المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ - فتح البيان في مقاصد القرآن - جـ ٤

[صديق حسن خان]

الفصل: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ

أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ‌

(96)

(أحل لكم) الخطاب لكل مسلم أو للمحرمين خاصة (صيد البحر) هو ما يصاد فيه، والمراد بالبحر هنا كل ما يوجد فيه صيد بحري وإن كان نهراً أو غديراً فالمراد بالبحر جميع المياه العذبة والمالحة (وطعامه) هو اسم لكل ما يطعم وقد تقدم.

وقد اختلف في المراد منه هنا فقيل هو ما قذف به البحر إلى الساحل ميتاً وطفا عليه، وبه قال كثير من الصحابة والتابعين منهم أبو بكر وعمر وابن عمر وأبو أيوب وقتادة، وقيل طعامه ما ملح منه وبقي وبه قال جماعة، وروي هذا عن ابن عباس وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب والسدي، وقيل طعامه ملحه الذي ينعقد من مائه وسائر ما فيه من نبات وغيره وبه قال قوم، وقيل المراد به ما يطعم من الصيد أي ما يحل أكله وهو السمك فقط وبه قالت الحنفية.

والمعنى أحل لكم الانتفاع بجميع ما يصاد في البحر وأحل لكم المأكول منه وهو السمك فيكون كالتخصيص بعد التعميم وهو تكلف ولا وجه له.

وجملة حيوان الماء على نوعين سمك وغير سمك، فالسمك جميعه حلال على اختلاف أجناسه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في البحر:" هو الطهور ماؤه والحل ميتته "(1) أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي، لا فرق بين أن يموت بسبب أو غير سبب فيحل أكله، وبه قال الشافعي وأهل الحديث.

وما عدا السمك قسمان قسم يعيش في البر والبحر كالضفدع والسرطان فلا يحل أكلهما، وقال سفيان أرجو أن لا يكون بالسرطان بأس واختلفوا في

(1) أبو داود الباب 41 من كتاب الطهارة - الترمذي الباب 52 من كتاب الطهارة.

ص: 55

الجراد فقيل هو من صيد البحر فيحل أكله للمحرم، وقال الجمهور إنه من صيد البر، ولا يحل أكله، وطير الماء من صيد البر أيضاً.

قال أحمد يؤكل كل ما في البحر إلا الضفدع والتمساح، وقال ابن أبي ليلى ومالك يباح كل ما في البحر، وأخرج ابن جرير عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " طعامه ما لفظه ميتاً فهو طعامه "، وعن أبي بكر الصديق قال: صيد البحر ما تصطاده أيدينا وطعامه ما لاثه البحر، وفي لفظ طعامه كل ما فيه، وفي لفظ طعامه ميتته.

ويؤيد هذا ما في الصحيحين من حديث العنبرة التي ألقاها البحر فأكل الصحابة منها وأقرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، وحديث هو الطهور ماؤه والحل ميتته، وحديث أحل لكم ميتتان ودمان.

(متاعاً لكم) أي متعتم به متاعاً، وقيل مختص بالطعام أي أحل لكم طعام البحر متاعاً وهو تكلف جاء به من قال بالقول الأخير، بل إذا كان مفعولاً له كان من الجميع أي لمن كان مقيماً منكم يأكله طرياً (وللسيارة) أي المسافرين منكم يتزودونه ويجعلونه قديداً، وقيل السيارة هم الذين يركبونه خاصة.

(وحرم عليكم صيد البر) أي ما يصاد فيه وهو ما لا يعيش إلا فيه من الوحش المأكول أن تصيدوه (ما دمتم حرماً) أي محرمين، وظاهره تحريم صيده على المحرم ولو كان الصائد حلالاً، وإليه ذهب الجمهور إن كان الحلال صاده للمحرم لا إذا لم يصده لأجله، وهو القول الراجح وبه يجمع بين الأحاديث.

وقيل إنه يحل له مطلقاً، وذهب إليه جماعة، وقيل يحرم عليه مطلقاً، وإليه ذهب آخرون، وقد بسط الشوكاني هذا في شرحه نيل الأوطار.

وقد ذكر الله تحريم الصيد على المحرم في ثلاثة مواضع من هذه السورة (أحدها) في أولها وهو قوله: (غير محلى الصيد وأنتم حرم) الثاني قوله: (لا

ص: 56

جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98)

تقتلوا الصيد وأنتم حرم) الثالث هذه الآية، وكل ذلك لتأكيد تحريم الصيد على المحرم.

(واتقوا الله) فيما نهاكم عنه فلا تستحلوا الصيد في حال الإحرام ولا في الحرم أو في جميع الجائزات والمحرمات، ثم حذرهم بقوله:(الذي إليه) لا إلى غيره (تحشرون) وفيه تشديد ومبالغة في التحذير.

ص: 57

(جعل الله الكعبة) جعل هنا بمعنى خلق، وقيل بمعنى صير وقيل بمعنى بين وحكم، وهذا ينبغي أن يحمل على تفسير المعنى لا تفسير اللغة إذ لم ينقل أهل العربية أنها تكون بمعنى بين ولا حكم، ولكن يلزم من الجعل البيان، والأول أولى، وسميت الكعبة كعبة لأنها مربعة والتكعيب التربيع، وأكثر بيوت العرب مدورة لا مربعة وقيل سميت كعبة لنتوئها وبروزها، وكل بارز كعب مستديراً كان أو غير مستدير ومنه كعب القدم وكعوب القنا وكعب ثدي المرأة.

(البيت الحرام) عطف بيان على جهة المدح لا على جهة التوضيح، قاله الزمخشري وقيل مفعول ثان لجعل، ولا وجه له، وقيل بدل وسمي بيتاً لأن له سقوفاً وجدراً، وهي حقيقة البيت وإن لم يكن به ساكن، وسمي حراماً لتحريم الله سبحانه إياه.

ومعنى كونه (قياماً للناس) أنه مدار لمعاشهم ودينهم أي يقومون فيه بما يصلح دينهم ودنياهم يأمن فيه خائفهم وينصر فيه ضعيفهم، وتربح فيه تجارتهم ويتعبد فيه متعبدهم، وقال ابن عباس: قياماً لدينهم ومعالم لحجهم،

ص: 57

وعنه قال: قياماً أن يأمن من توجه إليها، وعن ابن شهاب قال: يأمنون به من الجاهلية الأولى لا يخاف بعضهم من بعض حين يلقونهم عند البيت أو في الحرم أو في الشهر الحرام.

(والشهر الحرام) عطف على الكعبة، وهو ذو الحجة وخصه من بين الأشهر الحرم لكونه زمان تأدية الحج، وقيل هو اسم جنس المراد به الأشهر الحرم ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، فإنهم كانوا لا يطلبون فيها دماً ولا يقاتلون بها عدواً، ولا يهتكون فيها حرمة، فكانت من هذه الحيثية قياماً للناس (و) جعل الله (الهدي والقلائد) قياماً لمصالحهم، والمراد بالقلائد ذوات القلائد من الهدي وهي البدن، خصت بالذكر لأن الثواب فيها أكثر، وبهاء الحج بها أظهر، فهو من عطف الخاص على العام، قاله أبو السعود، ولا مانع من أن تراد القلائد أنفسها أي التي كانوا يقلدون بها أنفسهم يأخذونها من لحاء شجر الحرم إذا رجعوا من مكة ليأمنوا على أنفسهم من العدو.

(ذلك) الجعل المذكور، وقيل شرع الله ذلك وهو أقوى الوجوه (لتعلموا أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض) أي تفاصيل أمرهما ويعلم مصالحكم الدينية والدنيوية فإنها من جملة ما فيهما، فكل ما شرعه لكم فهو جلب لمصالحكم ودفع لما يضركم (وأن الله بكل شيء عليم) هذا تعميم بعد التخصيص والمعنى لا تخفى عليه خافية.

ص: 58

(اعلموا أن الله) لمن انتهك محارمه ولم يتب عن ذلك (شديد العقاب) لأن الإيمان لا يتم إلا بحصول الرجاء والخوف (وأن الله) لمن تاب وأناب (غفور رحيم).

ص: 58

مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99) قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)

ثم أخبرهم أن

ص: 59

(ما على الرسول إلا البلاغ) لهم فإن لم يمتثلوا ولم يطيعوا فما ضروا إلا أنفسهم، وما جنوا إلا عليها، ولا عذر لهم في التفريط، وأما الرسول عليه الصلاة والسلام فقد فعل ما يجب عليه وقام بما أمره الله به، والبلاغ هو الإبلاغ، قاله السيوطي، وعبر القاضي كالكشاف بقوله: أتى بما أمر به من التبليغ، وذلك لقصد المبالغة والتكثير في زيادة الفعل والاستثناء مفرغ (والله يعلم ما تبدون وما تكتمون) لا يخفى عليه شيء من أحوالكم أي نفاقكم ووفاقكم ظاهراً وباطناً فيجازيكم به.

ص: 59

(قل لا يستوي) في الدرجة والرتبة ولا يعتدل (الخبيث والطيب) قيل المراد بهما الحرام والحلال، وقيل المؤمن والكافر، وقيل العاصي والمطيع وقيل الرديء والجيد، والأولى أن الاعتبار بعموم اللفظ فيشمل هذه المذكورات وغيرها مما يتصف بوصف الخبث والطيب من الأشخاص والأعمال والأقوال، فالخبيث لا يساوي الطيب بحال من الأحوال.

(ولو أعجبك كثرة الخبيث) الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وقيل لكل مخاطب يصلح لخطابه بهذا أو المراد نفي الاستواء في كل حال ولو في حال كون الخبيث معجباً للرائي للكثرة التي فيه، فإن هذه الكثرة مع الخبث في حكم العدم، لأن خبث الشيء يبطل فائدته ويمحق بركته، ويذهب بمنفعته.

والواو إما للحال أو للعطف على مقدر أي لا يستوي الخبيث والطيب لو لم يعجبك كثرة الخبيث ولو أعجبك كقولك أحسن إلى فلان وإن أساء إليك

ص: 59

أي أحسن إليه إن لم يسئ إليك وإن أساء إليك والحاصل أن أهل الدنيا يعجبهم كثرة المال وزينة الدنيا وما عند الله خير وأبقى، وفيه إشارة إلى قلة الخير وكثرة الشر.

(فاتقوا الله) فيما أمركم به ونهاكم عنه وآثروا الطيب وإن قل على الخبيث وإن كثر (يا أولي الألباب) أي العقول السليمة الخالصة (لعلكم تفلحون) تفوزون وتنجون.

ص: 60

(يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء) لا حاجة لكم بالسؤال عنها ولا هي مما يعنيكم في أمر دينكم، وفي أشياء مذاهب للنحاة.

(أحدها) أنه اسم جمع من لفظ شيء فهو مفرد لفظاً جمع معنى، وهو رأي الخليل وسيبويه.

(الثاني) وبه قال الفراء أنها جمع شيء كهين.

(الثالث) وبه قال الأخفش أنهما جمع شيء بِزِنَة فلس.

(الرابع) وهو قول الكسائي وأبى حاتم أنه جمع شيء كبيت، واعترض الناس عليه.

(الخامس) أن وزنه أفعلاء أيضاً جمع لشيء بزنة ظريف.

(إن تبد) أي إذا بدت وظهرت (لكم) وكلفتم بها (تسؤكم) أي ساءتكم لما فيها من المشقة، نهاهم الله تعالى عن كثرة مسائلهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإن السؤال عما لا يعني ولا تدعو إليه حاجة قد يكون سبباً لإيجابه على السائل وعلى غيره.

وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس قال: خطب النبي صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط فقال رجل: من أبي! فقال: فلان فنزلت هذه الآية لا تسألوا عن أشياء، وأخرج البخاري وغيره نحوه عن ابن عباس.

ص: 60

وقد بين هذا السائل في روايات أخر أنه عبد الله بن حذافة، وأنه قال: من أبي؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم أبوك حذافة.

وأخرج ابن حبان عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فقال: " يا أيها الناس إن الله قد افترض عليكم الحج، فقام رجل فقال أكل عام يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسكت عنه فأعادها ثلاث مرات فقال لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت ما قمتم بها، ذروني ما تركتكم فإنما هلك الذين قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم "(1) وذلك أن هذه الآية أعني لا تسألوا عن أشياء نزلت في ذلك، وأخرجه أيضاً جماعة من أهل الحديث، وكل هؤلاء صرحوا في أحاديثهم أن الآية نزلت في ذلك.

وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سعد بن أبي وقاص قال: كانوا يسألون عن الشيء وهو لهم حلال فما زالوا يسألون حتى يحرم عليهم وإذا حرم عليهم وقعوا فيه.

وأخرج ابن المنذر وهو في مسلم عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " أعظم المسلمين في المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرم فيحرم من أجل مسألته "(2).

وأخرج ابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه عن أبي ثعلبة الخشني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " إن الله حد حدوداً فلا تعتدوها. وفرض لكم فرائض فلا تضيعوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وترك أشياء في غير نسيان ولكن رحمة لكم فاقبلوها ولا تبحثوا عنها "(3)، وعن ابن عباس قال: لا تسألوا عن أشياء قال البحيرة والسائبة والوصيلة والحام.

(1) الترمذي كتاب التفسير سورة 5 - 15 - النسائي كتاب المناسك الجزء1.

(2)

البخاري كتاب الاعتصام الباب 2 - مسلم كتاب الفضائل 132 - 133.

(3)

المستدرك كتاب الأطعمة 4/ 115.

ص: 61

(وإن تسألوا عنها) الضمير يعود على نوع الأشياء المنهيّ عنها لا عليها أنفسها قاله ابن عطية ونقله الواحدي عن صاحب النظم ويحتمل أن يعود عليها أنفسها قاله الزمخشري بمعناه (حين ينزل القرآن) أي مع وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهركم ونزول الوحي عليه (تبد) أي تظهر (لكم) بما يجيب به عليكم النبي صلى الله عليه وسلم أو ينزل به الوحي فيكون ذلك سبباً للتكاليف الشاقة، وإيجاب ما لم يكن واجباً، وتحريم ما لم يكن محرماً بخلاف السؤال عنها بعد انقطاع الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لا إيجاب ولا تحريم يتسبب عن السؤال.

وقد ظن بعض أهل التفسير أن الشرطية الثانية فيها إباحة السؤال مع وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزول الوحي عليه فقال: إن الشرطية الأولى أفادت عدم جوازه فقال إن المعنى وإن تسألوا عن غيرها مما مست إليه الحاجة تبدو لكم بجواب رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها وجعل الضمير في عنها راجعاً إلى أشياء غير الأشياء المذكورة، وجعل ذلك كقوله:(ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين) وهو آدم ثم قال: (ثم جعلناه نطفة) أي ابن آدم، وقد أطال سليمان الجمل الكلام على هذه الآية بذكر أقوال الكرخي والخازن والقرطبي والجرجاني لا نطول بذكرها.

(عفا الله عنها) أي عن ما سلف من مسألتكم فلا تعودوا إلى ذلك، وقيل المعنى أن تلك الأشياء التي سألتم عنها هي مما عفا عنه ولم يوجبه عليكم فكيف تتسببون بالسؤال لإيجاب ما هو عفو من الله غير لازم، وضمير عنها عائد إلى المسألة على الأول وإلى أشياء على الثاني، على أن تكون جملة عفا الله عنها صفة ثالثة لأشياء والأول أولى، لأن الثاني يستلزم أن يكون ذلك المسؤول عنه قد شرعه الله ثم عفا عنه.

وممكن أن يقال: إن العفو بمعنى الترك أي تركها الله ولم يذكرها بشيء فلا تبحثوا عنها، وهذا معنى صحيح لا يستلزم ذلك اللازم الباطل (والله غفور حليم) جاء سبحانه بصيغة المبالغة ليدل ذلك على أنه لا يعاجل من عصاه بالعقوبة لكثرة مغفرته وسعة حلمه.

ص: 62

قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102) مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103)

ص: 63

(قد سألها) الضمير يرجع إلى المسألة المفهومة من (لا تسألوا) لكن ليست هذه المسألة بعينها بل مثلها في كونها لا حاجة إليها ولا توجبها الضرورة الدينية قاله الزمخشري، ونحا ابن عطية منحاه، قال الشيخ ولا يتجه قولهما إلا على حذف مضاف، وقد صرح به بعض المفسرين أي سأل أمثالها أو أمثال هذه السؤالات.

(قوم من قبلكم) كما سأل قوم صالح الناقة وسأل قوم عيسى المائدة وسأل قوم موسى رؤية الله جهرة (ثم) لم يعملوا بها بل (أصبحوا بها كافرين) أي ساترين لها تاركين للعمل بها فإن بني إسرائيل كانوا يستفتون أنبياءهم في أشياء فإذا أمروا بها تركوها فهلكوا.

ولا بد من تقييد النهي في هذه بما لا تدعو إليه حاجة كما قدمنا لأن الأمر الذي تدعو إليه الحاجة في أمور الدين والدنيا قد أذن الله بالسؤال عنه فقال فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون وقال صلى الله عليه وسلم: " قاتلهم الله ألا سألوا فإنما شفاء العي السؤال "(1).

(1) أبو داود كتاب الطهارة الباب 125 - أحمد بن حنبل 1/ 280.

ص: 63

(ما جعل الله من بحيرة) هذا كلام مبتدأ يتضمن الرد على أهل الجاهلية فيما ابتدعوه وجعل ههنا بمعنى سمي كما قال تعالى: (إنا جعلناه قرآناً عربياً) ويتعدى لمفعولين أحدهما محذوف والتقدير ما سمى الله حيواناً بحيرة قاله أبو البقاء، وقال ابن عطية والزمخشري وأبو البقاء: إنها تكون بمعنى شرع

ص: 63

ووضع أي ما شرع الله ولا أمر بها، وقال ابن عطية، وجعل في هذه الآية لا تكون بمعنى خلق لأن الله خلق هذه الأشياء كلها، ولا بمعنى صير لأن التصيير لا بد له من مفعول ثان فمعناه ما بين الله ولا شرع.

ومنع الشيخ هذه التقولات كلها بأن جعل لم يعد اللغويون من معانيها شرع وخرج الآية على التصيير ويكون المفعول الثاني محذوفاً أي ما صير الله بحيرة مشروعة، وقال أبو السعود: معنى ما جعل ما شرع وما وضع ولذلك عدي إلى مفعول واحد هو بحيرة وما عطف عليها، ومن مزيدة لتأكيد النفي فإن الجعل التكويني كما يجيء تارة متعدياً إلى مفعولين وأخرى إلى واحد كذلك الجعل التشريعي يجيء مرة متعدياً إلى مفعولين كما في قوله تعالى:(جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس) وأخرى إلى واحد كما في الآية الكريمة انتهى.

وبحيرة فعيلة بمعنى مفعولة كالنطيحة والذبيحة مأخوذة من البحر وهو شق الأذن،، قال ابن سيد الناس: البحيرة هي التي خليت بلا راع قيل هي التي يجعل درها للطّواغيت فلا يحتلبها أحد من الناس وجعل شق أذنها علامة لذلك، قاله سعيد بن المسيب.

قال الشافعي: كانوا إذا نتجت الناقة خمسة أبطن إناثا بحرت أذنها فحرمت، وبه قال أبو عبيدة زاد: فلا تركب ولا تحلب ولا تطرد عن مرعى ولا ماء، وإذا لقيها الضعيف لم يركبها، وقيل إن الناقة إذا نتجت خمسة أبطن فإن كان الخامس ذكراً بحروا أذنه فأكله الرجال والنساء، وإن كان الخامس أنثى بحروا أذنها وكانت حراماً على النساء لحمها ولبنها.

وقيل إذا نتجت خمسة أبطن من غير تقييد بالإناث شقوا أذنها وحرموا ركوبها ودرها وقيل غير ذلك، ووجه الجمع بين هذه الأقوال أن العرب كانت تختلف أفعالها في البحيرة.

(ولا) أي وما جعل من (سائبة) أى مسيبة مخلاة وهي الناقة تسيب

ص: 64

أو البعير يسيب نذر على الرجل إن سلمه الله من مرض أو بلغه منزله فلا يحبس عن رعي ولا ماء ولا يركبه أحد، قاله أبو عبيدة، وقيل هي التي تسيب لله فلا قيد عليها ولا راعي لها، وقيل هي التي تابعت بين عشر إناث ليس بينهن ذكر فعند ذلك لا يركب ظهرها، ولا يجز وبرها ولا يشرب لبنها إلا الضيف قاله الفراء، وقيل كانوا يسيبون العبد فيذهب حيث يشاء لا يد عليه لأحد.

(ولا) أي وما جعل من (وصيلة) قيل هي ناقة ولدت أنثى بعد أنثى، وقيل هي الشاة كانت إذا ولدت أنثى فهي لهم وإن ولدت ذكراً فهو لآلهتهم، وإن ولدت ذكراً وأنثى قالوا وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم، وقيل كانوا إذا ولدت الشاة سبعة أبطن نظروا فإن كان السابع ذكراً ذبح فأكل منه الرجال والنساء، وإن كانت أنثى تركت في الغنم، وإن كان ذكرا وأنثى قالوا وصلت أخاها فلم يذبح لمكانها وكان لحمها حراماً على النساء إلا أن تموت فيأكلها الرجال والنساء.

وقيل: هي الناقة تبكر فتلد أنثى ثم تثنى أخرى ليس بينهما ذكر فيتركونها لآلهتهم ويقولون قد وصلت أنثى بأنثى.

(ولا) جعل من (حام) هو الفحل الحامي ظهره عن أن يركب وينتفع به، وكانوا إذا ركب ولد ولد الفحل قالوا حمى ظهره فلا يركب، وقيل هو الفحل إذا نتج من صلبه عشرة قالوا حمى ظهره فلا يركب ولا يمنع من كلأ ولا ماء، وقيل هو الفحل ينتج من بين أولاده عشر إناث رواه ابن عطية وقيل هو الفحل يولد من صلبه عشرة أبطن، وهو قول ابن عباس وابن مسعود وإليه مال أبو عبيدة والزجاج.

وقال الشافعي: إنه الفحل يضرب في مال صاحبه عشر سنين، وقال ابن دريد: هو الفحل ينتج له سبع إناث متواليات فيحمي ظهره فيفعل به ما تقدم.

ص: 65

وقد عرفت منشأ خلاف أهل اللغة في هذه الأشياء وإنه باعتبار اختلاف مذاهب العرب وآرائهم الفاسدة فيها.

وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سعيد بن المسيب قال: البحيرة التي يمنع درها للطواغيت ولا يحلبها أحد من الناس، والسائبة كانوا يسيبونها لآلهتهم لا يحمل عليها شيء، والوصيلة الناقة البكر تبكر في أول نتاج الإبل بأنثى ثم تثنى بعد بالأنثى وكانوا يسيبونها لطواغيتهم إن وصلت إحداهما بالأخرى ليس بينهما ذكر، والحامي فحل الإبل يضرب الضراب المعدود فإذا قضى ضرابه ودعوه للطواغيت وأعفوه من الحمل فلم يحمل عليه شيء وسموه الحامي.

وعن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " رأيت جهنم يحطم بعضها بعضاً ورأيت عمراً يعني عمرو بن لحي يجر قصبه أي أمعاءه وهو أول من سيب السوائب " أخرجه الشيخان (1).

(ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب) وصفهم الله سبحانه بأنهم ما قالوا ذلك إلا افتراء على الله وكذباً لا لشرع شرعه الله لهم، ولا لعقل دلهم الله عليه، وسبحان الله العظيم ما أرك عقول هؤلاء وأضعفها يفعلون هذه الأفاعيل التي هي محض الرقاعة ونفس الحمق، وهذا شأن علمائهم ورؤسائهم وكبرائهم.

(وأكثرهم) أي أراذلهم وعوامهم الذين يتبعونهم من معاصري رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما يشهد به سياق النظم (لا يعقلون) إن هذا كذب باطل وافتراء من الرؤساء على الله سبحانه حتى يخالفوهم ويهتدوا إلى الحق بأنفسهم فاستمروا في أشد التقليد، وهذا بيان لقصور عقولهم وعجزهم عن الاهتداء بأنفسهم.

(1) مسلم 901 - البخاري 584.

ص: 66