عما يوجبه معنى الترديد الذي يقتضيه حرفه الموضوع له.

الوجه الرابع: أن يراد الكلام مردداً على هذه الصفة المقصود به التعريض بحال الكفار المفرطين في الأمرين جميعاً، وهذا أيضاً خروج عن مقصود الآية بتأويل بعيد جداً لم يدل عليه دليل.

الوجه الخامس: أن الآية من باب اللف التقديري أي لا ينفع نفساً إيمانها ولا كسبها في الإيمان لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً. ورد بأن معنى اللف التقديري على أن يكون المقدر من مهمات الكلام ومقتضيات المقام فترك ذكره تعويلاً على دلالة الملفوظ عليه واقتضائه إياه، وليس هذا من ذاك.

الوجه السادس: أنهما معاً شرطان في النفع وأن العدول إلى هذه العبارة لقصد المبالغة في شأن كل واحد منهما بأنه صالح للاستقلال بالنفع في الجملة، ولا يخفي أن هذا مجرد دعوى لا دليل عليها، وإخراج للترديد عن مفاده الذي تقتضيه لغة.

الوجه السابع: أن ظاهر الآية المقتضى لمجرد نفع الإيمان يعارض بالأدلة الصحيحة الثابتة كتاباً وسنة أنه لا ينفع الإيمان إلا مع العمل وهذا هو الوجه القوي، والتقرير السوي، والاستدلال الواضح، والترجيح الراجح لسلامته عن التكلفات والتعسفات في معنى الآية وعن الإهمال لما فيها من الترديد الواضح بين شِقَّي الإيمان المجرد والإيمان مع العمل.

ولا ينافي هذا ما ورد من الأدلة على نفع الإيمان المجرد فإنها مقيدة بالأدلة الدالة على وجوب العمل بما شرعه الله لعباده من أصول الشرائع وفروعها، فاشدد يديك على هذا ولا تلتفت إلى ما وقع من التدقيقات الزائفة والدعاوي الداحضة، فإن ذلك لا حامل عليه ولا موجب له إلا المحاماة على المذهب

ص: 286

وتقويمها، وجعل نصوص الله سبحانه تابعة لها، وتأويل ما خالفها حتى كأنها هي الشريعة المحكمة التي يرد إليها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

ومن العجب أن محققي المفسرين وكبارهم مع ما في هذه الآية الكريمة من الإشكال المقتضى لتوسيع دائرة المقال اكتفوا في الكلام عليها بالنزر الحقير والبحث اليسير، حتى إن الرازي مع تطويله للمباحث في غالب تفسيره، اقتصر في تفسيره على قوله. والمعنى أن أشراط الساعة إذا ظهرت ذهب أوان التكليف فلم ينفع الإيمان نفساً ما آمنت وما كسبت في إيمانها خيراً قبل ذلك انتهى بحروفه.

فانظر هذا الذي اقتصر عليه واجعله موعظة لك فإنه إنما يكون تفسير الآية لو كانت هكذا: لم تكن آمنت من قبل وكسبت في إيمانها خيراً، من دون حرف التخيير، وهكذا الزمخشري قبله فإنه اقتصر في تفسير الآية على ما لا يسمن ولا يغني من جوع، وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية والله ولي التوفيق.

(قل) أمره الله سبحانه أن يقول لهم (انتظروا) ما تريدون إتيانه وما وعدتم به من مجيء الآيات، وهذا أمر تهديد على حد (اعملوا ما شئتم) وذلك أنهم لا ينتظرون ما ذكر لإنكارهم للبعث وما بعده (إنا منتظرون) وهو يقوي ما قيل في تفسير (يوم يأتي بعض آيات ربك) إنها الآيات التي اقترحوها من إتيان الملائكة أو إتيان العذاب لهم من قبل كما تقدم بيانه.

قال بعض المفسرين: وهذا إنما ينتظره من تأخر في الوجود من المشركين المكذبين بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى ذلك الوقت، والمراد بهذا أن المشركين إنما يمهلون قدر مدة الدنيا فإذا ماتوا أو ظهرت الآيات لم ينفعهم الإيمان وحلت بهم العقوبة اللازمة أبداً، وقيل المراد بهذه الآية الكف عن القتال فتكون الآية منسوخة بآية القتال. وعلى القول الأول تكون محمكة.

ص: 287

إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160) قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161)

ص: 288

(إن الذين فرقوا) أي تركوا (دينهم) وخرجوا عنه باختلافهم فيه، والمعنى أنهم جعلوا دينهم متفرقاً فأخذوا ببعضه وتركوا بعضه، قيل المراد بهم اليهود، قاله مجاهد، وقيل اليهود والنصارى، وبه قال ابن عباس وقتادة والسدي والضحاك.

وقد ورد في معنى هذا في اليهود قوله تعالى (وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة) وقبل المراد بهم المشركون، عبد بعضهم الأصنام وبعضهم الملائكة وبعضهم الكواكب، فكان هذا هو تفريق دينهم.

وقال أبو هريرة: هم أهل الضلالة من هذه الأمة، وقيل الآية عامة في جميع الكفار وكل من ابتدع وجاء بما لم يأمر به الله، وهذا هو الصواب لأن اللفظ يفيد العموم فيدخل فيه طوائف أهل الكتاب وطوائف المشركين وغيرهم ممن ابتدع من أهل الإسلام.

وأخرج ابن جرير والطبراني وابن مردويه والحكيم الترمذي والشيرازي في الألقاب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الآية قال " هم أهل البدع والأهواء من هذه الأمة "(1) وفي إسناده عبد بن كثير وهو متروك الحديث ولم يرفعه غيره ومن عداه وقفوه على أبي هريرة، وعن أبي أمامة قال هم الحرورية، وروي عنه مرفوعاً ولا يصح رفعه.

(1) ابن كثير 2/ 196.

ص: 288

وعن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: " يا عائش إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً هم أصحاب البدع وأصحاب الأهواء وأصحاب الضلالة من هذه الأمة ليست لهم توبة وهم مني براء "(1)، رواه الطبري والبيهقي وأبو نعيم وغيرهم. قال ابن كثير هو غريب لا يصح رفعه.

فعلى هذا يكون المراد من هذه الآية الحث على أن تكون كلمة المسلمين واحدة وأن لا يتفرقوا في الدين ولا يبتدعوا البدع المضلة.

وروى أبو داود والترمذي عن معاوية قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: " ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملة وأن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين إثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة وهي الجماعة "(2) وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " أن بني إسرائيل تفرقت على اثنتين وسبعين ملة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلها في النار إلا ملة واحدة، قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: من كان على ما أنا عليه وأصحابي " أخرجه الترمذي (3).

(وكانوا شيعاً) أي فِرقاً وأحزاباً فيصدق على كل قوم كان أمرهم في الدين واحداً مجتمعاً ثم اتبع كل جماعة منهم رأي كبير من كبرائهم يخالف الصواب ويباين الحق.

(لست منهم) أي من تفرقهم أو من السؤال عن سبب تفرقهم والبحث عن موجب تحزبهم (في شيء) من الأشياء فلا يلزمك من ذلك شيء ولا تخاطب به إنما عليك البلاغ، وهو مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم " من غشنا فليس منا " أي نحن برآء منه (4).

(1) ابن كثير 2/ 196.

(2)

صحيح الجامع الصغير 2638.

(3)

صحيح الجامع الصغير 5219.

(4)

صحيح الجامع الصغير 6283.

ص: 289

وقال الفراء: لست من عقابهم في شيء وإنما عليك الإنذار، وقيل لست في قتال الكفار، وعلى هذا تكون الآية منسوخة بآية القتال والأول أولى ..

(إنما أمرهم) يعني في الجزاء والمكافأة (إلى الله) فيه تسلية له صلى الله عليه وسلم أي هو مجاز لهم بما تقتضيه مشيئته، والحصر بإنما هو في حكم التعليل لما قبله والتأكيد له (ثم) هو (ينبئهم) يوم القيامة ويخبرهم بما ينزل بهم من المجازاة (بما كانوا يفعلون) من الأعمال التي تخالف ما شرعه الله لهم وأوجبه عليهم.

ولما توعد سبحانه المخالفين له بما توعد، بين عقب ذلك مقدار جزاء العاملين بما أمرهم به الممتثلين لما شرعه لهم بأن

ص: 290

(من جاء بالحسنة) الواحدة من الحسنات، عن ابن مسعود أي قال لا إله إلا الله، وعن ابن عباس وأبي هريرة مثله وعن سعيد بن جبير قال: لا نزلت هذه الآية قال رجل من المسلمين يا رسول الله لا إله إلا الله حسنة قال " نعم أفضل الحسنات "، أخرجه عبد بن حميد. وهذا مرسل لا ندري كيف إسناده إلى سعيد.

(فله) من الجزاء يوم القيامة (عشر) حسنات (أمثالها) فأقيمت الصفة مقام الموصوف، وقد ثبت هذا التضعيف في السنة بأحاديث كثيرة، وهذا هو أقل ما يستحقه عامل الحسنة، وقد وردت الزيادة على هذا عموماً وخصوصاً ففي القرآن [كمثل حبة أنبتت سبع سنابل الآية]، وورد في بعض الحسنات أن فاعلها يجازى عليها بغير حساب، وورد في السنة المطهرة تضعيف الجزاء إلى سبعين وإلى سبعمائة وإلى ألوف مؤلفة. وفضل الله واسع وعطاؤه جم، وقد قدمنا تحقيق هذا في موضعين من هذا التفسير فليرجع إليهما.

(ومن جاء بالسيئة) أي بالأعمال السيئة (فلا يجزى إلا مثلها) من دون زيادة عليها أي على قدرها في الخفة والعظم إن جوزي، فالمشرك يجازى على سيئة الشرك بخلوده في النار، وفاعل المعصية من المسلمين يجازى عليها بمثلها مما ورد

ص: 290

تقديره من العقوبات كما ورد بذلك كثير من الأحاديث المصرحة بأن من عمل كذا فعليه كذا، وما لم يرد لعقوبته تقدير من الذنوب فعلينا أن نقول يجازيه الله بمثله وإن لم نقف على حقيقة ما يجازى به، وهذا إن لم يتب، أما إذا تاب أو غلبت حسناته سيئاته أو تغمده الله برحمته وتفضل عليه بمغفرته فلا مجازاة، وأدلة الكتاب والسنة مصرحة بهذا تصريحاً لا يبقى بعده ريب لمرتاب.

(وهم) أي المحسنون والمسيئون (لا يظلمون) بنقص المثوبات ولا بزيادة العقوبات والأولى في هذه الآية أن اللفظ عام في كل حسنة يعملها العبد أو سيئة وإعطاء الثواب لعامل الحسنة فضل من الله، وجزاء السيئة بمثلها عدل منه سبحانه.

ص: 291

(قل) لما بين سبحانه أن الكفار تفرقوا فرقاً وتحزبوا أحزاباً أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم (إنني هداني ربي) أي أرشدني بما أوحاه إلي (إلى صراط مستقيم) هو ملة إبراهيم عليه السلام.

(ديناً قيماً) بكسر القاف والتخفيف وفتح الياء وبفتح القاف وكسر الياء المشددة وهما لغتان، ومعناه الدين المستقيم الذي لا عوج فيه.

(ملة إبراهيم حنيفاً) مائلاً إلى الحق، وفي القاموس الحنيف كأمير الصحيح الميل إلى الإسلام الثابت عليه وكل من حج أو كان على دين إبراهيم، وتحنف عمل عمل الحنيفية أو اختتن أو اعتزل عبادة الأصنام، وإليه مال انتهى وقد تقدم تحقيقه.

(وما كان من المشركين) جملة معترضة مقررة لما قبلها، وفيه رد على كفار قريش لأنهم يزعمون أنهم على دين إبراهيم فأخبر سبحانه أنه لم يكن ممن يعبد الأصنام.

ص: 291

قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164)

ص: 292

(قل إن صلاتي) قيل القول الأول إشارة إلى أصول الدين وهذا إلى فروعها وإليه نحا أبو السعود وغيره، وهذا غير ظاهر لأن كون الصلاة وما بعدها لله من قبيل الأصول لا الفروع كما لا يخفى، والمراد بالصلاة جنسها فيدخل فيه جميع أنواعها وقيل صلاة الليل وقيل صلاة العيد وقيل الصلاة المفروضة والأول أولى.

(ونسكي) النسك جمع نسيكة وهي الذبيحة كذا قال مجاهد والضحاك وسعيد بن جبير وغيرهم أي ذبيحتي في الحج والعمرة، وقال الحسن ديني، وقال قتادة ضحيتي وقال الزجاج عبادتي من قولهم نسك فلان ناسك إذا تعبد، وبه قال جماعة من أهل العلم ونقل الواحدي عن ابن الأعرابي قال النسك سبائك الفضة كل سبيكة منها نسيكة، وقيل للمتعبِّد ناسك لأنه صفى نفسه كالسبيكة انتهى، ولا يخلو هذا من تكلف وبعد.

(ومحياي ومماتي) أي ما أعمله في هاتين الحالتين من أعمال الخير، ومنها في الممات الوصية بالصدقات وأنواع القربات وقيل نفس الحياة ونفس الموت (لله رب العالمين) أي خالصة أو مخلوقة له.

ص: 292

(لا شريك له) في العبادة والخلق والقضاء والقدر، وسائر أفعاله لا يشاركه فيها أحد من خلقه (وبذلك) أي بالتوحيد أو بمأ أفاده قوله لله من

ص: 292

الإخلاص في الطاعة وجعلها لله وحده (أمرت وأنا أول المسلمين) أي المنقادين من هذه الأمة قاله قتادة.

وأخرج الحاكم وصححه وابن مردويه والببهقي عن عمران بن حصين قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا فاطمة قومي فاشهدي أضحيتك فإنه يغفر لك بأول قطرة تقطر من دمها كل ذنب عملته وقولي إن صلاتي " إلى " وأنا أول المسلمين، قلت يا رسول الله هذا لك ولأهل بيتك خاصة فأهل ذلك أنتم أم للمسلمين عامة قال لا بل المسلمين عامة " (1).

(1) المستدرك كتاب الأضاحي 4/ 222.

ص: 293

(قل أغير الله) الاستفهام للإنكار وهو جواب على المشركين لما دعوه إلى عبادة غيره سبحانه أي كيف (أبغي) غير الله (رباً) مستقلاً وأترك عبادة الله أو شريكاً لله فأعبدهما معاً (وهو) أي والحال أنه (رب كل شيء) والذي تدعونني إلى عبادته هو من جملة من هو مربوب له مخلوق مثلي، لا يقدر على نفع ولا ضرر، فكيف يكون المملوك شريكاً لمالكه، وفي هذا الكلام من التقريع والتوبيخ لهم ما لا يقادر قدره.

(ولا تكسب كل نفس إلا عليها) أي لا تؤخذ بما أتت من الذنب وارتكبت من المعصية سواها فكل نفس كسبها للشر عليها لا يتعداها إلى غيرها. وهو مثل قوله تعالى (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) وقوله (لتجزى كل نفس بما تسعى)(ولا تزر) تحمل نفس (وازرة) حاملة (وزر) حمل (أخرى) ولا تؤاخذ نفس آثمة بإثم أخرى (1).

(1) روى أبو داود عن أبي رمته قال: انطلقت مع أبي نحو النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي:" ابنك هذا "؟ قال: أي وَرَبِّ الكعبة. قال: " حقاً ". قال: اشهد به، قال: أقسم النبي صلى الله عليه وسلم ضاحكاً منها ثبت شبهى في أبي، ومن حَلِف أبي عليّ. ثم قال:" أما أنه لا يجني عليك ولا تجني عليه ". وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وَلَا تَزِر ُوَازِرَهُ وِزْر َأخرى).

ص: 293

وأصل الوزر الثقل، ومنه قوله تعالى (ووضعنا عنك وزرك) وهو هنا الذنب، قال ابن عباس لا يؤاخذ أحد بذنب غيره، وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم، وفيه رد لما كانت عليه الجاهلية من مؤاخذة القريب بذنب قريبه.

والواحد من القبيلة بذنب الآخر، وقد قيل: إن المراد بهذه الآية في الآخرة، وكذلك التي قبلها لقوله تعالى (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) ومثله قول زينب بنت جحش يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون قال نعم إذا كثر الخبث " (1).

والأولى حمل الآية على ظاهرها، أعني العموم وما ورد من المؤاخذة بذنب الغير كالدية التي تحملها العاقلة ونحو ذلك فيكون في حكم المخصص لهذا العموم ويقر في موضعه، ولا يعارض هذه الآية قوله تعالى (وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم) فإن المراد بالأثقال التي مع أثقالهم هي أثقال الذين يضلونهم كما في الآية الأخرى (ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم).

(ثم إلى ربكم مرجعكم) يوم القيامة (فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون) في الدنيا من الأديان والملل وعند ذلك يظهر حق المحقين وباطل المبطلين.

(1) مسلم 2880 - البخاري 1582.

ص: 294