الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ
(56)
(ولا تفسدوا في الأرض) نهاهم الله سبحانه عن الفساد في الأرض بوجه من الوجوه قليلاً كان أو كثيراً، ومنه قتل الناس وتخريب منازلهم وقطع أشجارهم وتغوير أنهارهم، ومن الفساد في الأرض الكفر بالله والوقوع في معاصيه (بعد إصلاحها) أي بعد أن أصلحها الله بإرسال الرسل وإنزال الكتب وتقرير الشرائع قاله الحسن والسدي والضحاك والكلبي، وقيل بعد إصلاح الله إياها بالمطر والخصب.
(وادعوه خوفاً وطمعاً) فيه أنه يشرع للداعي أن يكون عند دعائه خائفاً وجلاً طامعاً في إجابة الله لدعائه، فإنه إذا كان عند الدعاء جامعاً بين الخوف والرجاء ظهر بمطلوبه، قال القرطبي: أمرنا الله تعالى بأن يكون العبد وقت الدعاء في حال ترقب وتخوف وأمل في الله حتى يكون الخوف والرجاء للإنسان كالجناحين للطائر يحملانه في طريق استقامته، وإذا انفرد أحدهما هلك الإنسان فيدعو الإنسان خوفاً من عقابه وطمعاً في ثوابه.
والخوف الانزعاج في الباطن من المضار التي لا يؤمن من وقوعها وقيل توقع مكروه فيما بعد والطمع توقع حصول الأمر المحبوب في المستقبل قال ابن جريج: معناه خوف العدل وطمع الفضل وقيل خوفاً من الرياء وطمعاً في الإجابة.
قال بعض أهل العلم: ينبغي للعبد أن يغلب الخوف حال حياته فإذا جاء الموت غلب الرجاء قال صلى الله عليه وآله وسلم: لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى، أخرجه مسلم (1)، والآية الأولى في بيان شرط
(1) مسلم/2877.
صحة الدعاء والثانية في بيان فائدة الدعاء.
(إن رحمة الله قريب من المحسنين) هذا إخبار من الله سبحانه بأن رحمته قريبة من عباده المحسنين بأي نوع من الأنواع كان إحسانهم، وفي هذا ترغيب للعباد إلى الخير وتنشيط لهم، فإن قرب هذه الرحمة التي يكون بها الفوز بكل مطلب مقصود لكل عبد من عباد الله.
وقد اختلف أئمة اللغة والإعراب في وجه تذكير خبر رحمة الله حيث قال (قريب) ولم يقل قريبة فقال الزجاج: إن الرحمة مؤولة بالرحم لكونها بمعنى العفو والغفران، ورجح هذا التأويل النحاس.
وقال النضر بن شميل الرحمة مصدر بمعنى الترحم، وحق المصدر التذكير، وقال الأخفش: أراد: بالرحمة هنا المطر وتذكير بعض المؤنث جائز.
وقال أبو عبيدة: المعنى مكان قريب.
قال علي بن سليمان الأخفش: وهذا خطأ ولو كان كما قال لكان قريب منصوباً، وقال الفراء: إن القريب إذا كان بمعنى المسافة فيذكر ويؤنث وإن كان بمعنى النسب فيؤنث بلا اختلاف بينهم، وروي عن الفراء أنه قال: في النسب قريبة فلان وفي غير النسب يجوز التذكير والتأنيث يقال دارك منا قريب، وفلانة منا قريب، قال الله تعالى:(وما يدريك لعل الساعة تكون قريباً).
وروي عن الزجاج أنه خطأ الفراء فيما قاله وقال: إن سبيل الذكر والمؤنث أن يجريا على أفعالهما، وقيل: إنه لما كان تأنيث الرحمة غير حقيقي جاز في خبرها التذكير، ذكر معناه الجوهري، وأصل الرحمة تقتضي الإحسان إلى المرحوم وتستعمل تارة في مجرد الرقة وتارة في الإحسان المجرد عن الرقة. وإذا وصف بها الباري يراد بها الإحسان فقط.
وقيل هي إرادة إيصال الخير والنعمة على عباده، فعلى الأول تكون الرحمة من صفات الأفعال وعلى الثاني من صفات الذات، قال سعيد بن جبير: الرحمة ههنا الثواب فرجع النعت إلى المعنى دون اللفظ.
وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)
(و) قوله (هو الذي يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته) يتضمن ذكر نعمة من النعم التي أنعم بها على عباده مع ما في ذلك من الدلالة على وحدانيته وثبوت إلهيته، ورياح جمع ريح وأصل ريح روح وقرئ " نشراً " بضم النون والشين جمع ناشر على معنى النسب أي ذات نشر، وقرئ بضم النون وإسكان الشين وبفتح النون وإسكان الشين.
ومعنى هذه القراآت يرجع إلى النشر الذي هو خلاف الطي، فكأن الريح مع سكونها كانت مطوية ثم ترسل من طيها فتصير كالمنفتحة، وقال أبو عبيدة: معناه متفرقة في وجوهها على معنى ينشرها ههنا وههنا.
وقيل هي الريح الطيبة الهبوب تهب من كل ناحية. وقيل يقال أنشر الله الريح بمعنى أحياها، وقال الفراء: النشر الريح اللينة التي تنشر السحاب، وقال ابن الأنباري: هي المنتشرة الواسعة الهبوب، وقرئ بشراً بالموحدة وإسكان الشين جمع بشير أي الرياح تبشر بالمطر ومثله قوله تعالى (وهو الذي يرسل الرياح مبشرات) والمراد بالرحمة المطر أي قدام رحمته.
والمعنى أنه يرسل الرياح ناشرات أو مبشرات بين يدي المطر، والريح هو الهواء المتحرك يمنة ويسرة وجمعه الرياح وهي أربعة، الصباء وهي الشرقية تثير السحاب، والدبور وهي الغربية تفرقه، والشمال تجمعه وهي التي تهب من تحت القطب الشمالي، والجنوب تدرسه وهي قبلية.
عن ابن عمر: أن الرياح ثمان أربع منها عذاب وهي القاصف
والعاصف والصرصر والعقيم، وأربع منها رحمة وهي الناشرات والمبشرات والمرسلات والذاريات قال كعب: لو حبس الله الريح عن عباده ثلاثة أيام لأنتن أكثر أهل الأرض.
(حتى) غاية لقوله يرسل (إذا أقلت سحاباً ثقالاً) حقيقة أقله جعله قليلاً أو وجده قليلاً ثم استعمل بمعنى حمله، لأن الحامل يستقل ما يحمله، ومنه المقل بمعنى الحامل، واشتقاق لإقلال من القلة فإن من يرفع شيئاً يراه قليلاً يقال أقل فلان الشيء حمله ورفعه، والسحاب اسم جنس جمعي يذكر ويؤنث تصح مراعات لفظه ومراعاة معناه، وهو الغيم فيه ماء أو لا سمي سحاباً لانسحابه في الهواء، والمعنى إذا حملت الرياح سحاباً ثقالاً بالماء الذي صارت تحمله.
(سقناه) أي السحاب وفيه التفات عن الغيبة في قوله هو الذي يرسل (لبلد ميت) أي مجدب ليس فيه نبات لعدم الماء، يقال سقته لبلد كذا وإلى بلد كذا، وقيل لأجل بلد ميت، قاله الزمخشري، وجعلها لام العلة ولا يظهر بل هي لام التبليغ كقولك قلت لك.
قال أبو حبان: فرق بين قولك سقت لك مالاً، وسقت لأجلك فإن الأول معناه أوصلته لك وبلغتكه، والثاني لا يلزم منه وصوله إليك، والبلد هو الموضع العامر من الأرض، وقال الأزهري: عامر أو غير عامر خال أو مسكون، والطائفة منها بلدة والجمع بلاد، وزاد غيره والمفازة تسمى بلدة لكونها مسكن الوحش والجن، والبلد يذكر ويؤنث والجمع بلدان.
(فأنزلنا به الماء) أي بالبلد الذي سقناه لأجله قاله الزجاج وابن الأنباري وهذا هو الظاهر، وقيل أنزلنا بالسحاب الماء الذي تحمله أو فأنزلنا بالريح المرسلة بين يدي المطر الماء، وقيل: إن الباء هنا بمعنى من أي فأنزلنا منه
الماء، وقيل: إنها سببية أي فأنزلنا الماء بسبب السحاب، وقيل يعود على السوق المفهوم من الفعل أي بسبب سوق السحاب وهو ضعيف لعود الضمير على غير مذكور مع إمكان عوده على المذكور.
(فأخرجنا به) أي بالماء أو بذلك البلد الميت، والأول أولى بل لا ينبغي أن يعدل عنه (من كل الثمرات) أي من جميع أنواعها، ومن تبعيضيه أو ابتدائية (كذلك) أي مثل إخراج الثمرات (نخرج الموتى) من القبور يوم حشرهم بعد فنائهم ودروس آثارهم، والتشبيه في مطلق الإخراج من العدم.
وهذا رد على منكري البعث ومحصله أن من قدر على إخراج الثمر الرطب من الخشب اليابس، قادر على إحياء الموتى من قبورهم (لعلكم تذكرون) فتعلمون عظيم قدرة الله وبديع صنعته، وتؤمنون بأنه قادر على بعثكم كما قدر على إخراج الثمرات التي تشاهدونها، والخطاب لمنكري البعث.
(والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه) أي التربة الطيبة السهلة السمحة يخرج نباتها بإذن الله وتيسيره خروجاً حسناً تاماً وافياً، وخص خروج نبات الطيب بقوله (بإذن ربه) على سبيل المدح والتشريف وإن كان كل من النباتين يخرج بإذنه تعالى، قاله أبو حيان في النهر، والمعنى بمشيئته وعبر به عن كثرة النبات وحسنه وغزارة نفعه لأنه أوقعه في مقابلة قوله:
(والذي خبث) أي والتربة الخبيثة السبخة (لا يخرج) نباتها (إلا نكداً) أي قليلاً لا خير فيه، وقيل عسراً بمشقة وكلفة، يقال نكد نكداً من باب تعب فهو نكد تعسر، ونكد العيش نكداً اشتد وعسر، وفي القاموس ونكد عيشهم كفرح اشتد وعسر، والبئر قل ماؤها ونكد زيد حاجة عمرو كنصر منعه إياها، ورجل نكد شؤم عسر، وقوم أنكاد ومناكيد والنكد بالضم قلة العطاء ويفتح.
وقيل معنى الآية التشبيه، شبه تعالى السريع الفهم بالبلد الطيب، والبليد بالبلد الخبيث ذكره النحاس، وقيل هذا مثل للقلوب فشبه القلب القابل للوعظ بالبلد الطيب، والنابي عنه بالبلد الخبيث قاله الحسن، وقيل هو مثل لقلب المؤمن والمنافق قاله قتادة، وقيل هو مثل للطيب والخبيث من بني آدم قاله مجاهد.
عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله تعالى بها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأً، فذلك من فقه في دين الله عز وجل ونفعه ما بعثني الله تعالى به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله تعالى الذي أرسلت به " (1) أخرجاه في الصحيحين، وليس في هذا ما يدل على أنه السبب في نزول الآية.
(كذلك) أي مثل ذلك التصريف (نصرف الآيات لقوم يشكرون) الله ويعترفون بنعمته وينتفعون بسماع القرآن.
(1) مسلم/2282 - البخاري/68.
ومعناه أن الناس مثل الأرض.
النوع الأول: من الناس: يبلغه الهدى والعلم فيحفظه فيحيى قلبه ويعمل به ويعلمه غيره فينتفع وينفع.
والنوع الثاني: من الناس: لهم قلوب حافظة ولكن ليست لهم أفهام ثاقبة ولا رسوخ لهم في العلم يستنبطون به المعاني والأحكام وليس عندهم اجتهاد في الطاعة والعمل به فهم يحفظونه حتى يأتي طالب محتاج متعطش لما عندهم من العلم أهل للنفع والانتفاع فأخذه منهم فينتفع به فهؤلاء نفعوا بم أبلغهم.
النوع الثالث: ليس لهم قلوب حافظة ولا أفهام واعية ..
لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60)
(لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه) لما بين الله سبحانه كمال قدرته وبديع صنعته في الآيات السابقة ذكر هنا أقاصيص الأمم وما فيها من تحذير الكفار ووعيدهم لتنبيه هذه الأمة على الصواب، وأن لا يقتدوا بمن خالف الحق من الأمم السالفة، واللام جواب قسم محذوف أي والله لقد أرسلنا نوح ابن لمك بن متوشلخ.
ومعنى أرسلنا بعثنا، وكان نوح نجاراً بعثه الله وهو ابن أربعين سنة، وقيل خمسين سنة، وقيل مائتين وخمسين سنة، وقيل ابن مائة سنة وهو أول الرسل إلى أهل الأرض بعد آدم.
أخرج أبو حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه وابن عساكر عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: [أول نبي أرسل نوح] قال يزيد الرقاشي إنما سمي نوحاً لطول ما ناح على نفسه (1)، وكان اسمه عبد الغفار بن لمك، واختلف في سبب نوحه فقيل لدعوته على قومه بالهلاك. وقيل لمراجعته ربه في شأن ابنه كنعان وقيل لأنه مر بكلب مجذوم فقال له إخسأ يا قبيح، فأوحى الله تعالى إليه أعبتني أم عبت الكلب.
وقوم الرجل أقرباؤه الذين يجتمعون في حد واحد وقد يقيم الرجل بين الأجانب فيسميهم قومه مجازاً للمجاورة، وفي التنزيل (قال يا قوم اتبعوا
(1) صحيح الجامع الصغير 2582. رواه الديلمي 1/ 1/9 وابن عساكر 17/ 326/2 ومسلم 1/ 327
والترمذي/2436 برواية " يا نوح أنت أول الرسل على الأرض " وقال حديث حسن صحيح.
المرسلين) وكان مقيماً بينهم ولم يكن منهم، وقيل كانوا قومه قال ابن عباس: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق، وقد تقدم ذكر نوح في آل عمران فأغنى عن الإعادة هنا.
وما قيل: إن إدريس قبل نوح فقال ابن العربي: إنه وهم، قال المازري: فإن صح ما ذكره المؤرخون كان محمولاً على أن إدريس كان نبياً غير مرسل.
(فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) أي اعبدوه لأنه لم يكن لكم إله غيره حتى يستحق منكم أن يكون معبوداً (إني أخاف عليكم) إن عبدتم غيره (عذاب يوم عظيم) جملة متضمنة لتعليل الأمر بالعبادة والمراد عذاب يوم القيامة أو عذاب الطوفان، وإنما قال أخاف على الشك وإن كان على يقين وجزم من حلول العذاب بهم إن لم يؤمنوا به لأنه لم يعرف وقت نزول العذاب بهم أيعاجلهم أم يتأخر عنهم العذاب إلى يوم القيامة.
(قال الملأ من قومه) الملأ أشراف القوم ورؤساؤهم، وقيل هم الرجال سموا بذلك لملأتهم بما يلتمس عندهم من المعروف وجودة الرأي أو لأنهم يملؤون العيون أبهة، والصدور هيبة، والجمع إملاء مثل سبب وأسباب وقد تقدم بيانه في البقرة.
(إنا لنراك في ضلال مبين) الضلال العدول عن طريق الحق والذهاب عنه يقال ضل الرجل الطريق وضل عنه يضل من باب ضرب ضلالاً وضلالة زل عنه فلم يهتد إليه فهو ضال هذه لغة نجد، وهي الفصحى، وبها جاء القرآن في قوله:[إن ضللت فإنما أضل على نفسي]، وفي لغة لأهل العالية من باب تعب.
والأصل في الضلال الغيبة ومنه قيل للحيوان الضائع ضالة بالهاء للمذكر والمؤنث، والجمع الضوال مثل دابة ودواب أي إنا لنراك في دعائك إلى عبادة الله وحده في ضلال عن طريق الحق وخطأ وزوال عنه بين، والرؤية قلبية.
قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62)
(قال يا قوم ليس بي ضلالة) كما تزعمون، وهي أعم من الضلال فنفيها أبلغ من نفيه (ولكني رسول) جاءت لكن هنا أحسن مجيء لأنها بين نقيضين لأن الإنسان لا يخلو من أحد شيئين، ضلال وهدى، والرسالة لا تجامع الضلال.
و (من رب العالمين) صفة لرسول، ومن لابتداء الغاية المجازية أي أرسلني لسوق الخير إليكم ودفع الشر عنكم، نفى عن نفسه الضلالة وأثبت لها ما هو أعلى منصب وأشرف رفعة وهو أنه رسول الله إليهم.
(أبلغكم رسالات ربي) جمع الرسالة لاختلاف أوقاتها ولتنوع معانيها أو لأن المراد بها المرسل به، وهو يتعدد أي ما أرسله الله به إليهم مما أوحاه إليه (وأنصح لكم) يقال نصحته ونصحت له، وفي زيادة اللام دلالة على المبالغة في امحاض النصح، قال الأصمعي: الناصح الخالص من الغل وكل شيء خالص فقد نصح، فمعنى أنصح هنا أخلص النية لكم عن شوائب الفساد والاسم النصيحة، وقيل النصح تحري قول أو فعل فيه صلاح للغير، وقيل إرادة الخير لغيرك مما تريده لنفسك أو النهاية في صدق العناية.
(و) جملة (أعلم من الله ما لا تعلمون) مقررة لرسالته ومبينة لمزيد علمه وأنه يختص بعلم الأشياء التي لا يعلمونها بإخبار الله له بذلك، ومنها قدرته الباهرة وشدة بطشه على أعدائه، وإن بأسه لا يرد عن القوم المجرمين.
أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64) وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66)
(أوعجبتم) الاستفهام للإنكار والواو للعطف على مقدر ينسحب عليه الكلام كأنه قبل استبعدتم أو أكذبتم أو أنكرتم وعجبتم من (أن جاءكم ذكر) أي وحي ورسالة أو موعظة (من ربكم) والمراد به الكتاب الذي أنزل على نوح وقبل المعجزة التي جاء بها نوح، والأول أولى (على) لسان (رجل منكم) أي من جنسكم تعرفونه ولم يكن ذلك على لسان من لا تعرفونه أو لا تعرفون لغته، وقيل على بمعنى مع، قال الفراء.
(لينذركم) به علة للمجيء (ولتتقوا) ما يخالفه. علة ثانية مرتبه على العلة قبلها (ولعلكم ترحمون) بسبب ما يفيده الإنذار لكم، والتقوى منكم من التعرض لرحمة الله سبحانه لكم ورضوانه عنكم. وهي علة ثالثة مرتبة على التي قبلها، وهذا الترتيب في آية من الحسن لأن المقصود من الإرسال الإنذار ومن الإنذار التقوى ومن التقوى الفوز بالرحمة.
(فكذبوه) أي فبعد ذلك كذبوه ولم يعملوا بما جاء به من الإنذار، واستمروا على تكذيبه في دعوى النبوة وما نزل عليه من الوحي الذي بلغه إليهم (فأنجيناه) من الطوفان والغرق (والذين معه) من المؤمنين به المستقرين معه، قيل كانوا أربعين رجلاً وأربعين امرأة؛ وقيل كانوا تسعة. أبناؤه الثلاثة وستة من غيرهم (في الفلك) أي السفينة؛ روي أنه اتخذها في سنتين وركبها في عاشر رجب ونزل منها في عاشر محرم؛ والفلك واحد وجمع تذكر وتؤنث.
(وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا) أي استمروا على ذلك ولم يرجعوا إلى التوبة (إنهم كانوا قوماً عمين) عن الحق وفهمه قاله مجاهد أي لكونهم عمي القلب لا ينجع فيهم الموعظة ولا يفيدهم التذكير، قال ابن عباس عمين كفاراً.
قال الزجاج: عموا عن الحق والإيمان يقال رجل عم في البصيرة؛ وأعمى في البصر، قاله الليث: وقيل هما بمعنى، وقال مقاتل: عموا عن نزول العذاب بهم وهو الغرق، وعمين جمع عم صفة مشبهة لكن تصرف فيه بحذف لامه كقاض إذا جمع فأصله عميين.
قال بعضهم: عم فيه دلالة على ثبوت الصفة واستقرارها كفرح وضيق، ولو أريد الحدوث لقيل عام كما يقال فارح وضائق، وقد قرئ عامين حكاها الزمخشري
(و) أرسلنا (إلى) قوم (عاد) وهو من ولد سام بن نوح قيل هو عاد بن عوص بن أرم بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح وهي عاد الأولى.
وعاد الثانية قوم صالح، وهم ثمود، وبينهما مائة سنة (أخاهم) أي واحداً من قبيلتهم أو صاحبهم، وسماه أخاً لكونه ابن آدم مثلهم، قاله الزجاج والعرب تسمى صاحب القوم أخاهم (هوداً) هو ابن عبد الله بن رباح بن الخلود بن عاد بن عوص المذكور قاله السيوطي في التحبير.
وقال ابن إسحق: هو هود بن شالخ المذكور. والأول أولى واشتهر في ألسنة النحاة أن هوداً عربي وفيه نظر لأن الظاهر من كلام سيبويه لما عده مع نوحٍ ولوط أنه أعجمي. وكان بينه وبين نوح ثمانمائة سنة، وعاش أربعمائة وأربعاً وستين سنة.
وصرح هنا بتعيين المرسل إليهم دون ما سبق في نوح وما سيأتي في لوط لأن المرسل إليهم إذا كان لهم اسم قد اشتهروا به ذكروا به وإلا فلا. وقد امتازت عاد وثمود ومدين بأسماء مشهورة.
قال الربيع بن خثيم: كانت عاد ما بين اليمن إلى الشام مثل الذر، وقيل كانت منازل عاد بالأحقاف باليمن، والأحقاف الرمل الذي عند عمان وحضرموت.
وقال وهب: كان الرجل من عاد ستين ذراعاً بذراعهم، وكان هامة الرجل مثل القبة العظيمة وكان عين الرجل لتفرخ فيها السباع. وكذلك مناخرهم.
وقال قتادة: ذكر لنا أنهم كانوا اثني عشر ذراعاً طولاً، وعن ابن عباس: كان الرجل منهم ثمانين باعاً، وكانت البرة فيهم ككيلة البقرة والرمانة الواحدة يقعد في قشرها عشرة نفر. ولا تخلو هذه الأقاويل عن ضعف وبعد.
(قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) ولم يقل هنا فقال كما قال في قصة نوح لأن الفاء تدل على التعقيب وكان نوح مواظباً على دعوة قومه غير متوان فيها، وكان هود دون نوح في المبالغة في الدعاء، وقيل هذا على تقدير سؤال سائل قال فما قال لهم هود فقيل قال يا قوم.
(أفلا تتقون) استبعاد وإنكار أي أفلا تخافون ما نزل بكم من العذاب.
وقال في سورة هود أفلا تعقلون، ولعله خاطبهم بكل منهما وقد اكتفى بحكاية كل منهما في موطن عن حكايته في موطن آخر كما لم يذكر ههنا ما ذكر هناك من قوله (إن أنتم إلا مفترون) وقس على ذلك حال بقية ما ذكر وما لم يذكر من أجزاء القصة، بل حال نظائره في سائر القصص لا سيما في المحاورات الجارية في الأوقات المتعددة والله أعلم قاله أبو السعود.
قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69)
(قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة) هي الخفة والحمق، وقد تقدم بيانه في البقرة نسبوه إلى الخفة والطيش وقلة العقل والجهالة ولم يكتفوا بذلك حتى قالوا (وإنا لنظنك من الكاذبين) مؤكدين لظنهم كذبه فيما ادعاه من الرسالة.
(قال يا قوم ليس بي سفاهة) كما تدعون (ولكني رسول من رب العالمين) إليكم، استدرك على ما قبله باعتبار ما يستلزمه من كونه في الغاية القصوى من الرشد، فإن الرسالة من جهة رب العالمين موجبة لذلك فكأنه قيل ليس بي شيء مما تنسبوني إليه ولكني في غاية من الرشد والصدق، ولم يصرح بنفي الكذب اكتفاء بما في حيز الاستدراك، ومن لابتداء الغاية، وقد تقدم بيان معنى هذا قريباً وكذا سبق تفسير قوله.
(أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح) فيما آمركم به من عبادة الله وترك عبادة ما سواه (أمين) هو المعروف بالأمانة والثقة على ما ائتمن عليه وفيه دليل على جواز مدح الإنسان نفسه في موضع الضرورة إلى مدحها، وفي إجابة الأنبياء من ينسبهم إلى السفاهة والضلال بما أجابوه به من الكلام الصادر عن الحلم والإغضاء وترك المقابلة بما قالوا لهم مع علمهم بأن خصومهم أضل الناس وأسفههم، أدب حسن وخلق عظيم وتعليم من الله لعباده كيف يخاطبون السفهاء وكيف يغضون عنهم ويسبلون أذيال حلمهم على ما يكون منهم. ونحوه قوله تعالى (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً).
وأتى هود بالجملة الاسمية ونوح بالفعلية حيث قال: وأنصح لكم وذلك لأن صيغة الفعل تدل على تجدده ساعة بعد ساعة وكان نوح يكرر في دعائهم ليلاً ونهاراً من غير تراخ. فناسب التعبير بالفعل وأما هود فلم يكن كذلك بل كان يدعوهم وقتاً دون وقت، فلهذا عبر بالاسمية.
(أوعجبتم) من (أن جاءكم ذكر من ربكم على) لسان (رجل منكم لينذركم) بأس ربكم ويخوفكم عقابه، وقد سبق تفسيره (واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح) أي جعلهم سكان الأرض التي كانوا فيها أذكرهم الله نعمة من نعمه عليهم أو جعلهم ملوكاً. جعل الذكر للوقت والمراد ما كان فيه من الاستخلاف على الأرض لقصد المبالغة، لأن الشيء إذا كان وقته مستحقاً للذكر فهو مستحق له بالأولى.
(وزادكم في الخلق بسطة) أي طولاً في الخلق وعظم جسم وقوة زيادة على ما كان عليه آباؤهم في الأبدان، وقيل بسطة أي شدة قاله ابن عباس، وعن أبي هريرة قال: كان الرجل من قوم عاد ليتخذ المصراع من الحجارة لو اجتمع خمسمائة من هذه الأمة لم يستطيعوا أن يقلوه، وإن كان أحدهم ليدخل قدمه في الأرض فتدخل فيها.
قال السدي والكلبي: كانت قامة الطويل منهم مائة ذراع، وقامة القصير ستين، وقيل سبعين ذراعاً وقد ورد عن السلف حكايات عن عظم أجرام قوم عاد وفيها كما تقدم.
(فاذكروا آلاء الله) أي نعمه عليكم جمع إلى بكسر الهمزة وسكون اللام كحمل وأحمال أو إلى بضم الهمزة وسكون اللام كقفل وأقفال، أو إلى بكسر الهمزة وفتح اللام كضلع وأضلاع وعنب وأعناب أو إلى بفتحهما كقفا وأقفاء ومن جملتها نعمة الاستخلاف في الأرض والبسطة في الخلق وغير ذلك مما أنعم به عليهم، وكرر التذكير لزيادة التقرير (لعلكم تفلحون) إن تذكرتم ذلك لأن الذكر للنعمة سبب باعث على شكرها ومن شكر فقد أفلح.
قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71)
(قالوا) في جواب نصحه لهم (أجئتنا لنعبد الله وحده) هذا استنكار منهم لدعائه إلى عبادة الله وحده دون معبوداتهم التي جعلوها شركاء لله، وإنما كان هذا مستنكر عندهم لأنهم وجدوا آباءهم على خلاف ما دعاهم إليه فلذا قالوا (ونذر ما كان يعبد آباؤنا) أي نترك الذي كانوا يعبدونه من الأصنام وهذا داخل في جملة ما استنكروه وهكذا يقول المقلدة لأهل الاتباع، والمبتدعة لأهل السنة.
(فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين) هذا استعجال منهم للعذاب الذي كان هود يعدهم به لشدة تمردهم على الله ونكوصهم عن طريق الحق وبعدهم عن اتباع الصواب.
(قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب) جعل ما هو متوقع كالواقع تنبيهاً على تحقق وقوعه كما ذكر أئمة المعاني والبيان، وقيل معنى وقع وجب والرجس العذاب، وقيل السخط، وقيل هو هنا الرين على القلب بزيادة الكفر.
ثم استنكر ما وقع منهم من المجادلة فقال (أتجادلونني في أسماء) يعني أسماء الأصنام التي كانوا يعبدونها جعلها أسماء عارية لأن مسمياتها لا حقيقة لها بل تسميتها بالآلهة باطل، فكأنها معدومة لم توجد بل الموجود أسماؤها فقط، والاستفهام على سبيل الإنكار.
(سميتموها) أي سميتم بها معبوداتكم من جهة أنفسكم (أنتم
فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72) وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)
وآباؤكم) ولا حقيقة لذلك (ما نزل الله بها من سلطان) أي حجة تحتجون بها على ما تدعونه لها من الدعاوي الباطلة، ثم توعدهم بأشد وعيد فقال (فانتظروا إني معكم من المنتظرين) أي فانتظروا ما طلبتموه من العذاب وهو واقع بكم لا محالة ونازل عليكم بلا شك.
(فأنجيناه والذين معه برحمة منا) أخبر الله سبحانه أنه نجى هودا ومن معه من المؤمنين به من العذاب النازل بمن كفر به ولم يقبل رسالته فالمعية مجاز عن المتابعة.
أخرج ابن عساكر: لما أرسل الله الريح على عاد اعتزل هود ومن معه من المؤمنين في حظيرة ما يصيبهم من الريح إلا ما تلين عليهم الجلود وتلتذ به الأنفس وأنها لتمر بالعادي فتحمله بين السماء والأرض وتدمغه بالحجارة.
(وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا) الدابر الأصل أو الكائن خلف الشيء وهو الآخر، وإذا قطع الآخر فقد قطع ما قبله فحصل الاستئصال أي الاستيعاب بالقطع، وقد تقدم تحقيق معناه، والمعنى استأصلنا هؤلاء القوم الجامعين بين التكذيب بآياتنا وعدم الإيمان، وأراد بالآيات المعجزات الدالة على صدقه.
وعن أبي هريرة قال كان عمر هود أربعمائة سنة واثنتين وسبعين سنة، وعن علي بن أبي طالب قال: قبر هود بحضرموت في كثيب أحمر عند رأسه
سدرة، وعن عثمان بن أبي العاتكة قال: قبلة مسجد دمشق قبر هود، وقال عبد الرحمن ابن شبابة: بين الركن والمقام وزمزم قبر تسعة وتسعين نبياً، وأن قبر هود وصالح وشعيب وإسمعيل في تلك البقعة. ويروى أن كل نبي من الأنبياء إذا هلك قومه جاء هو والصالحون من قومه معه إلى مكة يعبدون الله حتى يموتوا بها، والله أعلم بصحة ذلك.
(وما كانوا مؤمنين) مصدقين بالله ولا برسوله هود عليه السلام، وقد أطال القوم في بيان قصة قومه وهلاكهم، وإجمال القرآن يغني عن تفصيل لا يسند.
(وإلى ثمود أخاهم صالحاً) ثمود قبيلة سموا باسم أبيهم وهو ثمود بن عاد ابن رام بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح وصالح هو ابن عبيد بن اسف ابن ماسح بن عبيد بن حاذر بن ثمود، وكانت مساكن ثمود " الحجر " بين الحجاز والشام إلى وادي القرى وما حوله، قال أبو عمرو بن العلاء: سميت ثمود لقلة مائها، والثمد الماء القليل، وكان صالح أخاهم في النسب، لا في الدين وكان بينه وبين هود مائة سنة، وعاش صالح مائتين وثمانين سنة كما في التحبير.
(قال يا قوم اعبدوا الله) أي وحدوه ولا تشركوا به شيئاً (ما لكم من إله غيره) يستحق أن يعبد سواه وقد تقدم تفسيره في قصة نوح (قد جاءتكم بينة من ربكم) أي معجزة ظاهرة وبرهان جلي وهي إخراج الناقة من الحجر الصلد، عن أبي الطفيل قال: قالت ثمود لصالح: ائتنا بآية إن كنت من الصادقين،
قال: أخرجوا فخرجوا إلى هضبة (1) من الأرض فإذا هي تمخض كما تمخض الحامل ثم أنها انفرجت فخرجت الناقة من وسطها فقال لهم صالح.
(هذه ناقة الله لكم آية) وليس هذا أول خطاب لهم بل بعد ما نصحهم كما قص في سورة هود من قوله (هو أنشاكم من الأرض واستعمركم فيها) الآيات، وهذه الآية مشتملة على بيان البينة المذكورة، وفي إضافة الناقة إلى الله تشريف لها وتكريم، وكونها آية على صدق صالح أنها خرجت من صخرة في الجبل لا من ذكر ولا أنثى، وكمال خلقها من غير حمل ولا تدريج وقيل غير ذلك.
(فذروها تأكل في أرض الله) تفريع على كونها آية من آيات الله فإن ذلك يوجب عدم التعرض لها أي دعوها فهي ناقة الله والأرض أرضه، فلا تمنعوها مما ليس لكم ولا تملكونه.
(ولا تمسوها بسوء) أي لا تتعرضوا لها بوجه من الوجوه التي تسوءها، نهى عن المس الذي هو مقدمة الإصابة بالسوء الشامل لأنواع الأذى (فيأخذكم عذاب أليم) أي شديد الألم بسبب عقرها وأذاها ومنعها من الرعي.
(1) الهضبة الجبل المنبسط على وجه الأرض إ هـ منه.