المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا - فتح البيان في مقاصد القرآن - جـ ٤

[صديق حسن خان]

الفصل: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا

وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ ‌

(98)

(وهو الذي أنشاكم من نفس واحدة) أي آدم عليه السلام كما تقدم، وهذا نوع آخر من بديع خلقه الدال على كمال قدرته، أخرج ابن مردويه عن أبي أمامة مرفوعاً أن الله نصب آدم بين يديه ثم ضرب كتفه اليسرى فخرجت ذريته من صلبه حتى ملأ الأرض، فهذا الحديث هو بمعنى ما في هذه الآية.

(فمستقر) قرئ بكسر القاف وبفتحها أي فمنكم قار في الأرحام أو فلكم مقر، التقدير الأول على القراءة الأولى، والثاني على الثانية وقيل أي فمنكم مستقر على الأرض، أو فلكم مستقر على ظهرها (و) منكم (مستودع) في الرحم أو في باطن الأرض أو في أصلاب الرجال والدواب.

قال ابن عباس: المستقر في أرحام الأمهات، والمستودع في أصلاب الآباء، ثم قرأ (ونقر في الأرحام ما نشاء) وروي عنه أنه قال بالعكس، يعني أن المستقر صلب الأب، والمستودع رحم الأم، وقال ابن مسعود: بالمستقر في الرحم إلى أن يولد، والمستودع في القبر إلى أن يبعث.

وقال مجاهد: المستقر على ظهر الأرض في الدنيا، والمستودع عند الله في الآخرة، وقال الحسن: المستقر في القبر، والمستودع في الدنيا، وقيل المستقر في الرحم والمستودع في الأرض.

قال القرطبي: وأكثر أهل التفسير يقولون المستقر ما كان في الرحم، والمستودع ما كان في الصلب، والفرق بينهما أن المستقر أقرب إلى الثبات من

ص: 204

المستودع، لأن المستقر من القرار والمستودع معرض للرد.

وجعل الحصول في الرحم استقراراً، وفي الصلب استيداعاً لأن النطفة تبقى في صلب الآباء زماناً قصيراً والجنين يبقى في بطن الأم زماناً طويلاً، فكلما كان المكث في بطن الأم أكثر من المكث في صلب الأب حمل المستقر على الرحم والمستودع علي الصلب.

وقيل المستقر من خلق، والمستودع من لم يخلق، وقيل المستودع في القبر والمستقر إما في الجنة أو النار لأن المقام فيهما يقتضي الخلود والتأييد، وقيل الاستيداع إشارة إلى كونهم في القبور إلى المبعث، ومما يدل على تفسير المستقر بالكون على الأرض قول الله تعالى:(ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين).

(قد فصلنا الآيات) أي بينا الدلائل الدالة على التوحيد والبراهين الواضحة والحجج النيرة (لقوم يفقهون) غوامض الدقائق، ذكر سبحانه ههنا يفقهون وفيما قبله (يعلمون) لأن في إنشاء الأنفس من نفس واحدة وجعل بعضها مستقراً وبعضها مستودعاً من الغموض والدقة ما ليس في خلق النجوم للاهتداء فناسبه ذكر الفقه لإشعاره بمزيد تحقيق وإمعان فكر، وتدقيق نظر.

ص: 205

وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99) وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100)

ص: 206

(وهو الذي أنزل من السماء ماء) هذا نوع آخر من عجائب مخلوقاته، والماء هو ماء المطر قيل ينزل المطر من السماء إلى السحاب، ومن السحاب إلى الأرض.

(فأخرجنا به) فيه التفات من الغيبة إلى التكلم إظهاراً للعناية بشأن هذا المخلوق وما ترتب عليه، والضمير في به عائد إلى الماء أي بسببه، فالسبب واحد والمسببات كثيرة (نبات كل شيء) يعني كل صنف من أصناف النبات المختلفة، وقيل المعنى رزق كل شيء من الأنعام والبهائم والطير والوحوش وبني آدم وأقواتهم، والأول أولى.

ثم فصل هذا الإجمال فقال: (فأخرجنا منه خضراً) قال الأخفش: أي أخضر، والخضر رطب البقول، وهو ما يتشعب من الأغصان الخارجة من الحبة، وقيل يريد القمح والشعير والذرة والأرز وسائر الحبوب وجميع الزروع والبقول.

(نخرج منه حباً متراكباً) أي نخرج من تلك الأغصان الخضر حباً مركباً بعضه على بعض كما في السنابل، قال السدي: أي سنبل القمح والشعير والأرز والذرة وسائر الحبوب، وفي تقديم الزرع على النخل دليل على الأفضلية ولأن حاجة الناس إليه أكثر، لأنه القوت المألوف، والتعبير بالمضارع مع أن

ص: 206

المقام للماضي لاستحضار الصورة الغريبة.

(ومن النخل) اسم جنس جمعي يذكر ويؤنث قال تعالى: (كأنهم أعجاز نخل خاوية) وقال تعالى: (كأنهم أعجاز نخل منقعر).

(من طلعها قنوان) قرئ بكسر القاف وفتحها باعتبار إختلاف اللغتين لغة قيس ولغة أهل الحجاز، والطلع الكفري قبل أن ينشق عن الإغريض، والإغريض يسمى طلعاً أيضاً وهو ما يكون في قلب الطلع، والطلع أول ما يبدو ويخرج من ثمر النخل كالكيزان يكون فيه العذق فإذا شق عنه كيزانه يسمى عذقاً، وهو القنو، وجمعه قنوان مثل صنو وصنوان، والفرق بين جمعه وتثنيته أن المثنى مكسور النون، والجمع على ما يقتضيه الإعراب، والقنو العذق، والمعنى أن القنوان أصله من الطلع والعذق هو عنقود النخل، وقيل القنوان الجمار أو العراجين.

(دانية) قريبة ينالها القائم والقاعد، وقال مجاهد: متدلية، وقال الضحاك: قصار ملتصقة بالأرض أي دانية في المجتنى لانحنائها بثقل حملها أو لقصر ساقها قال الزجاج: المعنى منها دانية ومنها بعيدة فحذف ومثله (سرابيل تقيكم الحر) وخص الدانية بالذكر لأن الغرض من الآية بيان القدر والامتنان وذلك فيما يقرب تناوله أكثر.

وقال ابن عباس: قصار النخل اللاصقة عذوقها بالأرض، وعنه قنوان الكبائس والدانية المنصوبة، وقال أيضاً تهدل العذوق من الطلع، وذكر الطلع مع النخل لأنه طعام وإدام دون سائر الأكمام، وتقديم النبات لتقدم القوت على الفاكهة.

(وجنات) أي ولهم جنات، قاله النحاس وأجازه سيبويه والكسائي والفراء، وأما على النصب فالتقدير وأخرجنا به جنات أي بساتين كائنة (من

ص: 207

أعناب والزيتون والرمان) أي وأخرجنا شجرهما (مشتبهاً وغير متشابه) أي كل واحد منهما يشبه بعضه بعضاً في بعض أوصافه، ولا يشبهه في البعض الآخر.

وقيل أن أحدهما يشبه الآخر في الورق باعتبار اشتماله على جميع الغصن وباعتبار حجمه، ولا يشبه أحدهما الآخر في الطعم، قال قتادة: متشابهاً ورقه مختلفاً ثمره لأن ورق الزيتون يشبه ورق الرمان، يقال مشتبه ومتشابه بمعنى كما يقال اشتبه وتشابه كذلك.

وذكر سبحانه في هذه الآية أربعة أنواع من الشجر بعد ذكر الزرع لأن الزرع غذاء، وثمار الأشجار فواكه، والغذاء مقدم على الفواكه، وإنما قدم النخلة على غيرها لأن ثمرتها تجري مجرى الغذاء وفيها من المنافع والخواص ما ليس في غيرها من الأشجار، وإنما ذكر العنب عقب النخلة لأنها من أشرف أنواع الفواكه، ثم ذكر عقبه الزيتون لما فيه من البركة والمنافع الكثيرة في الأكل وسائر وجوه الاستعمال، ثم ذكر عقبه الرمان لما فيه من الفوائد العظيمة لأنه فاكهة ودواء وقيل خص الزيتون والرمان لقرب منابتهما من العرب كما في قول الله تعالى:(أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت).

(أنظروا إلى ثمره) أي ثمر كل واحد مما ذكر يعني رطبه وعنبه، قاله محمد بن كعب القرظي قرئ ثمره بفتح الثاء والميم وبضمهما وهو جمع ثمرة كشجرة وشجر، وخشبة وخشب (إذا أثمر) أي إذا أخرج ثمره كيف يخرجه ضعيفاً لا ينتفع به (وينعه) عن البراء قال: نضجه أي إدراكه كيف يعود شيئاً جامعاً لمنافع.

أمرهم الله سبحانه بأن ينظروا نظر اعتبار إلى ثمره إذا أثمر وإلى ينعه إذا ينع كيف أخرج هذه الثمرة اللطيفة من هذه الشجرة الكثيفة ونقلها من حال

ص: 208

إلى حال، والثمر في اللغة جناء الشجر واليانع الناضج الذي قد أدرك وحان قطافه، قال ابن الأنباري: الينع جمع يانع كركب وراكب وقال الفراء: أينع أحمر.

(إن في ذلكم) الإشارة إلى ما تقدم ذكره مجملاً ومفصلاً (لآيات) أي لآيات عظيمة أو كثيرة دالة على وجود القادر الحكيم ووحدته، فإن حدوث هاتيك الأجناس المختلفة والأنواع المتشعبة من أصل واحد وانتقالها من حال إلى حال على نمط بديع يحار في فهمها الألباب، لا يكاد يكون إلا بإحداث صانع يعلم تفاصيلها ويرجح ما تقتضيه حكمته من الوجوه الممكنة على غيره ولا يعوقه عن ذلك ضد يناويه أو ند يقاويه.

(لقوم يؤمنون) بالله استدلالاً بما يشاهدونه من عجائب مخلوقاته التي قصها عليهم، وقيل معنى يؤمنون يصدقون يعني أن الذي يقدر على ذلك قادر على أن يحيي الموتى ولبعثهم.

ص: 209

(وجعلوا لله شركاء الجن) هذا كلام يتضمن ذكر نوع آخر من جهالاتهم وضلالاتهم، والمعنى أنهم جعلوا شركاء لله فعبدوهم كما عبدوه وعظموهم كما عظموه، قال الحسن: أي أطاعوا الجن في عبادة الأوثان، وقال الزجاج: أطاعوهم فيما سولت لهم من شركهم، وقيل المراد بالجن ههنا الملائكة لاجتنابهم أي استتارهم وهم الذين قالوا الملائكة بنات الله.

وقيل نزلت في الزنادقة الذين قالوا أن الله تعالى وإبليس إخوان، فالله خالق الناس والدواب، وإبليس خالق الحيات والسباع والعقارب، روى ذلك عن الكلبي نقله ابن الجوزي عن ابن السائب والرازي عن ابن عباس، ويقرب من هذا قول المجوس فإنهم قالوا للعالم صانعان هما الرب سبحانه والشيطان وهكذا القائلون إن كل خير من النور وكل شر من الظلمة وهم المانوية.

ص: 209

ومعنى (وخلقهم) قد علموا أن الله خلقهم وخلق ما جعلوه شريكاً لله وهذا كالدليل القاطع على أن المخلوق لا يكون شريكاً لله، وكل ما في الكون محدث مخلوق فامتنع أن يكون شريكاً له في ملكه.

(وخرقوا) بالتشديد على التكثير لأن المشركين ادعوا أن الملائكة بنات الله والنصارى ادعوا أن المسيح ابن الله، واليهود ادعوا أن عزيراً ابن الله فكثر ذلك من كفرهم فشدد الفعل لمطابقة المعنى، وقرئ بالتخفيف، وقرئ وحرفوا من التحريف أي زوروا قال أهل اللغة معنى خرقوا اختلقوا وافتعلوا وكذبوا، يقال اختلق الإفك واخترقه وخرقه، وأصله من خرق الثوب إذا شقه أي اشتقوا.

(له بنين وبنات) كائنين (بغير علم) بل قالوا ذلك عن جهل خالص، وقيل بغير علم بحقيقة ما قالوه من خطأ أو صواب بل رميا بقول عن عمى وجهالة من غير فكر وروية أو بغير علم بمرتبة ما قالوه وإنه من الشناعة والبطلان بحيث لا يقادر قدره.

ثم بعد حكاية هذا الضلال البين والبهت الفظيع من جعل الجن شركاء لله، وإثبات بنين وبنات له، نزه الله نفسه عن هذه الأقاويل الفاسدة فقال:(سبحانه) وقد تقدم الكلام في معنى سبحانه وفيه تنزيه الله عن كل ما لا يليق بجلاله (و) معنى (تعالى عما يصفون) تباعد وارتفع عن قولهم الباطل الذي وصفوه به.

ص: 210

بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)

ص: 211

(بديع السموات والأرض) أي مبتدعهما وقد جاء البديع بمعنى المبدع كالسميع بمعنى المسمع كثيراً، وقيل الأصل بديع سمواته وأرضه والإبداع عبارة عن تكوين الشيء على غير مثال سابق، والاستفهام في (أنى يكون له ولد) للإنكار والاستبعاد أي من كان هذا وصفه وهو أنه خالقهما ومبدع ما فيهما فكيف يكون له ولد، وهو من جملة مخلوقاته وكيف يتخذ ما يخلقه ولداً ثم بالغ في نفي الولد فقال:

(ولم تكن له صاحبة) أي والحال أنه لم تكن له صاحبة، والصاحبة إذا لم توجد استحال وجود الولد (وخلق كل شيء) جملة مقررة لما قبلها لأن من كان خالقاً لكل شيء استحال منه أن يتخذ بعض مخلوقاته ولداً، وهذه الآية حجة قاطعة على فساد قول النصارى (وهو بكل شيء عليم) لا يخفى عليه من مخلوقاته خافية.

ص: 211

(ذلكم) أي المتصف بالأوصاف السابقة (الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء) أي مما سيكون كما خلق في الماضي فلا تكرار، يعني من كانت هذه صفاته فهو الحقيق بالعبادة (فاعبدوه) ولا تعبدوا غيره ممن ليس له من هذه الصفات العظيمة شيء (وهو على كل شيء وكيل) أي رقيب حفيظ.

ص: 211

(لا تدركه) أي لا تراه (الأبصار) جمع بصر وهو حاسة النظر أي القوة الباصرة، وقد يقال للعين من حيث إنها محلها أي الحاسة، وإدراك الشيء عبارة عن الوصول إليه والإحاطة به، قال الزجاج: أي لا يبلغ كنه حقيقته،

ص: 211

فالأبصار ترى الباري عز اسمه ولا تحيط به كما أن القلوب تعرفه ولا تحيط به، قال سعيد بن المسيب: لا تحيط به الأبصار، وقال ابن عباس: كلت أبصار المخلوقين عن الإحاطة به، فالمنفى هو هذا الإدراك لا مجرد الرؤية فقد ثبتت الأحاديث المتواترة تواتراً لا شك فيه ولا شبهة ولا يجهله إلا من يجهل السنة المطهرة جهلاً عظيماً.

والحاصل أنه لا متمسك فيه لمنكري الرؤية على الإطلاق.

وأيضاً قد تقرر في علم البيان والميزان أن رفع الإيجاب الكلي سلب جزئي فالمعنى لا تدركه بعض الأبصار، وهي أبصار الكفار، هذا على تسليم أن نفي الإدراك يستلزم نفي الرؤية الخاصة، والآية من سلب العموم لا من عموم السلب، والأول يخلفه الجزئية، والتقدير لا تدركه كل الأبصار بل بعضها وهي أبصار المؤمنين، والمصير إلى أحد الوجهين متعين لما عرفناك من تواتر الرؤية في الآخرة واعتضادها بقوله تعالى:(وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة).

وقد تشبث قوم من أهل البدع وهم الخوارج والمعتزلة وبعض المرجئة بظاهر هذه الآية ولا يستتب ذلك كما تقدمت الإشارة إليه، على أن مورد الآية التمدح وهو يوجب ثبوت الرؤية إذ نفى إدراك ما تستحيل رؤيته لا تمدح فيه، لأن كل ما لا يرى لا يدرك وإنما التمدح بنفي الإدراك مع تحقق الرؤية فكانت الحجة لنا عليهم، ولو أمعنوا النظر فيها لاغتنموا التقصي عن عهدتها، ومن ينفي الرؤية يلزمه نفي كونه تعالى معلوماً موجوداً، والكلام في ذلك يطول جداً.

وقد أطال الواحد المتكلم الحافظ ابن القيم رحمه الله في حادي الأرواح في إثبات الرؤية ورد المنكرين لها. والشوكاني في البغية في مسألة الرؤية بما لا

ص: 212

مزيد عليه، وعن ابن عباس ذلك نوره إذا تجلى بنوره لا يدركه شيء، وفي لفظ إنما ذلك إذا تجلى بكيفيته لم يقم له بصر، وقال أيضاً لا يحيط بصر أحد بالله، وقال الحسن: لا تدركه الأبصار في الدنيا وهو يرى في الآخرة، وعن إسمعيل ابن علبة مثله.

(وهو يدرك الأبصار) أي يحيط بها ويبلغ كنهها لا يخفى عليه منها خافية أو يراها ولا تراه ولا يجوز في غيره أن يدرك البصر وهو لا يدركه، وخص الأبصار ليجانس ما قبله.

قال الزجاج: في هذا دليل على أن الخلق لا يدركون الأبصار أي لا يعرفون كيفية حقيقة البصر وما الشيء الذي صار به الإنسان يبصر من عينيه دون أن يبصر من غيرهما من سائر أعضائه انتهى.

(وهو اللطيف) أي الرفيق بعباده يقال لطف فلان بفلان أي رفق به.

واللطف في العمل الرفق فيه واللطف من الله تعالى التوفيق والعصمة، وألطفه بكذا إذا برَّه، والملاطفة المبارَّة هكذا قال الجوهري وابن فارس، و (الخبير) المختبر لكل شيء بحيث لا يخفى عليه شيء، ويجوز أن يكون هذا من باب اللف والنشر المرتب أي لا تدركه الأبصار لأنه اللطيف وهو يدرك الأبصار لأنه الخبير فيكون اللطيف مستعاراً من مقابل الكثيف، وهو الذي لا يدرك بالحاسة ولا ينطبع فيها قاله البيضاوي والأول أولى.

ص: 213

قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105) اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106)

ص: 214

(قد جاءكم بصائر من ربكم) البصائر جمع بصيرة وهي في الأصل نور القلب الذي تبصر به النفس أي الروح كما أن البصر هو النور الذي تبصر به العين، والمراد بها هنا الحجة البينة والبرهان الواضح، وإطلاق البصائر عليها مجاز من إطلاق اسم المسبب على السبب، وهذا الكلام استئناف وارد على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال في آخره:(وما أنا عليكم بحفيظ)، ووصف البصائر بالمجيء تفخيماً لشأنها وجعلها بمنزلة الغائب المتوقع مجيئه كما يقال جاءت العافية وانصرف المرض وأقبلت السعود وأدبرت النحوس.

(فمن أبصر فلنفسه) أي فمن تعقل الحجة وعرفها وأذعن لها فنفع ذلك لنفسه، لأنه ينجو بهذا الإبصار من عذاب النار (ومن عمي) عن الحجة ولم يتعقلها ولا أذعن لها (فعليها) أي فضرر ذلك على نفسه، لأنه يتعرض لغضب الله في الدنيا ويكون مصيره إلى النار، قال قتادة: فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فعليها.

(وما أنا عليكم بحفيظ) أحصي عليكم أعمالكم، وإنما أنا رسول أبلغكم رسالات ربي وهو الحفيظ عليكم، قال الزجاج: نزل هذا قبل فرض القتال ثم أمر أن يمنعهم بالسيف من عبادة الأوثان.

ص: 214

(وكذلك نصرف الآيات) أي مثل ذلك التصريف البديع نصرفها في الوعد والوعيد والوعظ والتنبيه ليعتبروا (وليقولوا درست) أي نصرف الآيات لتقوم الحجة وليقولوا درست أو ليقولوا درست صرفناها، وعلى هذا تكون اللام

ص: 214

للعاقبة أو للصيرورة، والمعنى ومثل ذلك التصريف نصرف الآيات وليقولوا درست فإنه لا احتفال بقولهم ولا اعتداد بهم، فيكون معناه الوعيد والتهديد لهم وعدم الإكتراث بقولهم، وقد أشار إلى مثل هذا الزجاج.

وقال النحاس: وفي المعنى قول آخر حسن وهو أن يكون معنى نصرف الآيات نأتي بها آية بعد آية ليقولوا درست علينا فيذكرون الأول بالآخر، فهذا حقيقته، والذي قاله الزجاج مجاز، والجمهور على كسر اللام وهي لام كي، وجوز أبو البقاء فيها الوجهين.

وفي درست قراآت دارست كفاعلت ودرست كفرحت ودرست كضربت، فعلى الأولى المعنى دارست أهل الكتاب ودارسوك أي ذاكرتهم وذاكروك، ويدل على هذا ما وقع في الكتاب العزيز من إخبار الله عنهم بقوله:(وأعانه عليه قوم آخرون) أي أعان اليهود النبي صلى الله عليه وسلم على القرآن ومثله قولهم [أساطيرالأولين اكتتبها فهي تملي عليه بكرة وأصيلاً]، وقولهم [إنما يعلمه بشر].

والمعنى على الثانية قدمت هذه الآيات وعفت وانقطعت وهو كقولهم أساطير الأولين، وعلى الثالثة مثل المعنى على الأول قال الأخفش: هي بمعنى دارست إلا أنه أبلغ، وقرأ المبرد: وليقولوا بإسكان اللام فيكون بمعنى التهديد أي وليقولوا ما شاءوا فإن الحق بين.

وهذا اللفظ أصله درس يدرس دراسة فهو من الدرس وهو القراءة وقيل من درسته أي ذللته بكثرة القراءة، وأصله درس الطعام أي داسه والدياس الدراس بلغة أهل الشام، وقيل أصله من درست الثوب أدرسه درساً أي أخلقته ودرست المرأة درساً أي حاضت، ويقال: إن فرج المرأة يكنى أبا دراس وهو من الحيض، والدرس أيضاً الطريق الخفي، وحكى الأصمعي بعير لم يدرس أي لم يركب.

ص: 215

وقرأ جمع من الصحابة درس أي محمد الآيات وقريء درست أي الآيات على البناء للمفعول ودارست أي اليهود محمداً، قال ابن عباس: درست قرأت وتعلمت ودارست خاصمت جادلت تلوت.

(ولنبينه) اللام فيه لام كي أي نصرف الآيات لكي نبينه، والضمير راجع إلى الآيات لأنها في معنى القرآن أو إلى القرآن وإن لم يجر له ذكر لأنه معلوم من السياق أو إلى التبيين المدلول عليه بالفعل (لقوم يعلمون) الحق من الباطل، قال ابن عباس: يريد أولياءه الذين هداهم إلى سبيل الرشاد وقيل المعنى نصرف الآيات ليسعد بها قوم ويشقى بها آخرون، فمن أعرض عنها وقال للنبي صلى الله عليه وسلم درست فهو شقي، ومن تبين له الحق وفهم معناها وعمل بها فهو سعيد، وفي هذا دليل قاطع على أن الله جعل تصريف الآيات سبباً لضلالة قوم وشقاوتهم وسعادة قوم وهدايتهم.

ص: 216

(اتبع ما أوحي إليك من ربك) أمره الله باتباع ما أوحي إليه وأن لا يشغل خاطره بهم بل يشتغل باتباع ما أمره الله.

وجملة (لا إله إلا هو) معترضة لقصد تأكيد إيجاب الإتباع، ثم أمره الله بالإعراض عنهم بعد أمره باتباع ما أوحي إليه فقال:(وأعرض عن المشركين) أي لا تلتفت إلى رأيهم ولا تحتفل بأقوالهم الباطلة التي من جملتها ما حكي عنهم آنفاً، وعلى هذا لا يجري فيها النسخ لأن المراد منه في الحال لا الدوام، وقيل هذا قبل نزول آية السيف قال السدي: هذا منسوخ نسخه القتال (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) والأول هو الأولى.

ص: 216

وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107) وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108)

ص: 217

(ولو شاء الله) عدم إشراكهم (ما أشركوا) أي لجعلهم مؤمنين وفيه أن الشرك بمشيئة الله سبحانه خلافاً للمعتزلة، والكلام في تقرير هذا على الوجه الذي يتعرف به أهل علم الكلام والميزان معروف فلا نطيل بإيراده، قال ابن عباس: يقول الله لو شئت لجمعتهم على الهدى أجمعين (وما جعلناك عليهم حفيظاً) أي رقيباً تمنعهم منا ومراعياً لأعمالهم مأخوذاً بإجرامهم (وما أنت عليهم بوكيل) أي قيم بما فيه نفعهم فتجلبه إليهم ليس عليك إلا إبلاغ الرسالة، قال قتادة: الوكيل الحفيظ.

ص: 217

(ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم) الموصول عبارة عن الآلهة التي كانت تعبدها الكفار، والمعنى لا تسب يا محمد آلهة هؤلاء الكفار التي يدعونها من دون الله فيتسبي عن ذلك سبهم لله عدواناً وتجاوزاً عن الحق وجهلاً منهم.

وفي هذه الآية دليل على أن الداعي إلى الحق والناهي عن الباطل إذا خشي أن يتسبي عن ذلك ما هو أشد منه من انتهاك حرم، ومخالفة حق ووقوع في باطل أشد، كان الترك أولى به بل كان واجباً عليه.

وما أنفع هذه الآية وأجل فائدتها لمن كان من الحاملين لحجج الله المتصدين لبيانها للناس إذا كان بين قوم من الصم البكم الذين إذا أمرهم بمعروف تركوه وتركوا غيره من المعروف، وإذا نهاهم عن منكر فعلوه وفعلوا غيره من المنكرات عناداً للحق وبغضاً لاتباع المحقين، وجرأة على الله سبحانه، فإن هؤلاء لا يؤثر فيهم إلا السيف، وهو الحكم العدل لمن عاند الشريعة المطهرة وجعل المخالفة لها والتجني على أهلها ديدنه وهجيراه كما يشاهد ذلك

ص: 217

في أهل البدع الذين إذا دعوا إلى حق وقعوا في كثير من الباطل، وإذا أرشدوا إلى السنة قابلوها بما لديهم من البدعة.

فهؤلاء هم المتلاعبون بالدين المتهاونون بالشرائع وهم أشر من الزنادقة لأنهم يحتجون بالباطل وينتمون إلى البدع، ويتظهرون بذلك غير خائفين ولا وجلين والزنادقة قد ألجمتهم سيوف الإسلام وتحاماهم أهله، وقد ينفق كيدهم ويتم باطلهم وكفرهم نادراً على ضعيف من ضعفاء المسلمين مع تكتم وتحرز وخيفة ووجل.

وقد ذهب جمهور أهل العلم إلى أن هذه الآية محكمة ثابتة غير منسوخة وهي أصل أصيل في سد الذرائع وقطع التطرق إلى الشبه، وقرئ عدوا بالضم وعدوا بالفتح ومعناهما واحد أي ظلماً وعدواناً، وعن ابن عباس قال: قالوا يا محمد- صلى الله عليه وسلم لتنتهين عن سبك آلهتنا أو لنهجون ربك فنهاهم الله أن يسبوا أوثانهم فيسبوا الله عدواً بغير علم.

وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ملعون من سب والديه، قالوا يا رسول الله وكيف يسب الرجل والديه؟ قال: يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه "(1).

(كذلك) أي مثل ذلك التزيين (زينا لكل أمة) من أمر الكفار (عملهم) من الخير والشر والطاعة والمعصية بإحداث ما يمكنهم منه ويحملهم عليه توفيقاً وتخذيلاً، وفي هذه الآية رد على القدرية والمعتزلة حيث قالوا: لا يحسن من الله خلق الكفر وتزيينه.

(ثم إلى ربهم مرجعهم) أي مصيرهم (فينبئهم بما كانوا يعملون) في الدنيا من المعاصي التي لم ينتهوا عنها ولا قبلوا من الأنبياء ما أرسلهم الله به إليهم وما تضمنته كتبه المنزلة عليهم.

(1) البخاري كتاب الكسوف الباب 6.

ص: 218

وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)

ص: 219

(وأقسموا بالله) أي الكفار مطلقاً أو كفار قريش (جهد أيمانهم) أشدها أي أقسموا أشد أيمانهم التي بلغتها قدرتهم، وقد كانوا يعتقدون أن الله هو الإله الأعظم، فلهذا أقسموا به والجهد بفتح الجيم المشقة وبضمها الطاقة ومن أهل اللغة من يجعلهما بمعنى واحد.

والمعنى أنهم اقترحوا على النبي صلى الله عليه وسلم آية من الآيات التي كانوا يقترحونها وأقسموا (لئن جاءتهم آية) أي هذه الآية التي اقترحوها كما جاءت من قبلهم وهذا إخبار عنهم من الله لا حكاية لقولهم وإلا لقيل لئن جاءتنا قاله أبو حيان (ليؤمنن بها) وليس غرضهم بذلك الإيمان بل معظم قصدهم التهكم على رسول الله صلى الله عليه وسلم والتلاعب بآيات الله وعدم الاعتداد بما شاهدوا منها فأمره الله سبحانه أن يجيب عليهم بقوله:

(قل إنما الآيات) أي هذه الآية التي يقترحونها وغيرها (عند الله) وليس عندي من ذلك لشيء، فهو سبحانه إن أراد إنزالها أنزلها، وإن أراد أن لا ينزلها لم ينزلها لأن المعجزات الدالة على النبوات شرطها أن لا يقدر على تحصيلها أحد إلا الله تعالى.

(وما يشعركم) أي وما يدريكم يعني أنتم لا تدرون ذلك، قال مجاهد وابن زيد: المخاطب بهذا المشركون، وقال الفراء وغيره: الخطاب للمؤمنين لأن المؤمنين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله لو نزلت الآية لعلهم يؤمنون فقال الله: وما يشعركم (أنها) قرئ بفتح الهمزة قال الخليل: أنها بمعنى لعلها وفي التنزيل (وما يدريك لعله يزكى) أي أنه يزكى، وحكى عن العرب ائت السوق أنك تشتري لنا شيئاً أي لعلك، وقد وردت أن في كلام العرب كثيراً

ص: 219

بمعنى لعل.

(إذا جاءت لا يؤمنون) قال الكسائي والفراء: أن لا زائدة والمعنى وما يشعركم أنها أي الآيات إذا جاءت يؤمنون فزيدت لا كما زيدت في قوله تعالى: (وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون) وفي قوله: (ما منعك أن لا تسجد) وضعف الزجاج والنحاس وغيرهما زيادة لا وقالوا هو خطأ وغلط، وذكر النحاس وغيره أن في الكلام حذفاً والتقدير أنها إذا جاءت لا يؤمنون أو يؤمنون ثم حذف هذا المقدر لعلم السامع.

ص: 220

(ونقلب أفئدتهم وأبصارهم) قيل يعني يوم القيامة على لهب النار وحر الجمر، والتقلب هو تحويل الشيء وتحريكه عن وجهه إلى وجه آخر، وقيل في الكلام تقديم وتأخير والتقدير أنها إذا جاءت لا يؤمنون كما لم يؤمنوا ونقلب أفئدتهم وأبصارهم ونذرهم.

(كما لم يؤمنوا به) في الدنيا (أول مرة) يعني الآيات التي جاء بها موسى وغيره من الأنبياء أو جاء بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من المعجزات الباهرات.

وقال ابن عباس: يعني لو ردوا من الآخرة إلى الدنيا نقلب أفئدتهم وأبصارهم عن الإيمان فلا يؤمنون به كما لم يؤمنوا به أول مرة قبل مماتهم (ونذرهم) أي نمهلهم ولا نعاقبهم في الدنيا، فعلى هذا بعض الآيات في الآخرة وبعضها في الدنيا وقيل المعنى ونقلب أفئدتهم وأبصارهم في الدنيا أي نحول بينهم وبين الإيمان لو جاءتهم تلك الآية كما حلنا بينهم وبين ما دعوتهم إليه أول مرة عند ظهور المعجزة.

(في طغيانهم يعمهون) أي يتحيرون يقال عمه في طغيانه عمها من باب تعب إذا تردد متحيراً مأخوذ من قولهم أرض عمهاء إذا لم يكن فيها أمارات تدل على النجاة فهو عمه وأعمه، قال ابن عباس: لما جحد المشركون ما أنزل الله لم يثبت قلوبهم على شيء وردت عن كل أمر.

ص: 220

وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)

ص: 221

(ولو أننا أنزلنا إليهم الملائكة) أي لو آتيناهم ما طلبوه لا يؤمنون كما اقترحوه بقولهم لولا أنزل عليه ملك (وكلمهم الموتى) الذين يعرفونهم بعد إحيائنا لهم (وحشرنا عليهم كل شيء) مما سألوه من الآيات وأصناف المخلوقات كالسباع والطيور، والحشر الجمع (قبلاً) أي كفلاء وضمناء بما جئناهم به من الآيات البينات أو حال كون الكفار معاينين رائين للآيات والأصناف.

قرئ قبلاً بضم القاف وقبلاً بكسرها أي مقابلة، قال المبرد: قبلاً بمعنى ناحية كما تقول لي قبل فلان مال، وبه قال أبو زيد وجماعة من أهل اللغة وعلى الأول ورد قوله تعالى:(أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً) أي يضمنون كذا قال الفراء وقال الأخفش: هو بمعنى قبيل قبيل أي جماعة جماعة.

وحكى أبو زيد: لقيت فلاناً قبلاً ومقابلة وقبلاً كلها واحد بمعنى المواجهة فيكون على هذا الضم كالكسر وتستوي القراءتان، وهو قول أبي عبيدة والفراء والزجاج، ونقله الواحدي أيضاً عن جميع أهل اللغة، قال ابن عباس: قبلاً معاينة، وقال قتادة: فعاينوا ذلك معاينة، وقال مجاهد: قبلاً أفواجاً، وقيل القبيل الكفيل بصحة ما تقول.

(ما كانوا ليؤمنوا) أي أهل الشقاء لما سبق في علم الله، واللام لام الجحود (إلا أن يشاء الله) أيمانهم أي إيمان أهل السعادة والذين سبق لهم في علمه أن يدخلوا في الإيمان فإن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن،

ص: 221

والاستثناء مفرغ، وبه قال ابن عباس وصححه الطبري، وقال أبو البقاء والحوفي الاستثناء منقطع وتبعه السيوطي لأن المشيئة ليست من جنس إرادتهم.

واستبعده أبو حيان وجرى على أنه متصل وكذلك البيضاوي وكثير من المعربين كالسفاقسي قالوا: والمعنى ما كانوا ليؤمنوا في حال من الأحوال إلا في حال مشيئته أو في سائر الأزمان إلا في زمن مشيئته، وقيل هو استثناء من علة عامة أي ما كانوا ليؤمنوا لشيء من الأشياء إلا لمشيئة الله الإيمان وهو الأولى كما تقدم، وفي هذا رد على القدرية والمعتزلة في قولهم إن الله أراد الإيمان من جميع الكفار.

(ولكن أكثرهم يجهلون) جهلاً يحول بينهم وبين درك الحق والوصول إلى الصواب، وقال البيضاوي: أي يجهلون أنهم لو أوتوا بكل آية لم يؤمنوا فيقسمون بالله جهد أيمانهم على ما لا يشعرون، ولذلك أسند الجهل إلى أكثرهم مع أن مطلق الجهل يعمهم أو ولكن أكثر المسلمين يجهلون أنهم لا يؤمنون فيتمنون نزول الآية طمعاً في إيمانهم انتهى.

ص: 222

(وكذلك) أي مثل هذا الجعل (جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن) هذا الكلام استئناف مسوق لتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفع ما حصل معه من الحزن بعدم إيمانهم، والمعنى كما ابتليناك بهؤلاء فقد ابتلينا الأنبياء من قبلك بقوم من الكفار فجعلنا لكل واحد منهم عدواً من كفار زمنهم وأن ذلك ليس مختصاً بك، والمراد بالشياطين المردة من الفريقين، والشيطان كل عات متمرد من الجن والإنس، وبه قال ابن عباس ومجاهد وقتادة.

قالوا وشياطين الإنس أشد تمرداً من شياطين الجن، وبه قال مالك بن دينار والإضافة بيانية أو من إضافة الصفة إلى الموصوف، والأصل الإنس والجن الشياطين، قال ابن عباس: إن للجن شياطين يضلونهم مثل شياطين الإنس يضلونهم فيلتقي شيطان الإنس وشيطان الجن فيقول هذا لهذا أضلله بكذا وأضلله بكذا، وعنه قال الجن هم الجان وليسوا شياطين، والشياطين ولد

ص: 222

إبليس وهم لا يموتون إلا مع إبليس، والجن يموتون، فمنهم المؤمن ومنهم الكافر.

وقال ابن مسعود: الكهنة هم شياطين الإنس، وقيل الكل من ولد إبليس وأضيف الشياطين إلى الإنس على معنى أنهم يغوونهم ويضلونهم، وبهذا قال عكرمة والضحاك والكلبي والسدي.

(يوحي بعضهم إلى بعض) أي حال كونهم يوسوس بعضهم لبعض، وقيل: إن الجملة مستأنفة لبيان حال العدو، وسمي وحياً لأنه إنما يكون خفية بينهم وجعل تمويههم (زخرف القول) لتزيينهم إياه والمزخرف المزين وزخارف الماء طرائقه، والزخرف هو الباطل من الكلام الذي قد زين ووشي بالكذب وكل شيء حسن مموه فهو زخرف يغرونهم بذلك (غروراً) هو الباطل.

قال ابن عباس: شياطين الجن يوحون إلى شياطين الإنس، فإن الله يقول (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم) ويحسن بعضهم لبعض القول ليتبعوهم في فتنتهم.

وقد أخرج أحمد وابن أبي حاتم والطبراني عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا أبا ذر تعوذ بالله من شر شياطين الجن والإنس، قال يا نبي الله وهل للإنس شياطين قال نعم شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً "(1).

(ولو شاء ربك ما فعلوه) الضمير يرجع إلى ما ذكر سابقاً من الأمور التي جرت من الكفار في زمنه وزمن الأنبياء قبله أي لو شاء ربك عدم وقوع ما تقدم ذكره ما فعلوه وأوقعوه، وقيل ما فعلوا الإيحاء المدلول عليه بالفعل (فذرهم) أي دع الكفار واتركهم، وهذا الأمر للتهديد كقوله ذرني ومن خلقت وحيداً.

(وما يفترون) إن كانت " ما " مصدرية فالتقدير اتركهم وإفتراءهم وإن كانت موصولة فالتقدير اتركهم والذي يفترونه، وهذا قبل الأمر بالقتال.

(1) النسائي، كتاب الإستعاذة، باب 48 - أحمد بن حنبل 5/ 178 - 265.

ص: 223

وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)

ص: 224

(ولتصغى) اللام لام كي وقيل اللام للأمر وهو غلط فإنها لو كانت لام الأمر جزمت الفعل، والإصغاء الميل يقال صغوت أصغو وصغيت أصغي ويقال أصغيت الإناء إذا أملته ليجتمع ما فيه وأصله الميل إلى الشيء لغرض من الأغراض، ويقال صغت النجوم إذا مالت للغروب وأصغت الناقة إذا مالت برأسها.

والضمير في (إليه) لزخرف القول أو لما ذكر سابقاً من زخرف القول وغيره أي أوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول ليغروهم ولتصغي إليه (أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة) من الكفار والمعنى أن قلوب الكفار تميل إلى زخرف القول وباطله وتحبه وترضى به، وهو قوله (وليرضوه) لأنفسهم بعد الإصغاء إليه (وليقترفوا ما هم مقترفون) من الآثام والإقتراف والاكتساب، يقال خرج ليقترف لأهله أي ليكتسب لهم، وقارف فلان هذا الأمر إذا واقعه، وقرفه إذا رماه بالرمية واقترف كذب، وأصله اقتطاع قطعة من الشيء أي ليكتسبوا من الأعمال الخبيثة ما هم مكتسبون.

وترتيب هذه المفاعيل في غاية الفصاحة لأنه أولاً يكون الخداع فيكون الميل فيكون الرضا فيكون الفعل أي الإقتراف، فكل واحد مسبي عما قبله قاله أبو حيان.

ص: 224

(أفغير الله) كلام مستأنف وارد على إرادة القول والاستفهام للإنكار أي قل لهم يا محمد كيف أضل وأميل إلى زخارف الشياطين و (ابتغي) غير الله حكماً هو أبلغ من الحاكم كما تقرر في مثل هذه الصفة المشتقة، أمره الله سبحانه وتعالى أن ينكر عليهم ما طلبوه منه من أن يجعل بينهم وبينه حكماً من أحبار اليهود أو من أساقفة النصارى فيما اختلفوا فيه وإن الله هو الحكم العدل بينه وبينهم.

(وهو الذي أنزل إليكم الكتاب) أي القرآن (مفصلاً) مبيناً واضحاً مستوفياً لكل قضية على التفصيل (والذين آتيناهم الكتاب) أي المعهود إنزاله من التوراة والإنجيل والزبور، أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بأن أهل الكتاب وإن أظهروا الجحود والمكابرة فإنهم (يعلمون أنه) أي القرآن (منزل من ربك) أي من عند الله مما دلتهم عليه كتب الله المنزلة كالتوراة والإنجيل من أنه رسول الله وأنه خاتم الأنبياء (بالحق) حال أي متلبساً بالحق الذي لا شك فيه ولا شبهة (فلا تكونن من الممترين) الشاكين فيه.

نهاه الله عن أن يكون من الممترين في أن أهل الكتاب يعلمون بأن القرآن منزل من عند الله بالحق، وبه قال الزمخشري: أو نهاه عن مطلق الإمتراء ويكون ذلك تعريضاً لأمته عن أن يمتري أحد منهم، أو الخطاب لكل من يصلح له أي فلا يكونن أحد من الناس من الممترين، ولا يقدح في ذلك كون الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإن خطابه خطاب لأمته.

ص: 225

(وتمت كلمة ربك) قرأ أهل الكوفة كلمة بالتوحيد والباقون بالجمع والمراد العبارات أو متعلقاتها من الوعد والوعيد، والمعنى أن الله قد أتم وعده ووعيده فظهر الحق وانطمس الباطل، وقيل المراد بالكلمة أو الكلمات القرآن أي لا أحد يقدر على تحريفه كما فعل بالتوراة فيكون هذا ضماناً له من الله بالحفظ أو لا نبي ولا كتاب بعده ينسخه، ومعنى تمت بلغت الغاية، وعن أنس

ص: 225

مرفوعاً قال: [لا إله إلا الله] أخرجه ابن مردويه وابن النجار.

وأخرج ابن أبي حاتم عن عامر بن عبد الله قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد الحرام يوم فتح مكة ومعه مخصرة ولكل قوم صنم يعبدونه فجعل يأتيها صنماً صنماً ويطعن في صدر الصنم بعصا ثم يعقره فكلما طعن صنماً اتبعه ضرباً بالقوس حتى يكسروه ويطرحوه خارجاً من المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: وتمت كلمات ربك الآية.

(صدقاً وعدلاً) أي تمام صدق وعدل، قال أبو البقاء والطبري النصب على التمييز وتبعهما السيوطي، وقال ابن عطية: هو غير صواب وليس في ذلك إبهام وأعربه الكواشي حالاً من ربك أو مفعولاً له، قال قتادة: صدقاً فيما وعد وعدلاً فيما حكم، وقيل صدقاً فيما أخبر عن القرون الماضية والأمم الخالية، وعما هو كائن إلى قيام الساعة وعدلاً فيما حكم من الأمر والنهي والحلال والحرام وسائر الأحكام.

(لا مبدل لكلماته) لا خلف فيها ولا مغير لما حكم به لما وصفها بالتمام وهو في كلامه تعالى يقتضي عدم قبول النقص والتغير، قال محمد بن كعب القرظي: لا تبديل لشيء قاله في الدنيا والأخرة كقوله: (ما يبدل القول لدي) وفيه دليل على أن السعيد لا ينقلب شقياً ولا الشقي ينقلب سعيداً فالسعيد من سعد من الأزل والشقي من شقي في الأزل (وهو السميع) لكل مسموع (العليم) بكل معلوم ومنه قول المتحاكمين.

ص: 226

وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119)

ص: 227

(وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله) أخبره الله سبحانه بأنه إذا رام طاعة أكثر من فيها أضلوه لأن الحق لا يكون إلا بيد الأقلين وهم الطائفة التي لا تزال على الحق ولا يضرها خلاف من خالفها كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقيل المراد بالأكثر الكفار وبالأرض مكة أي أكثر أهل مكة.

(إن يتبعون إلا الظن) أي ما يتبعون إلا الظن الذي لا أصل له وهو ظنهم أن معبوداتهم تستحق العبادة وأنها تقربهم إلى الله (وإن هم إلا يخرصون) أي يحدسون ويقدرون، وأصل الخرص القطع ومنه خرص النخل يخرص إذا حرزه ليأخذ منه الزكاة فالخارص يقطع بما لا يجوز القطع به إذ لا يقين منه أي إذا كان هذا حال أكثر من في الأرض فالعلم الحقيقي هو عند الله فاتبع ما أمرك به ودع عنك طاعة غيره.

ص: 227

(إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) أي بمن يهتدي إليه، قال بعض أهل العلم: إن أعلم في الموضعين بمعنى يعلم والوجه في هذا التأويل إن أفعل التفضيل لا ينصب الإسم الظاهر فتكون من منصوبة بالفعل الذي جعل أفعل التفضيل نائباً عنه، وقيل إن أفعل على بابه، والنصب بفعل مقدَّر، وقيل: إنها منصوبة بأفعل، أي إن ربك أعلم أيَّ الناس يضلُّ عن سبيله.

ص: 227

(فكلوا) في هذه الفاء وجهان (أحدهما) أنها جواب شرط مقدر قاله

ص: 227

الزمخشري (والثاني) أنها عاطفة على محذوف، قاله الواحدي وهو الظاهر (مما ذكر اسم الله عليه) عند ذبحه، لما تقدم ذكر ما يصنعه الكفار في الأنعام من تلك السنن الجاهلية أمر الله المسلمين بأن يأكلوا مما ذكر الاسم الشريف عليه.

وقيل إنها نزلت في سبب خاص كما أخرج أبو داود والترمذي وحسنه والبزار وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال: جاءت اليهود إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: إنا نأكل مما قتلنا ولا نأكل مما قتل الله فأنزل الله هذه الآية إلى قوله: (إنكم لمشركون) ولكن الإعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فكل ما ذكر الذابح عليه اسم الله حل إن كان مما أباح الله أكله وقال عطاء في هذه الآية الأمر بذكر الله على الشراب والذبح وكل مطعوم.

والشرط في (إن كنتم) للتهييج والإلهاب (بآياته مؤمنين) أي بأحكامه من الأوامر والنواهي التي من جملتها الأمر بالأكل مما ذكر اسم الله عليه لا مما ذكر عليه اسم غيره فقط أو مع اسمه تعالى أو مات حتف أنفه، وهذا يدل على أن الخطاب للمسلمين وقيل كانوا يحرمون أصنافاً من النعم ويحلون الميتة فقيل أحلوا ما أحل الله وحرموا ما حرم الله، وعلى هذا الخطاب للمشركين والأول أولى.

ص: 228

(وما لكم أن لا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه) الاستفهام للإنكار أي ما المانع لكم من أكل ما سميتم عليه بعد أن أذن لكم بذلك، وفيه تأكيد في إباحة ما ذبح على اسم الله دون غيره (وقد فصل لكم ما حرم عليكم) أي والحال أنه قد بين لكم بياناً مفصلاً يدفع الشك ويزيل الشبهة بقوله:(قل لا أجد فيما أوحي إلى محرماً) الآية وقال السيوطي يعني آية (حرمت عليكم الميتة) أي آية المائدة.

وحينئذ في المقام إشكال أورده الرازي وحاصله أن سورة الأنعام مكية

ص: 228

وسورة المائدة مدنية من آخر القرآن نزولاً بالمدينة، وقوله:(وقد فصل لكم) يقتضي أن ذلك التفصيل قد تقدم على هذا المحل، والمدني متأخر عن المكي، فيمتنع كونها متقدمة ثم قال: بل الأولى أن يقال هو قوله بعد هذه الآية: (قل لا أجد) وهذه وإن كانت مذكورة بعدها بقليل إلا أن هذا القدر من التأخر لا يمنع أن يكون هو المراد انتهى.

قلت وذكر المفسرون وجهاً آخر وهو أن الله علم أن سورة المائدة متقدمة على سورة الأنعام في الترتيب لا في النزول فبهذا الاعتبار حسنت الحوالة على ما في المائدة بقوله: (وقد فصل لكم) باعتبار تقدمه في الترتيب وإن كان متأخراً في النزول والله أعلم.

ثم استثنى فقال: (إلا ما اضطررتم إليه) من جميع ما حرمه عليكم فإن الضرورة تحلل الحرام وقد تقدم تحقيقه في البقرة قال قتادة: ما اضطررتم إليه من الميتة والدم ولحم الخنزير والاستثناء كما قال الحوفي منقطع، وبه قال التفتازاني، وقال أبو البقاء: متصل من طريق المعنى لأنه وبخهم بترك الأكل مما سمي عليه، وذلك يتضمن إباحة الأكل مطلقاً، وحاصله أن الاستثناء من الجنس فهو متصل، وقال زكريا فيه: إنه لا يكون حينئذ استثناء متصلاً بل هو استثناء مفرغ من الظرف العام المقدر.

(وإن كثيراً ليضلون بأهوائهم بغير علم) هم الكفار الذين كانوا يحرمون البحيرة السائبة ونحوهما فإنهم بهذه الأفعال المبنية على الجهل كانوا يضلون الناس فيتبعونهم ولا يعلمون أن ذلك جهل وضلالة لا يرجع إلى شيء من العلم، قال سعيد بن جبير: يعني من مشركي العرب ليضلون في أمر الذبائح (إن ربك هو أعلم بالمعتدين) أي بمن تعدى حدوده فأحل ما حرم وحرم ما أحل الله فيجازيهم على سوء صنيعهم.

ص: 229

وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)

ص: 230

(وذروا ظاهر الإثم وباطنه) الظاهر ما كان يظهر كأفعال الجوارح، والباطن ما كان لا يظهر كأفعال القلب، وقيل ما أعلنتم وما أسررتم، وقيل الزنا الظاهر والزنا المكتوم، وقال ابن عباس: الظاهر نكاح الأمهات والبنات، والباطن هو الزنا، وقال سعيد بن جبير: الظاهر منه لا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء وحرمت عليكم أمهاتكم الآية، والباطن الزنا، وقال قتادة: علانيته وسره.

وقال السدي: الظاهر الزواني في الحوانيت، وهن صواحب الرايات، والباطن المرأة يتخذها الرجل صديقة فيأتيها سراً، وقال ابن زيد: ظاهر الإثم التجرد من الثياب والتعري في الطواف، والباطن الزنا، وقيل هذا النهي عام في جميع المحرمات التي نهى الله عنها وهو الأولى، فإن الاعتبار بعموم اللفظ دون خصوص السبب، وبه قال ابن الإنباري، وإنما أضاف الظاهر والباطن إلى الإثم لأنه يتسبب عنهما.

(إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون) توعد الكاسبين للإثم بالجزاء بسبي افترائهم على الله سبحانه.

ص: 230

(ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) نهى الله سبحانه عن أكل ما لم يذكر اسمه الشريف عليه بعد أن أمر بالأكل مما ذكر اسم الله عليه، وفيه دليل على تحريم أكل ما لم يذكر اسم الله عليه، وقد اختلف أهل العلم في ذلك فذهب ابن عمر ونافع مولاه والشعبي وابن سيرين وهو رواية عن مالك وأحمد

ص: 230

ابن حنبل وبه قال أبو ثور وداود الظاهري أن ما لم يذكر اسم الله عليه من الذبائح حرام من غير فرق بين العامد والناسي لهذه الآية، ولقوله تعالى في آية الصيد:(فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه) ويزيد هذا الاستدلال تأكيداً قوله سبحانه في هذه الآية (وإنه لفسق).

وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة الأمر بالتسمية في الصيد وغيره، وذهب الشافعي وأصحابه وهو رواية عن مالك وعن أحمد أن التسمية مستحبة لا واجبة وهو مروي عن ابن عباس وأبي هريرة وعطاء بن أبي رياح، وحمل الشافعي الآية على من ذبح لغير الله، وهو تخصيص للآية بغير مخصص، وقد روى أبو داود في المراسيل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" ذبيحة المسلم حلال ذكر الله أو لم يذكر "(1) وليس في هذا المرسل ما يصلح لتخصيص الآية.

نعم حديث عائشة أنها قالت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن قوماً يأتوننا بلحمان لا ندري ذكر اسم الله عليه أم لا فقال: " سموا أنتم وكلوا "(2)، يفيد أن التسمية عند الأكل يجزى مع التباس وقوعها عند الذبح، وذهب مالك وأحمد في المشهور عنهما وأبو حنيفة وأصحابه وإسحق بن راهويه أن التسمية إن تركت نسياناً لم يضر، وإن تركت عمداً لم يحل أكل الذبيحة، وهو مروي عن علي وابن عباس وسعيد بن المسيب وعطاء وطاووس والحسن البصري وأبى مالك وعبد الرحمن بن أبي ليلى وجعفر بن محمد وربيعة.

واستدلوا بما أخرجه البيهقي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " المسلم إن نسي أن يسمي حين يذبح فليذكر اسم الله وليأكله "(3)، وهذا الحديث رفعه خطأ، وإنما هو من قول ابن عباس.

(1) ضعيف الجامع الصغير 3039.

(2)

ابن كثير 2/ 169.

(3)

ابن كثير 2/ 170.

ص: 231

نعم يمكن الاستدلال لهذا المذهب بمثل قوله تعالى: (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطانا) كما سبق تقريره بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ".

أما حديث أبي هريرة الذي أخرجه ابن عدي أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أرأيت الرجل هنا يذبح وينسى أن يسمي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" اسم الله على كل مسلم "(1)، فهو حديث ضعيف قد ضعفه البيهقي وغيره.

وقال ابن عباس الآية في تحريم الميتات وما في معناها من المنخنقة وغيرها، وقال عطاء إنها في تحريم الذبائح كانوا يذبحونها على اسم الأصنام.

(و) الضمير في (إنه لفسق) يرجع إلى " ما " بتقدير مضاف ويجوز أن يرجع إلى مصدر تأكلوا، وقد تقدم تحقيق الفسق، والواو للاستئناف أو للحال، وقد استدل من حمل هذه الآية على ما ذبح لغير الله بقوله:(وإنه لفسق) ووجه الاستدلال أن الترك لا يكون فسقاً بل الفسق الذبح لغير الله، ويجاب عنه بأن إطلاق اسم الفسق على تارك ما فرضه الله عليه غير ممتنع شرعاً.

(وإن الشياطين) أي إبليس وجنوده (ليوحون إلى أوليائهم) أي يوسوسون لهم بالوساوس المخالفة للحق المباينة للصواب (ليجادلوكم) أي قاصدين بذلك أن يجادلكم هؤلاء الأولياء بما يوسوسون لهم (وإن أطعتموهم) فيما يأمرونكم به وينهونكم عنه (إنكم لمشركون) مثلهم، قال الزجاج: فيه دليل على أن كل من أحل شيئاً مما حرم الله أو حرم شيئاً مما أحل الله فهو مشرك وإنما سمي مشركاً لأنه أثبت. حاكماً غير الله.

(1) ابن كثير 2/ 169.

ص: 232

أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123)

ص: 233

(أو) الهمزة للإنكار والواو للعطف (من كان ميتاً فأحييناه) المراد بالميت هنا الكافر أحياه الله بالإسلام والهدى، وقيل معناه كان ميتاً حين كان نطفة فأحياه بنفخ الروح فيه، والأول أولى لأن السياق يشعر بذلك لكونه في تنفير المسلمين عن اتباع المشركين، وكثيراً ما تستعار الحياة للهداية وللعلم، والموت للكفر والجهل.

(وجعلنا له نوراً) النور عبارة عن الهداية والإيمان، وقيل هو القرآن وقيل الحكمة، وقيل هو النور المذكور في قوله تعالى:(يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم) وقيل المراد به اليقين (يمشي) أي يستضيء (به في الناس) ويهتدي إلى قصد السبيل، والضمير في به راجع إلى النور (كمن مثله) أي صفته (في الظلمات) أي لا يستويان.

وقيل مثل زائدة، والمعنى كمن في الظلمات كما تقول أنا أكرم من مثلك أي منك، ومثله فجزاء مثل ما قتل من النعم وليس كمثله شيء وقيل المعنى كمن مثله مثل من هو في الظلمات، والمعنى كمن هو خابط في ظلمة الكفر وظلمة الجهالة وظلمة عمى البصيرة.

و (ليس بخارج منها) في محل نصب على الحال أي حال كونه ليس بخارج من تلك الظلمات بحال من الأحوال، وقيل المراد بهما حمزة وأبو جهل قاله ابن عباس، وعن زيد بن أسلم في الآية قال: نزلت في عمر بن الخطاب وأبي جهل بن هشام كانا ميتين في ضلالتهما فأحيا الله عمر بالإسلام وأعزه وأقر أبا جهل في ضلالته وموته، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دعا

ص: 233

فقال: " اللهم أعز الإسلام بأبي جهل أو بعمر "(1).

قال عكرمة والكلبي: نزلت في عمار بن ياسر وأبي جهل، وقال مقاتل: نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم وأبي جهل، والحق أن الآية عامة في حق كل مؤمن وكافر، وبه قال الحسن.

(كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون) المزين هو الله سبحانه ويدل عليه قوله: (زينا لهم أعمالهم) ولأن حصول الفعل يتوقف على حصول الدواعي وحصولها لا يكون إلا بخلق الله، فدل ذلك على أن المزين هو الله سبحانه، وقالت المعتزلة: المزين هو الشيطان ويرده ما تقدم.

(1) المستدرك كتاب معرفة الصحابة 3/ 83.

ص: 234

(وكذلك) أي مثل ذلك الجعل بمكة (جعلنا في كل قرية أكابر) الأكابر جمع أكبر قيل هم الرؤساء والعظماء وخصهم بالذكر لأنهم أقدر على الفساد والغدر وترويج الباطل بين الناس من غيرهم، وإنما حصل ذلك لأجل رياستهم، وذلك سنة الله أنه جعل في كل قرية أتباع الرسل ضعفاءها وجعل فساقها أكابر (مجرميها) قال الواحدي في الآية تقديم وتأخير أي مجرميها أكابر، وإنما جعل المجرمين أكابر لأن ما فيهم من السعة أدعى لهم إلى المكر والكفر.

(ليمكروا فيها) بالصد عن الإيمان، واللام على ظاهرها أو للعاقبة أو للعلة مجازاً، قال أبو عبيدة: المكر الخديعة والغدر والحيلة والفجور، وزاد بعضهم الغيبة والنميمة والأيمان الكاذبة وترويج الباطل، قال ابن عباس: ليقولوا فيها الكذب، عن عكرمة قال: نزلت في المستهزئين، وقيل المعنى ليتجبروا على الناس فيها ويعملوا بالمعاصي، دليله (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض).

(وما يمكرون إلا بأنفسهم) المكر الحيلة في مخالفة الاستقامة وأصله الفتل، فالماكر يفتل عن الاستقامة أي يصرف عنها أي ما يحيق هذا المكر إلا بهم لأن وبال مكرهم عائد عليهم (وما يشعرون) بذلك لفرط جهلهم.

ص: 234

وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124) فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125)

ص: 235

(وإذا جاءتهم آية) من الآيات أي حجة بينة ودلالة واضحة على صدق محمد- صلى الله عليه وسلم والمعنى إذا جاءت الأكابر آية (قالوا) هذه المقالة (لن نؤمن حتى نؤتي مثل ما أوتي رسل الله) وإنما قالوها حسداً منهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وقيل المعنى إذا جاءتهم آية من القرآن تأمرهم باتباع محمد صلى الله عليه وسلم قالوا لن نصدقك حتى يأتينا جبريل ويخبرنا بصدقك يريدون أنهم لا يؤمنون حتى يكونوا أنبياء متبوعين لا تابعين.

وهذا نوع عجيب من جهالاتهم الغريبة وعجرفتهم العجيبة ونظيره (يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفاً منشرة) قال بعضهم يسن الوقف هنا ويستجاب الدعاء بين هاتين الجلالتين (قلت) لعل هذا من التجارب دون المأثورات.

فأجاب الله عنهم بقوله: (الله أعلم حيث يجعل رسالته) أي أن الله أعلم بمن يستحق أن يجعله رسولاً ويكون موضعاً لها وأميناً عليها، وقد اختار أن يجعلها في محمد صلى الله عليه وسلم صفيه وحبيبه، فدعوا طلب ما ليس من شأنكم، عن ابن جريج قال: قالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم حين دعاهم إلى ما دعاهم إليه من الحق: لو كان هذا حقاً لكان فينا من هو أحق أن يؤتى به من محمد، [وقالوا لولا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم].

ثم توعدهم بقوله: (سيصيب الذين أجرموا صغار) أي ذل وهوان،

ص: 235

وأصله من الصغر كان الذل يصغر إلى المرء نفسه، وقيل الصغار هو الرضاء بالذل، روي ذلك عن ابن السكيت.

(عند الله) أي في الآخرة يوم القيامة وقيل في الدنيا (وعذاب شديد) في الآخرة أو في الدارين من القتل والأسر وعذاب النار (بما كانوا يمكرون) أي بسبب مكرهم وحسدهم.

ص: 236

(فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام) الشرح الشق وأصله التوسعة وشرحت الأمر بينته وأوضحته، والمعنى من يرد الله هدايته للحق يوسع صدره حتى يقبله بصدر منشرح.

أخرج ابن المبارك في الزهد وعبد الرزاق والفريابي وابن أبي شيبة وعبد ابن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي عن أبي جعفر المدايني رجل من بني هاشم، وليس هو محمد بن علي، قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية وقالوا كيف شرح صدره يا رسول الله قال: نور يقذف فيه فينشرح صدره له وينفسح له، قالوا فهل لذلك من أمارة يعرف بها قال: الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل لقاء الموت " (1)، وقد روي بطرق يقوي بعضها بعضاً والمتصل يقوي المرسل، فالمصير إلى هذا التفسير النبوي متعين.

(ومن يرد أن يضله) يصرف اختياره إليه (يجعل صدره ضيقاً) بحيث ينبو عن قبول الحق فلا يكاد يدخله الإيمان، جعل بمعنى صير أو خلق أو سمى، وهذا الثالث ذهب إليه الفارسي وغيره من معتزلة النحاة، وضيقاً بالتشديد وقرئ بالتخفيف مثل هين ولين، وهما لغتان.

(حرجاً) بالفتح جمع حرجة وهي شدة الضيق والحرجة الفيضة والجمع حريج وحرجات، ومنه فلان يتحرج أي يضيق على نفسه، وبالكسر معناه الضيق، كرر المعنى تأكيداً وحسن ذلك اختلاف اللفظ، وقال الجوهري: مكان

(1) ابن كثير 2/ 174.

ص: 236

حرج أي ضيق كثير الشجر لا تصل إليه الراعية، والحرج الإثم وقال الزجاج: الحرج أضيق الضيق فالمعنى يجعل صدره ضيقاً حتى لا يدخله الإيمان.

وقال الكلبي: ليس للخير فيه منفذ، وقال ابن عباس: إذا سمع ذكر الله اشمأز قلبه، وإذا سمع ذكر الأصنام ارتاح إلى ذلك، وفي الآية دليل على أن جميع الأشياء بمشيئة الله وإرادته حتى إيمان المؤمن وكفر الكافر.

(كأنما يصعد في السماء) قرئ بالتخفيف من الصعود شبه الكافر في ثقل الإيمان عليه بمن يتكلف ما لا يطيقه كصعود السماء، وقرئ يصاعد، وأصله يتصاعد وقرئ يصعد بالتشديد وأصله يتصعد ومعناه يتكلف ما لا يطيق مرة بعد مرة كما يتكلف من يريد الصعود إلى السماء المظلة أو إلى مكان مرتفع وعر كالعقبة، وقيل المعنى على جميع القراآت كاد قلبه يصعد إلى السماء نبواً عن الإسلام وتكبراً، وقيل ضاق عليه المذهب فلم يجد إلا أن يصعد إلى السماء، وليس يقدر على ذلك.

وقيل هو المشقة وصعوبة الأمر، وقال ابن عباس: كما لا يستطيع ابن آدم أن يبلغ السماء كذلك لا يقدر على أن يدخل الإيمان والتوحيد قلبه حتى يدخله الله في قلبه، ومن أراد أن يضله يضيق عليه حتى يجعل الإسلام عنه ضيقاً والإسلام واسع، وذلك حيث يقول:(ما جعل عليكم في الدين من حرج) يقول ما جعل عليكم في الإسلام من ضيق.

(كذلك) أي مثل ذلك الجعل الذي هو جعل الصدر ضيقاً حرجاً (يجعل الله الرجس) هو في اللغة النتن وقيل هو العذاب، وقيل هو الشيطان يسلطه الله (على الذين لا يؤمنون) قاله ابن عباس: وقيل هو ما لا خير فيه، قاله مجاهد، والمعنى الأول هو المشهور في لغة العرب وهو مستعار لما يحل بهم من العقوبة، ويصدق على جميع المعاني المذكورة، وقال الزجاج: الرجس في الدنيا اللعنة وفي الآخرة العذاب.

ص: 237

وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)

ص: 238

(وهذا) أي ما أنت عليه يا محمد ومن معك من المؤمنين (صراط ربك) أي دينه (مستقيماً) لا اعوجاج فيه، وقال ابن مسعود: يعني القرآن لأنه يؤدي من تبعه وعمل به إلى طريق الاستقامة والسداد، وقيل الإشارة إلى ما تقدم مما يدل على التوفيق والخذلان، أي هذا هو عادة الله في عباده يهدي من يشاء ويضل من يشاء.

(قد فصلنا الآيات) أي بيناها وأوضحناها (لقوم يذكرون) أي لمن يذكر ما فيها ويتفهم معانيها وهم أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن تبعهم بإحسان.

ص: 238

(لهم دار السلام) أي لهؤلاء المتذكرين الجنة لأنها دار السلام من كل مكروه، وبه قال جمهور المفسرين، أو دار الرب السلام مدخرة لهم (عند ربهم) يوصلهم إليها، قال قتادة: دار السلام الجنة، وقال جابر بن زيد: السلام هو الله وقال السدي والحسن: الله هو السلام وداره الجنة، وقيل المراد بالسلام التحية أي دارها وهي الجنة والمعنى متقارب.

(وهو وليهم) أي ناصرهم ومتولي إيصال الخير إليهم (بما كانوا يعملون) أي بسبب أعمالهم الصالحة التي كانوا يتقربون بها إليه في الدنيا.

ص: 238

(و) اذكر (يوم نحشرهم) أي الخلق (جميعاً) في القيامة أو المعنى يوم الحشر نقول: (يا معشر الجن) المراد بهم الشياطين والمعشر الجماعة والجمع معاشر (قد استكثرتم من الإنس) أي من الاستمتاع بهم كقوله (ربنا استمتع

ص: 238

بعضنا ببعض) وقيل استكثرتم من إغوائهم وإضلالهم حتى صاروا في حكم الأتباع لكم فحشرناهم معكم، ومثله قولهم استكثر الأمير من الجنود، والمراد التوبيخ والتقريع، وعلى الأول فالمراد بالاستمتاع التلذذ من الجن بطاعة الإنس لهم ودخولهم فيما يريدون منهم.

(وقال أولياؤهم من الإنس) لعل الاقتصار على حكاية كلام الضالين وهم الإنس دون المضلين وهم الجن للإيذان بأن المضلين قد أفحموا بالمرة فلم يقدروا على التكلم أصلاً.

(ربنا استمتع بعضنا ببعض) أما استمتاع الجن بالإنس فهو ما تقدم من تلذذهم باتباعهم لهم، وأما استمتاع الإنس بالجن فحيث قبلوا منهم تحسين المعاصي فوقعوا فيها وتلذذوا بها، فذلك هو استلذاذهم بالجن.

وقيل استمتاع الإنس بالجن أنه كان إذا مر الرجل بواد في سفره وخاف على نفسه قال: أعوذ برب هذا الوادي من جميع ما أحذر، يعني ربه من الجن، ومنه قوله تعالى:(وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً) وقيل استمتاع الجن بالإنس أنهم كانوا يصدقونهم فيما يقولون من الأخبار الغيبية الباطلة، واستمتاع الإنس بالجن أنهم كانوا يتلذذون بما يلقونه إليهم من الأكاذيب والأراجيف والسحر وينالون بذلك شيئاً من حظوظ الدنيا كالكهان.

(وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا) أي يوم القيامة اعترافاً منهم بالوصول إلى ما وعدهم الله به مما كانوا يكذبون به، قال الحسن والسدي: الأجل الموت، وقيل هو وقت البعث والحساب يوم القيامة، وهذا تحسر منهم على حالهم أي أن ذلك الاستمتاع كان إلى أجل معين محدود، ثم ذهب وبقيت الحسرة والندامة.

ولما قالوا هذه المقالة أجاب الله عليهم و (قال النار مثواكم) أي موضع مقركم ومقامكم، والمثوى المقام، والجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر (خالدين فيها) أي مقيمين في نار جهنم أبداً (إلا ما شاء الله) المعنى الذي تقتضيه لغة

ص: 239

العرب في التركيب أنهم يخلدون في النار في كل الأوقات إلا في الوقت الذي يشاء الله عدم بقائهم فيها، وعليه جرى السيوطي تبعاً لشيخه المحلي في سورة الصافات، وهو مخالف في ذلك لقوله تعالى:(يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها).

والعجب منه أنه اختار هذا التفسير مع أنه في كتابه الدر المنثور قال: إن السلف على أن الكفار لا يخرجون من النار أصلاً، قاله القاري، وقال الزجاج: إن الاستثناء يرجع إلى يوم القيامة أي خالدين في النار إلا ما شاء الله من مقدار حشرهم من قبورهم ومقدار مدتهم في الحساب إلى حين دخولهم إلى النار، وهو تعسف لأن الاستثناء هو من الخلود الدائم ولا يصدق على من لم يدخل النار. وقيل الاستثناء راجع إلى النار أي إلا ما شاء الله من تعذيبهم بغيرها في بعض الأوقات كالزمهرير، وبه فسر النسفي والشهاب وزاده الآية.

وقيل الاستثناء لأهل الإيمان و (ما) بمعنى من أي إلا من شاء الله إيمانه فإنه لا يدخل النار، وبه قال ابن عباس كما حكاه الجمهور، وبه قال الكرخي، وقيل المعنى إلا ما شاء الله من كونهم في الدنيا بغير عذاب.

وكل هذه التأويلات متكلفة والذي ألجأ إليها ما ورد في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية من خلود الكفار في النار أبداً، ولكن لا تعارض بين عام وخاص لا سيما بعد وروده في القرآن مكرراً كما سيأتي في سورة هود (خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد) ولعله يأتي هنالك إن شاء الله تعالى زيادة تحقيق.

قال ابن عباس: في هذه الآية إنه لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه أن لا ينزل لهم جنة ولا ناراً، وقد أوضح المقام الحافظ ابن القيم رحمه الله في كتابه حادي الأرواح فليرجع إليه.

(إن ربك حكيم) أي في تدبير خلقه وتصريفه إياهم في مشيئته من حال إلى حال وغير ذلك من أفعاله (عليم) بعواقب أمور خلقه وما هم إليه صائرون.

ص: 240

وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130) ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131)

ص: 241

(وكذلك) أي مثل ما جعلنا ما بين الجن والإنس ما سلف (نولي بعض الظالمين بعضاً) أي نجعل بعضهم يتولى البعض فيكونون بعضهم أولياء بعض ثم يتبرأ بعضهم من البعض، فمعنى نولي على هذا نجعله ولياً له، وقال عبد الرحمن ابن زيد: معناه نسلط ظلمة الجن على ظلمة الإنس، وروي عنه أنه فسر هذه الآية بأن المعنى نسلط بعض الظلمة على بعض فنهلكه ونذله فيكون في الآية على هذا تهديد للظلمة بأن من لم يمتنع من ظلمه منهم سلط الله عليه ظالماً آخر.

وقال فضيل بن عياض: إذا رأيت ظالماً ينتقم من ظالم فقف وانظر متعجباً وقيل معنى نولي نكل بعضهم إلى بعض فيما يختارونه من الكفر، وقال قتادة: المعنى المؤمن ولي المؤمن حيث كان وأين كان، والكافر ولي الكافر حيث كان وأين كان، وقال ابن عباس في الآية: أن الله إذا أراد بقوم خيراً ولي عليهم خيارهم وإذا أراد بقوم شراً ولى عليهم شرارهم.

(بما كانوا يكسبون) الباء للسببية أي بسبب كسبهم الذنوب ولينا بعضهم بعضاً قال قتادة: يولي الله بعض الظالمين بعضاً في الدنيا، ويتبع بعضهم بعضاً في النار من الموالاة، وقال الأعمش سمعتهم يقولون إذا فسد الزمان أمر عليهم شرارهم.

ص: 241

(يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم) أي يوم نحشرهم لنقول لهم ألم يأتكم، وهو شروع في حكاية ما سيكون في الحشر من توبيخ المعشرين بما يتعلق بخاصة أنفسهم إثر حكاية توبيخ الجن بإغواء الإنس وإضلالهم إياهم.

ص: 241

وظاهره أن الله يبعث في الدنيا إلى الجن رسلاً منهم كما يبعث إلى الإنس رسلاً منهم، وبه قال الضحاك، وقيل معنى منكم أي ممن هو مجانس لكم في الخلق والتكليف والقصد بالمخاطبة فإن الجن والإنس متحدون في ذلك وإن كان الرسل من الإنس خاصة فهم من جنس الجن من تلك الحيثية، وبه قال أكثر أهل العلم وابن عباس.

وقيل: إنه من باب تغليب الإنس على الجن كما يغلب الذكر على الأنثى، وبه قال الفراء والزجاج، وقيل المراد بالرسل إلى الجن ههنا النذر منهم كما في قوله (ولوا إلى قومهم منذرين) عن مجاهد قال: ليس في الجن رسل إنما الرسالة في الإنس، والنذارة في الجن، ونحو ذلك قال ابن جريج وأبو عبيدة، وقيل التقدير رسل من أحدكم يعني من جنس الإنس.

والحاصل أن الخطاب للإنس وإن تناولهما اللفظ فالمراد أحدهما كقوله تعالى: (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) وإنما يخرج من الملح دون العذب، وقال تعالى:(وجعل القمر فيهن نوراً) وإنما هو في سماء واحدة.

(يقصون عليكم آياتي) أي يقرأون كتبي الدالة على توحيدي وتصديق رسلي ويتلونها مع التوضيح والتبيين، والقاص من يأتي بالقصة، وقد تقدم بيان معنى القص (وينذرونكم لقاء يومكم هذا) وهو يوم القيامة، يقول الله ذلك لهم تقريعاً وتوبيخاً.

(قالوا) أي كفار الإنس والجن (شهدنا على أنفسنا) هذا إقرار منهم بأن حجة الله لازمة لهم بإرسال رسله إليهم، والجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر (وغرتهم الحياة الدنيا) جملة معترضة أي لذاتها ومالوا إليها فكانت عاقبة أمرهم أن اضطروا إلى الشهادة عليهم بالكفر.

ص: 242

(وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين) هذه شهادة أخرى منهم على أنفسهم بالكفر في الدنيا بالرسل المرسلين إليهم والآيات التي جاؤوا بها، وقد تقدم ما يفيد أن مثل هذه الآية المصرحة بإقرارهم بالكفر على أنفسهم ومثل قولهم:(والله ربنا ما كنا مشركين) محمول على أنهم يقرون في بعض مواطن يوم القيامة، وينكرون في بعض آخر، لطول ذلك اليوم واضطراب القلوب فيه، وطيشان العقول وانغلاق الأفهام وتبلد الأذهان.

ص: 243

(ذلك) إشارة إلى شهادتهم على أنفسهم أو إلى إرسال الرسل إليهم (أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون) المعنى أن الله أرسل الرسل إلى عباده، لأنه لم يهلك من عصاه بالكفر من القرى والحال أنهم غافلون عن الأعذار والإنذار بإرسال الرسل وإنزال الكتب، بل إنما يهلكهم بعد إرسال الرسل إليهم وارتفاع الغفلة عنهم بإنذار الأنبياء لهم كقوله:(وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً).

وقيل المعنى ما كان الله مهلك أهل القرى بظلم منه فهو سبحانه يتعالى عن الظلم، بل إنما يهلكهم بعد أن يستحقوا ذلك وترتفع الغفلة عنهم بإرسال الأنبياء وقيل المعنى أن الله لا يهلك أهل القرى بسبب ظلم من يظلم منهم مع كون الآخرين غافلين عن ذلك فهو مثل قوله تعالى:(ولا تزر وازرة وزر أخرى).

ص: 243

وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134)

ص: 244

(ولكل) من الجن والإنس، وقيل من المؤمنين خاصة، وقيل من الكفار خاصة لأنها جاءت عقيب خطاب الكفار إلا أنه يبعده قوله:(درجات) أي متفاوتة، وقد يقال أن المراد بها هنا المراتب وإن غلب استعمالها في الخير (مما عملوا) فيجازيهم بأعمالهم كما قال في آية أخرى (ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون).

وفيه دليل على أن المطيع من الجن في الجنة والعاصي في النار، قال الضحاك: الجن يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون، وعن ليث ابن أبي سليم قال: مسلمو الجن لا يدخلون الجنة ولا النار، وذلك أن الله أخرج أباهم من الجنة فلا يعيده ولا يعيد ولده.

وعن ابن عباس قال: الخلق أربعة فخلق في الجنة كلهم وخلق في النار كلهم وخلقان في الجنة والنار، فأما الذين في الجنة كلهم فالملائكة، وأما الذين في النار كلهم فالشياطين، وأما الذين في الجنة والنار فالإنس والجن لهم الثواب وعليهم العقاب (وما ربك بغافل عما يعملون) من أعمال الخير والشر والغفلة ذهاب الشيء عنك لاشتغالك بغيره، قيل هذا مختص بأهل الكفر والمعاصي، ففيه وعيد وتهديد لهم، والأولى شموله لكل المعلومات على التفصيل التام.

ص: 244

(وربك الغني) عن خلقه لا يحتاج إليهم ولا إلى عبادتهم لا ينفعه إيمانهم ولا يضره كفرهم ومع كونه غنياً عنهم فهو (ذو الرحمة) لا يكون غناؤه

ص: 244

عنهم مانعاً من رحمته لهم، وما أحسن هذا الكلام الرباني وأبلغه وما أقوى الاقتران بين الغنى والرحمة في هذا المقام، فإن الرحمة لهم مع الغنى عنهم هي غاية التفضل والتطول، ومن جملة رحمته إرسال الرسل للخلق وإبقاؤهم بلا استئصال بالهلاك فهذا الوصف يناسب سابق الكلام ولا حقه.

(إن يشا يذهبكم) أيها العباد العصاة فيستأصلكم بالعذاب المفضي إلى الهلاك، وقيل الخطاب لأهل مكة ففيه وعيد وتهديد لهم، والعموم أولى ويدخل فيه أهل مكة دخولاً أولياً (ويستخلف) أي ينشئ ويوجد (من بعدكم) أي بعد إهلاككم (ما يشاء) من خلقه ممن هم أطوع له وأسرع إلى امتثال أحكامه منكم (كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين) أي من نسل قوم لم يكونوا على مثل صفتكم بل كانوا طائعين، قيل هم أهل سفينة نوح وذريتهم من بعدهم من القرون إلى زمنكم.

قال الواحدي والزمخشري: ولكنه سبحانه لم يشأ ذلك فلم يهلكهم ولا استخلف غيرهم رحمة لهم ولطفاً بهم، وقال الرازي: المراد منه خلق ثالث أو رابع، واختلفوا فيه فقيل خلقاً آخر من أمثال الجن والإنس.

قال القاضي: وهو الوجه الأقرب فكأنه نبه أن قدرته ليست مقصورة على جنس دون جنس، وقال الطبري: المعنى كما أحدثكم وابتدعكم من بعد خلق آخرين كانوا قبلكم، (والذرية الأصل) والنسل قاله أبان ابن عثمان.

ص: 245

(إنما توعدون) من مجيء الساعة والبعث والحساب والمجازاة (لآت) لا محالة عن قريب فإن الله لا يخلف الميعاد (وما أنتم بمعجزين) أي بفائتين عما هو نازل بكم وواقع عليكم، يقال أعجزني فلان أي فاتني وغلبني، وقال ابن عباس: أي سابقين، وقيل هاربين منه وهو مدرككم لا محالة.

والمراد بيان دوام انتفاء الإعجاز لا بيان انتفاء دوامه فإن الجملة الاسمية كما تدل على دوام الثبوت كذلك تدل بمعونة المقام إذا دخل عليها حرف النفي على دوام الانتفاء لا على انتفاء الدوام كما حقق في موضعه قاله الكرخي.

ص: 245