المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا - فتح البيان في مقاصد القرآن - جـ ٤

[صديق حسن خان]

الفصل: فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا

فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‌

(131)

ثم بين أنهم عند نزول العذاب وتلك المحن عليهم والشدة لم يزدادوا إلا تمرداً وكفراً كلما قال تعالى (فإذا جاءتهم الحسنة) أي الخصلة الحسنة من الخصب بكثرة المطر وصلاح الثمار ورخاء الأسعار والسعة والعافية والسلامة من الآفات (قالوا لنا هذه) أي أعطيناها باستحقاق وهي مختصة بنا ونحن أهلها على العادة التي جرت لنا في سعة الأرزاق وصحة الأبدان، ولم يروا ذلك من فضل الله فيشكروه على إنعامه.

(وإن تصبهم) خصلة (سيئة) من الجدب والقحط، وكثرة الأمراض ونحوها من البلاء قيل ووجه تعريف الحسنة أنها كثيرة الوقوع وتعلق الإرادة بإحداثها، ووجه تنكير السيئة ندرة وقوعها وعدم القصد لها إلا بالتبع.

هذا من محاسن علم المعاني، قال مجاهد: الحسنة العافية والرخاء والسيئة بلاء وعقوبة (يطيروا) يتشاءموا (بموسى ومن معه) من المؤمنين به، وقد كانت العرب تتطير بأشياء من الطيور والحيوانات، ثم استعمل بعد ذلك في كل من تشاءم بشيء في قول جميع المفسرين، ومثل هذا قوله تعالى (وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك).

(ألا) التصدير بكلمة التنبيه لإبراز كمال العناية بمضمونه و (إنما) أداة حصر (طائرهم) أي سبب خيرهم وشرهم بجميع ما ينالهم من خصب وقحط (عند الله) يأتيهم به ليس بسبب موسى ومن معه، وكان هذا الجواب على نمط ما يعتقدونه وبما يفهمونه ولهذا عبر بالطائر عن الخير والشر الذي يجري بقدر الله وحكمته ومشيئته (ولكن أكثرهم لا يعلمون) بهذا بل ينسبون الخير والشر إلى غير الله جهلاً منهم والحق أن الكل من الله.

ص: 438

وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133)

ص: 439

(وقالوا) بعد ما رأوا من شأن العصا والسنين ونقص الثمار (مهما) اسم شرط (تأتنا به) من عند ربك (من آية) بيان لمهما، وسموها آية استهزاء بموسى كما يفيده ما بعده وهو (لتسحرنا بها) أي لتصرفنا عما نحن عليه كما يفعل السحرة بسحرهم، وضمير به عائد إلى مهما وضمير بها عائد إلى آية وقيل: إنهما عائدان إلى مهما وتذكير الأول باعتبار اللفظ وتأنيث الثاني باعتبار المعنى.

(فما نحن لك بمؤمنين) أخبروا عن أنفسهم أنهم لا يؤمنون بشيء مما يجيء به من الآيات التي هي في زعمهم من السحر.

فعند ذلك نزلت بهم العقوبة من الله عز وجل المبينة بقوله

ص: 439

(فأرسلنا عليهم الطوفان) وهو المطر الشديد قال الأخفش: واحده طوفانة وقيل هو مصدر كالرجحان والنقصان فلا واحد له، وقيل الطوفان الموت. روته عائشة عنه صلى الله عليه وآله وسلم أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهما قال ابن كثير وهو حديث غريب وبه قال مجاهد وعطاء.

وقال النحاس: الطوفان في اللغة ما كان مهلكاً من موت أو سيل أي ما يطيف بهم فهلكهم، أو قال ابن عباس: الطوفان أمر ربك، ثم قرأ (فطاف عليها طائف من ربك) وقال مجاهد: هو الماء والطاعون وقال وهب: هو الطاعون بلغة أهل اليمن.

وقال أبو قلابة: الطوفان هو الجدري، وهم أول من عذبوا به ثم

ص: 439

بقي في الأرض، وقال مقاتل: الماء طفا فوق حروثهم وذلك أنهم مطروا ثمانية أيام من السبت إلى السبت في ظلمة شديدة لا يرون شمساً ولا قمراً ولا يقدر أحد أن يخرج من داره، وقيل دخل الماء في بيوت القبط حتى قاموا في الماء إلى تراقيهم فمن جلس غرق ولم تدخل بيوت بني إسرائيل قطرة، قال ابن عباس: مطروا دائماً بالليل والنهار ثمانية أيام.

(والجراد) جمع جرادة الذكر والأنثى فيه سواء قال أهل اللغة: هو مشتق من الجرد قالوا والاشتقاق في أسماء الأجناس قليل جداً يقال أرض جرداء أي ملساء وثوب أجرد إذا ذهب وبره، والمراد به هنا هو الحيوان المعروف أرسله الله لأكل زروعهم فأكلها وأكل ثمارهم وسقوف بيوتهم وثيابهم وأمتعتهم، وابتلى الجراد بالجوع فكان لا يشبع وامتلأت دور القبط منه ولم يصب بني إسرائيل من ذلك شيء.

(والقمل) بضم القاف وفتح الميم المشددة، وقرأ الحسن القمل بفتح القاف وسكون الميم قيل هي الدباء قاله مجاهد وقتادة والسدي والكلبي، والدباء الجراد قبل أن تطير، وقال عطاء: إنه القمل المعروف فأكل ما أبقاه الجراد ولحس الأرض وقيل هي السوس الذي يخرج من الحنطة قاله ابن عباس، وقيل البراغيث وقيل دواب سود صغار، وقيل ضرب من القردان وقيل الجعلان.

قال النحاس: يجوز أن تكون هذه الأشياء كلها أرسلت عليهم، وقد فسر عطاء الخراساني القمل بالقمل، قال ابن عباس: القمل الجراد الذي له أجنحة، وقال أبو عبيدة هو الحمنان، وهو ضرب من القراد وأقام عليهم من السبت إلى السبت.

(والضفادع) جمع ضفدع وهو الحيوان المعروف الذي يكون في الماء وكانت

ص: 440

تقع في طعامهم وشرابهم حتى إذا تكلم الرجل تقع في فيه وأقامت عليهم ثمانية أيام قال ابن عباس: كانت الضفادع برية فلما أرسلها على آل فرعون سمعت وأطاعت فجعلت تقذف نفسها في القدر وهي تغلي وفي التنانير وهي تفور، ومكث موسى في آل فرعون بعد ما غلب السحرة أربعين سنة يريهم الآيات والجراد والقمل والضفادع.

(والدم) روى أنه سأل عليهم النيل دماً قاله مجاهد، وقيل هو الرعاف قاله زيد بن أسلم وقيل مياههم انقلبت دماً فما يستقون من بئر ولا نهر إلا وجدوه دماً عبيطاً أحمر، قال ابن عباس: يمكث فيهم سبتاً إلى سبت ثم يرفع عنهم شهراً.

(آيات) حال من الخمسة المذكورة (مفصلات) أي مبينات يتبع بعضها بعضاً لتكون لله الحجة عليهم، والمعنى أرسلنا عليهم هذه الأشياء حال كونها آيات ظاهرات لا يشكل على عاقل أنها من آيات الله أو مفرقات بين كل آيتين شهر، وكان امتداد كل واحدة أسبوعاً يمتحن فيه أحوالهم، وينظر أيقبلون الحجة والدليل أو يستمرون على الخلاف والتقليد.

(فاستكبروا) أي ترفعوا عن الإيمان بالله (وكانوا قوماً مجرمين) لا يهتدون إلى حق ولا ينزعون عن باطل (1).

(1) قال ابن عباس: جاءهم الطوفان، فكان الرجل لا يقدر أن يخرج إلى ضيعته، حتى خافوا الغرق، فقالوا: يا موسى ادع لنا ربك يكشفه عنا، ونؤمن بك، ونرسل معك بني إسرائيل؛ فدعا لهم، فكشفه الله عنهم، وأنبت لهم شيئاً لم ينبته قبل ذلك، فقالوا: هذا ما كنا نتمنى، فأرسل الله عليهم الجراد فأكل ما أنبتت الأرض، فقالوا: ادع لنا ربك، فدعا، فكشف الله عنهم، فأحرزوا زروعهم في البيوت، فأرسل الله عليهم القُمل، فكان الرجل يخرج بطحين عشرة أجربة إلى الرحى، فلا يرى منها ثلاثة أقفزة، فسألوه، فدعا لهم، فكُشف عنهم، فلم يؤمنوا، فأرسل الله عليهم الضفادع، ولم يكن شيء أشد منها، كانت تجيء إلى القدور وهي تغلي وتفور، فتلقي أنفسها فيها، فتفسد طعامهم

⦗ص: 442⦘

وتطفئ نيرانهم، وكانت الضفادع برية، فأورثها الله تعالى برد الماء والثرى إلى يوم القيامة، فسألوه، فدعا لهم، فلم يؤمنوا، فأرسل الله عليهم الدم، فجرت أنهارهم وقُلبُهم دماً، فلم يقدروا على الماء العذب، وبنو إسرائيل في الماء العذب، فإذا دخل الرجل منهم يستقي من أنهار بني إسرائيل صار ما دخل فيه دماً، والماء من بين يديه ومن خلفه صافٍ عذب لا يقدر عليه، فقال فرعون: أقسم بإلهي يا موسى لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك، ولنرسلن معك بني إسرائيل، فدعا موسى، فذهب الدم وعذب ماؤهم، فقالوا: والله لا نؤمن ولا نرسل معك بني إسرائيل.

ص: 441