المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ - فتح البيان في مقاصد القرآن - جـ ٤

[صديق حسن خان]

الفصل: وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ

وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ‌

(134)

(ولما وقع عليهم الرجز) أي العذاب بهذه الأمور التي أرسلها الله عليهم، وقيل كان هذا الرجز طاعوناً مات به من القبط في يوم واحد سبعون ألفاً، قاله سعيد بن جبير، وعلى هذا هو العذاب السادس بعد الآيات الخمس التي تقدمت، وعن أسامة بن زيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " الطاعون رجز أرسل على طائفة من بني إسرائيل أو على من كان قبلكم فإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه "، أخرجه الشيخان. (1)

(قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك) أي بما أوصاك أو استودعك من العلم أو بما اختصك به من النبوة أو بما نبأك أو بما عهد إليك أن تدعوه فيجيبك. والباء متعلقة بادع على معنى أسعفنا إلى ما نطلب من الدعاء بحق ما عندك من عهد الله أو أدع لنا متوسلاً إليه بعهده عندك، وقيل إن الباء للقسم وجوابه لنؤمنن الآتي أقسمنا بعهد الله عندك.

(لئن كشفت عن الرجز لنؤمنن لك) أي لنصدقن بما جئت به

(1) مسلم 2218 - البخاري 1631.

ص: 442

فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136)

(ولنرسلن معك بني إسرائيل) أي لنخلينهم حتى يذهبوا حيث شاءوا، وقد كانوا حابسين لبني إسرائيل عندهم يمتهنونهم في الأعمال فوعدوه بإرسالهم معه.

ص: 443

(فلما كشفنا عنهم الرجز) بدعوة موسى عليه السلام (إلا أجل هم بالغوه) أي الأجل المضروب لإهلاكهم بالغرق لا رفعاً مطلقاً (إذا هم ينكثون) أي ينقضون ما عقدوه على أنفسهم، وإذا هي الفجائية أي فاجأوا النكث وبادروه، وأصل النكث من نكث الصوف ليغزله ثانياً فاستعير لنقض العهد بعد إحكامه وإبرامه، قاله زاده.

ص: 443

(فانتقمنا) أي أردنا الإنتقام (منهم) لما نكثوا بسبب ما تقدم لهم من الذنوب المتعددة وأصل الانتقام في اللغة سلب النعمة بالعذاب، وقيل هو ضد الأنعام كما أن العقاب ضد الثواب (فأغرقناهم في اليم) أي في البحر، قيل هو الذي لا يدرك قعره وقيل هو لجته وأوسطه، قال الأزهري: اليم معروف لفظة سريانية عربتها العرب ويقع على البحر الملح والعذب، والمراد به نيل مصر وهو عذب.

(بأنهم كذبوا بآياتنا) تعليل للإغراق (وكانوا عنها غافلين) أي عن النقمة المدلول عليها بإنتقمنا أو عن الآيات التي لم يؤمنوا بها بل كذبوا بها فكأنهم في تكذيبهم بمنزلة الغافلين عنها والثاني أولى لأن الجملتين تعليل للإغراق والمراد بالغفلة عدم التدبر، وهذا مؤاخذ به فسقط ما يقال إن الغفلة لا مؤاخذة بها، وقد تستعمل الغفلة في ترك الشيء إهمالاً وإعراضاً، في القاموس غفل عنه غفولاً تركه وسها عنه.

ص: 443

وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137) وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138)

ص: 444

(وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون) يعني بني إسرائيل الذين كانوا يذلون ويمتهنون بالخدمة لفرعون وقومه (مشارق الأرض) هي مصر والشام (ومغاربها) المراد جهات مشرقها وجهات مغربها، وهي التي كانت لفرعون وقومه من القبط فملكها بنو إسرائيل بعد الفراعنة والعمالقة وتصرفوا فيها شرقاً وغرباً كيف شاءوا.

وقال الزجاج: المراد جميع الأرض ونواحيها لأن داود وسليمان كانا من بني إسرائيل وقد ملكا الأرض، وقيل أراد الأرض المقدسة وهو بيت المقدس وما يليه من الشرق والغرب.

(التي باركنا فيها) بإخراج الزرع والثمار منها على أتم ما يكون وأنفع ما ينفق، قال الحسن هي الشام، وعن قتادة وزيد بن أسلم نحوه، وقال عبد الله بن شوذب: هي فلسطين، وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل الشام أحاديث ليس هذا موضع ذكرها.

(وتمت) أي مضت واستمرت على التمام (كلمة ربك) هي قوله تعالى (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين) وهذا وعد من الله سبحانه بالنصر والظفر بالأعداء والاستيلاء على

ص: 444

أملاكهم فتمامه مجاز عن إنجازه، و (الحسنى) صفة للكلمة وهي تأنيث الأحسن (على بني إسرائيل بما صبروا) أي تمام هذه الكلمة عليهم بسبب صبرهم على ما أصيبوا به من فرعون وقومه، وقال مجاهد: تمام الكلمة ظهور قوم موسى على فرعون وتمكين الله لهم في الأرض وإهلاك عدوهم وما ورثهم منها.

(ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه) التدمير الإهلاك أي أهلكنا ما كانوا يصنعون في أرض مصر من العمارات وبناء القصور. وفيه أربعة أوجه من الإعراب، ذكرها السمين (وما كانوا يعرشون) من الجنات والثمار والأعناب، قاله الحسن. ومنه قوله تعالى (وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات) وقيل يسقفون من ذلك البنيان، وقيل المعنى ما كانوا يرفعون من الأبنية المشيدة في السماء. يقال عرش يعرش أي بنى يبني. قال مجاهد: ما كانوا يبنون من البيوت والقصور، وهذا آخر قصة فرعون وقومه.

ص: 445

(وجاوزنا ببني إسرائيل البحر) هذا شروع في بيان ما فعله بنو إسرائيل بعد الفراغ مما فعله فرعون وقومه، ومعنى جاوزنا جزناه بهم وقطعنا، يقال جاز الوادي وجاوزه إذا قطعه وخلفه وراء ظهره وهو كقوله (وإذ فرقنا بكم البحر) قال الكلبىِ: عبر موسى البحر يوم عاشوراء بعد مهلك فرعون وقومه فصامه شكراً لله تعالى.

(فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم) يقال عكف يعكف ويعكف بالضم والكسر بمعنى أقام على الشيء ولزمه، والمصدر منهما عكوف، قيل هؤلاء القوم الذي أتاهم بنو إسرائيل هم من لحم وجذام كانوا نازلين بالرقة يعني ساحل البحر كانت أصنامهم تماثيل بقر من نحاس، فلما كان عجل السامري شبه لهم أنه من تلك البقر، فذلك كان أول شأن العجل لتكون لله عليهم الحجة فينتقم منهم بعد ذلك. وقيل كانوا من الكنعانيين الذين أمر موسى بقتالهم.

ص: 445

(قالوا) أي بنو إسرائيل عند مشاهدتهم لتلك التماثيل (يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة) أي صنماً نعبده كائناً كالذي لهؤلاء القوم، قال البغوي: لم يكن ذلك شكاً من بني إسرائيل في توحيد الله وإنما المعنى اجعل لنا شيئاً نعظمه ونتقرب بتعظيمه إلى الله، وظنوا أن ذلك لا يضر، وفيه بعد وقيل: إنهم توهموا أنه يجوز عبادة غير الله فحملهم جهلهم على ما قالوا، قال الكرخي: وعلى كل فالقائل للقول المذكور بعضهم لا كلهم إذ كان من جملة من معه السبعون الذين اختارهم موسى للميقات ويبعد منهم مثل هذا القول.

(قال) أي أجاب عليهم موسى (إنكم قوم تجهلون) وصفهم بالجهل لأنهم قد شاهدوا من آيات الله ما يزجر من له أدنى علم عن طلب عبادة غير الله ولكن هؤلاء القوم أعني بني إسرائيل أشد خلق الله عناداً وجهلاً وتلوناً، وقد سلف في سورة البقرة بيان ما جرى منهم من ذلك.

وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والترمذي وصححه والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي واقد الليثي قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حنين فمررنا بسدرة فقلت يا رسول الله اجعل لنا هذه ذات أنواط كما للكفار ذات أنواط وكان الكفار ينوطون سلاحهم بسدرة ويعكفون حولها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم الله أكبر هذا قالت بنو إسرائيل لموسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة إنكم تركبون سنن الذين من قبلكم " (1).

(1) أحمد بن حنبل 5/ 218.

ص: 446

إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)

ثم قال لهم موسى

ص: 447

(إن هؤلاء) يعني القوم العاكفين على الأصنام (متبر) التبار الهلاك وكل إناء منكسر فهو متبر أي: إن هؤلاء هالك (ما هم فيه) مدمر مكسر. والذي فيه هو عبادة الأصنام، أخبرهم بأن هذا الدين الباطل الذي هؤلاء القوم عليه هالك مدمر لا يتم منه شيء، وقال ابن عباس: متبر خسران (وباطل ما كانوا يعملون) أي ذاهب مضمحل جميع ما كانوا يعملونه من الأعمال مع عبادتهم للأصنام.

قال في الكشاف وفي إيقاع هؤلاء إسماً لإنّ وتقديم خبر المبتدأ من الجملة الواقعة خبراً لها وسم لعبدة الأصنام بأنهم هم المعرضون للتبار، وأنه لا يعدوهم البتة وأنه لهم ضربة لازب ليحذرهم عاقبة ما طلبوا ويبغض إليهم ما أحبوا.

ص: 447

(قال أغير الله أبغيكم إلهاً) الاستفهام للإنكار والتوبيخ أي كيف أطلب لكم غير الله إلهاً تعبدونه وقد شاهدتم من آياته العظام ما يكفي منه البعض والمعنى أن هذا الذي طلبتم لا يكون أبداً وإدخال الهمزة على الغير للإشعار بأن المنكر هو كون المبغي غير الله إلهاً (وهو فضلكم على العالمين) من أهل عصركم وهم القبط بما أنعم به عليكم من إهلاك عدوكم، واستخلافكم في الأرض وإخراجكم من الذل والهوان إلى العز والرفعة فكيف تقابلون هذه النعم بطلب عبادة غيره.

ص: 447

(وإذْ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب) أي اذكروا وقت

ص: 447

إنجائنا لكم من آل فرعون بعد أن كانوا مالكين لكم يستعبدونكم فيما يريدونه منكم ويمتهنونكم بأنواع الامتهان، هذا على أن هذا الكلام محكي عن موسى، وأما إذا كان في حكم الخطاب لليهود الموجودين في عصر محمد فهو بمعنى اذكروا إذ أنجينا أسلافكم حال كونهم يسومونكم سوء العذاب ويجوز أن تكون مستأنفة لبيان ما كانوا فيه مما أنجاهم منه.

(يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم) مفسرة للجملة التي قبلها أو بدل منها وقد سبق بيان ذلك (وفي ذلكم) أي هذا العذاب الذي كنتم فيه (بلاء) عليكم نعمة أو محنة (من ربكم عظيم) وقد تقدم تفسيرها في البقرة والفائدة في ذكرها في هذا الموضع أنه تعالى هو الذي أنعم عليكم بهذه النعمة فكيف يليق بكم الاشتغال بعبادة غيره حتى تقولوا اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة.

ص: 448

نهاية الجزء الرابع

تم الجزء الرابع من كتاب فتح البيان في مقاصد القرآن ويليه الجزء الخامس بأذن الله وأوله:

وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)

ص: 449